جمال زقوت عن التجربة الفلسطينية التي لا تعرف المستحيل

أصدرت “مؤسّسة الدراسات الفلسطينية” (بيروت/ رام الله) مؤخراً، مذكّرات الكاتب والناشط السياسي المناضل جمال زقوت، الموسومة بـ «غزّاوي: سرديّة الشقاء والأمل»، والتي جاءت في ثلاثمائة وتسعة وسبعون صفحة من القطع المتوسط، واحتوت على تقديم، وخمسة فصول، وملحق صور، تضمّن ستة عشر صورة تجسّد بعض مراحل حياة صاحبها. 

مذكّرات زقوت وفقاً للناشر؛ هي مراجعة لمسيرة حافلة لحياة لاجئ ومناضل من جيل النكبة في مخيّمات غزّة والشتات، يجمع فيها بين التجربة الشخصية الحميمة والمشهد العامّ، في إضاءة على تحوّلات المجتمع الغزّاوي في مراحل مفصلية أبرزها: الحياة اليوميّة في مخيّم الشاطئ في الخمسينيات بعد النزوح؛ الحكم العسكري المصري في غزّة في الحقبة الناصرية؛ بداية الاحتلال الإسرائيلي ويوميّات المقاومة التي تُكشف بعض تفاصيلها لأوّل مرّة. ويتتبّع صعود الحركة الوطنية داخل قطاع غزّة والضفّة الغربيّة، بعد خروج المقاومة من بيروت سنة 1982، سارداً فصولاً من مرحلة جديدة من النضال الوطني داخل المدن والمخيّمات والبلدات والقرى الفلسطينية مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في أواخر سنة 1987.

استعادة مكانة فلسطين في الحضارة الإنسانية

تضيء هذه المذكّرات على حياة المؤلف الدرامية في المخيّم، وفي أثناء الدراسة والنضال في القاهرة وبلغاريا، وصولاً إلى عودته إلى فلسطين ودوره في مرحلة إنشاء السلطة الفلسطينية. مروراً بتقديم شهادة تاريخية تتعلّق بدور الفصيل الذي ينتمي إليه “الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين” على الصعيد الوطني في تلك المرحلة، مستعرضاً التحدّيات التنظيمية التي واجهتها، والتي أفضت في النهاية إلى انقسامها على نفسها في بداية تسعينيات القرن المنصرم.

 في حوار “رمان الثقافية” مع صاحب المذكّرات جمال زقوت، سألناه بداية عن سيرته ومسيرته ككاتب وناشط سياسي؟

أجابنا قائلاً: ككلّ أبناء جيلي ولدوا بين النكبة وهزيمة 1967 سواء كان ذلك في مخيّمات قطاع غزّة والضفّة الغربيّة، ، بما فيها القدس، أو في مخيّمات الشتات، فقد عاش هذا الجيل سنوات الفقر والبؤس والحرمان، وعايشوا من ناحية، وربما وهم بعد لم يتعرّفوا على طفولتهم، محاولات طمس وتبديد الهوية الوطنية وإلغاء فلسطين من الوعي العامّ سواء كان في فلسطين ذاتها، أو على الصعيدين الإقليمي والدولي. كما كانوا في هذا السياق جزءاً من لبنات النهوض الأولى لمواجهة واحدة من أكبر جرائم العصر الحديث. فعشية هزيمة حزيران/ يونيو 1967 التي دفعت الفلسطيني لأخذ زمام المبادرة المباشرة لمقاومة الاحتلال وجرائمه، نشأتُ في أسرة ورثت النضال منذ ما قبل النكبة سنة 1948، وكانت العائلة جزءاً من هذا النهوض سيما في إطار امتداداتها في “عصبة التحرّر الوطني” و”حركة القوميين العرب”، اللتين كان وجودهما من خلال “الحزب الشيوعي” في قطاع غزّة، أو فصائل اليسار التي انبثقت عن “حركة القوميين”، حيث كنت محاطاً داخل الأسرة وخارجها في مدارس غوث اللاجئين بمجموعة من الشباب العاملين في قطاع التعليم، أسهموا في تشريب الوعي الوطني في إطار رؤية تقدمية مفادها، أنّ سلاح العلم يشكّل ركيزة أساسية ليس فقط لتعويض ما فقدوه من مصادر رزق بعد أن هُجّروا من أرضهم وبيارات البرتقال وكروم العنب والتين التي تميّز بها الساحل الجنوبي لفلسطين، بل وأيضاً كسلاح معرفة من أجل استعادة مكانة فلسطين في الحضارة الإنسانية بعد ما تعرّضت له من محاولات تهشيم لمكوّناتها الثقافية.

يتابع ضيفنا حديثه معنا، قائلاً: كانت تلك اللبنات الأولى التي دفعتني دوماً للمبادرة مهما كانت بسيطة، فهي وفي ظلّ الخواء الشامل الذي فُرض على القضية الفلسطينية، كانت بالتأكيد كحجر يلقى في المياه التي أريد لها أن تكون آسنة وغير قادرة على صناعة الأمل والحياة. هذا الدرس ظلّ يلازمني في تجربتي الممتدّة منذ أواسط السبعينيات في إطار فصائل العمل الوطني والديمقراطي، بالانحياز للفقراء والمهمّشين من أجل استعادة العدالة، والقناعة المطلقة في نفس الوقت بأنّ الردّ على محاولات تمزيق الهوية والكيانية الفلسطينية يستدعي دوماً وفي كلّ الظروف، استعادة الوحدة في إطار الوطنية الجامعة ومؤسّساتها وتعبيراتها الجامعة، سواء في إطار منظمة التحرير أو التجارب الكفاحية داخل الوطن المحتلّ، والتي كان أبرزها تأسيس “القيادة الوطنية الموحّدة للانتفاضة الأولى” سنة 1987.


يضيف زقوت: لفت انتباهي دوماً أنّ معظم القادة المؤسّسين، بما في ذلك الزعيم المؤسّس أبو عمار، أخذوا المبادرة وهم في سنّ الشباب، هذا ما دفعنا ولم نكن نتجاوز الثلاثينيات للمبادرة بوعي الوحدة وطبيعة اللحظة، التي كان فيها الاستقطاب مع عنصرية المحتلّين ذروته، لتأسيس “القيادة الموحّدة”، وهذه رسالة، وفي وقت تعاني فيه الأطر الوطنية من تآكل بفعل الفشل والانقسام والاستبداد، للقيادات الشبابية داخل الحركة الوطنية وخارجها من أجل استعادة زمام المبادرة، بروح الوحدة وخلاصة التجربة وبحجم التضحيات التي قدّمها شعب فلسطين، والبدء بخطوات ملموسة لإعادة بناء الحركة الوطنية، وبما يشمل كافّة التجمعات الفلسطينية، فمشروع تمزيق الهوية الوطنية ما زال حاضراً، ولا يمكن مجابهته إلّا بمشروع وطني تحرّري وديمقراطي تقدمي من كلّ الفلسطينيين في كافّة أماكن تواجدهم.

وهنا لا بدّ من تسجيل الدور المركزي الذي لعبته الشخصيات الوطنية في إطار الحركة الوطنية داخل الأرض المحتلّة، ودورها في تأسيس “الجبهة الوطنية” و”لجان التوجيه الوطني”، ومن بينها مشاركة القيادات في الانتخابات البلدية، ويحضرني هنا الدور التاريخي الذي لعبه القيادي الراحل الدكتور حيدر عبد الشافي في ترسيخ القيادة الوطنية الموحّدة ومحاولته الدؤوبة لحلّ التباينات بين مكوّناتها السياسية والتنظيمية، وحرصه الدائم على تجاوز الحسابات الفئوية التي كانت تظهرها بعض هذه المكوّنات بين فترة وأخرى. وكذلك كيف قاد د. عبد الشافي وفد فلسطين لمفاوضات مدريد-واشنطن مسلّحاً بإرادة المنتفضين، وكان أميناً على رسالة الانتفاضة التي كان شعارها وهدفها المركزي إنهاء واجتثاث الاستيطان، وكانت هذه القضية المركزية بالنسبة له، فوظيفة أيّ مفاوضات ومدى صوابها هو بالقدر الذي تفتح فيه الطريق لإنهاء الاحتلال والاستيطان، وهذا كان دوماً محلّ إجماع فلسطيني بخاصّة في الأرض المحتلّة، التي فجّرت الانتفاضة لأنها أدركت من خلال طبيعة الصراع أنّ المشروع الصهيوني ورغم كلّ مناوراته، فإنه لم يسلّم يوماً بتقرير مصير الشعب الفلسطيني بمجمل مكوّناته سواء إزاء قضية الأرض أو السيادة أو القضية الأساسية وهي قضية اللاجئين، ولهذا لم يكن بإمكان زعيم شعبي مثل الراحل حيدر عبد الشافي أن يصمت على اتّفاق أوسلو، الذي لم يحسم قضية وقف الاستيطان فأبقى ذلك الاتّفاق الباب مفتوحاً لتكريس الاستيطان والتهويد الجاريين حتّى اليوم لدرجة اعتقاد حكومات الاحتلال أنه وبفعل تآكل المرجعيات والموقف التفاوضي الفلسطيني، أن تحسم الصراع التاريخي بين الطرفين لصالحها، وهذا ما لن يمرره أبناء شعبنا الفلسطيني بأيّ حال من الأحوال.

ما هو مطلوب اليوم، هو جبل خبرة المخلصين الذين ما زالوا متمسّكين برؤية وحك حيدر عبد الشافي وإبراهيم الدقاق وكريم خلف وفهد القواسمي وبسام الشكعة، مع روح القيادات الشابّة التي لن تسمح بتمزيق الراية في دهاليز الانقسام والتقاسم الفئوي المتواطئ مع مخطّطات الاحتلال. هذا التكامل بين الخبرة وقوّة الإرادة لدى القيادات الشابّة والحراكات بكلّ مظاهرها سيُنضج عاجلاً أم آجلاً حركة وطنية جذريّة، ومن طراز جديد. فالخطر الداهم اليوم، في ظلّ الصراع الانقسام على حساب الصراع مع المحتلّ، الذي بالمناسبة لا يميّز بين فلسطيني وآخر، هو انحدار وتفكّك الحركة الوطنية، وصعود الجهوية والعشائرية، التي يُسهل سقوطها في فخ مشروع الكانتونات الجهوية على حساب المشروع والكيانية الوطنيين.

نسأل مُحاورنا عمّا يتضمّنه كتابه الأوّل «غزّاوي: سرديّة الشقاء والأمل» من أفكار وأطروحات رئيسة؟ فأجابنا: في الحقيقة، لطالما كانت فكرة توثيق تجربتي، والتي كما ذكرت تحاكي وإن بدرجات متفاوتة تجارب الكثيرين من أبناء جيلي، سيما أنّ الصديق الراحل فيصل حوراني، وعندما كنا نلتقي ونتحدّث سواء عن تجربة الحياة في المخيّم، أو قصص المقاومة والصمود ببعديها الإنساني والكفاحي، كان دوماً يحثني على الكتابة وتوثيق تلك القصص، لدرجة أنه اقترح عليّ ذات مرّة أن نسجّل معاً ذلك ثمّ نعالجها بعد أن تكتمل، الأمر الآخر أنه بعد أن شاهدت الأثر الهامّ لفيلم “نائلة والانتفاضة”، وأهمّية القصص التي تبدو بالنسبة لنا صغيرة أو شخصية، على صعيد الرأي العامّ الدولي، إذ أنّ ذلك الفيلم الذي يوثّق دور المرأة الفلسطينية في الانتفاضة الأولى بل وفي قيادتها، وجدت أنه من الضروري توثيق هذه التجربة، بما هي تحدّي النكبة والتمرّد على اللجوء، ومراحل المقاومة وتجاربها في الوطن وإلى حدٍّ ما في الخارج، خاصّة في لبنان والساحات الطلابية “مصر وبلغاريا”، والأهمّ الانتفاضة الأولى.

وأردف زقوت: في ظلّ فشل مسار التسوية وتعمق حالة الانقسام، والانسداد الذي تعيشه الحركة الوطنية، أعتقد أنّ أخطر ما يواجهنا هو أنّ سنوات الكفاح الطويلة تجري محاولات وأد إنجازاتها، ومعها القيم النبيلة وروح التضحية والتضامن الجماعي التي ولّدتها سنوات المعاناة والثورة على حدٍّ سواء. موضّحاً، أنّ المغزى الأهمّ الذي وجدته في هذا الكتاب وأردت إيصاله، أنّ التجربة الفلسطينية لا تعرف ويجب ألّا تخضع للمستحيل، وليس أمام الفلسطيني من خيار سوى إبداع وسائل الصمود والثورة على الظلم الذي عاشه وما زال يستهدفه.

يؤكّد الكاتب والناشط السياسي المناضل جمال زقوت، في حوارنا معه، أنّ اللجوء والتمرّد على النكبة والصراع من أجل العلم وروح التضامن التي ميّزت الفلسطيني في مسار كفاحه، والتي بلغت ذروتها بانتفاضة شعب بأكمله، هي ما أردت أن أوصفه من خلال سرديّة سجّلت فيها شهادتي، ولا أدّعي إطلاقاً أنها تشمل السرديّة الشاملة للتغريبة الكفاحية لشعبنا الفلسطيني، الذي يواصل إعجازه حتّى اليوم. وليعذرني من سيقرأ هذه السرديّة أنها ربّما لم تغطِّ ما يعرفه أو عاشه هذا القارئ وهو غير مدوّن في كتاب «غزّاوي: سرديّة الشقاء والأمل». دوماً أقول، وخاصّة في وصف الانتفاضة الكبرى، التي شارك فيها ملايين الفلسطينيين، إنّ لكلّ واحد منهم الحقّ في أن يرى دوره كقائد في فعاليّاتها، وهذا لا يقتصر على فلسطينيي الأرض المحتلّة بل وبلدان الشتات، فهي منبع الثورة والانتفاضة كانت ذروتها، كان التحام الناس في كلّ مكان مع الانتفاضة، وهو ما كنت شاهداً عليه بعد إبعادي، كان يشير إلى تلك الحقيقة، فما حقّقته الانتفاضة من نهوض وطني عارم عزّز ورسّخ مضمونها الديمقراطي، واتّساع المشاركة الشعبية في فعاليّاتها ومساندتها مادّياً وإعلامياً وسياسياً. والأهمّ أيضاً، إعلاء شأن الوحدة والهوية الجامعة والأمل بالنصر، وهذا ما نعاني من فقدانه اليوم، وهذه مسؤوليتنا أن نستعيده كشرط لا يمكن الاستغناء عنه في مسيرة كفاحنا التي لم تكتمل فصولها بعد.

يجب ألّا نسلّم بالانقسام

أمّا أهمّ الرسائل التي أراد مُحدّثنا إيصالها للقرّاء في كتابه هذا؟ ومن هم الذين يأمل أن يصل إليهم؟ فيجيبنا: هذا جوهر رسالتي، يجب ألّا نسلّم بالانقسام الذي يقصم ظهر النضال الوطني برمتها، ويهدّد الإنجازات الكبرى التي راكمها شعبنا منذ النكبة حتّى اليوم.

أعتقد أنّ الإرهاصات التي تتراكم في حراكات اجتماعية وسياسية وكفاحية متعدّدة الأشكال هي مرحلة اختمار ولادة جديدة للحركة الوطنية، هذه الولادة التي تبدو مستعصية وتعيش مخاضات مؤلمة بفعل وهم المشروع الصهيوني، الذي يرى أصحابه أنّ اللحظة التاريخية ملائمة لمعالجة مأزق الصهيونية التاريخي مرّة أخرى باستكمال النكبة، لكنّ هذا وهم وسيفشل. صحيح أنّ بيروقراطية الحركة الوطنية وانقسامها في الصراع على السلطة، وربّما في متن هذا الصراع الإقصائي، تحاول منع بلورة أيّ مبادرات جادة، بل وتعمل على وأدها. 

يرى زقوت، أنّ احتكار السلطة، سيما في ظلّ فشل مشروعها يُحوّل النظام السياسي الفلسطيني إلى حالة ظلامية من ناحية، ومستبدّة من الناحية الأخرى، وهذا يتناقض مع مضمون الصراع مع المشروع الصهيوني الذي يستهدف الجميع بما في ذلك المهيمنين على المشهد الانقسامي. وأنّ الدور التاريخي للمثقّف، وخاصّة المثقّف العضوي، أن يأخذ دوماً زمام المبادرة ويفتح باستمرار نوافذ الأمل للتغيير واستنهاض العامل الذاتي، لأنّ العوامل الموضوعية للصراع لا تُبقي للناس خياراً سوى المقاومة والوحدة وصون التعدّدية السياسية والفكرية. ويضيف مؤكّداً، هذا يحتاج لائتلاف عريض تلتقي فيه المبادرات الشعبية مع الخبرة السياسية للشخصيات التي لم تخرجها التجربة عن القدرة على العطاء، ولكن بالنهاية تسليم الراية الوطنية للأجيال الشابة وهم مرفوعي الهامات، وليس أن نسلّمهم رايات مزقها الانقسام أو حطام تجربة…

إلى ذلك، يشير زقوت إلى أنّ كتابه هذا، يتضمّن فصلاً عن شريكة حياته نائلة عايش بعنوان «نائلة وأنا»، يسرد فيه تجربتهما المشتركة، قائلاً: التقيت بنائلة وتعرّفت عليها عن قرب أثناء دراستنا في بلغاريا، ونضالنا المشترك في صفوف الحركة الطلابية والجبهة الديمقراطية، ويمكن القول إنّ التلاقي النضالي والفكري، وتماثل المعاناة الشخصية، قد ساعد في نمو المشاعر الإنسانية والعاطفية، فنائلة ولدت في القدس لأسرة لاجئة من بلدة لفتا قضاء القدس، وعاشت في مدينة البيرة في بيت والدها الذي دمّره الجيش الإسرائيلي في سنوات الاحتلال الأولى، كما تعرّضت للاعتقال والتعذيب الشديد خلال التحقيق ممّا أدى لإجهاضها، وهي في بداية حملها في آذار/ مارس 1987، و لم يفرج عنها سوى بعد حملة ضخمة شارك فيها المئات على الصعيدين المحلّي والدولي، يضيف جمال: إنّ قصّة نائلة كما ظهرت في فيلم «نائلة والانتفاضة» هي في الواقع أيضاً قصّة آلاف النساء اللواتي تعرّضن لاضطّهاد وعنف الاحتلال، وإنّ الإفراج عن نائلة من المعتقل الإسرائيلي بفعل هذه الحملة كان في الواقع بمثابة تحدّي وانتصار على أجهزة المخابرات الإسرائيلية، لأننا انتزعنا نائلة من بين أنياب السجان. كما اعتقلت نائلة مرّة ثانية بعد إبعادي، وكذلك ابننا مجد الذي أمضى مع أمّه ستة أشهر في المعتقل. مجد اسماه جود بشير تيمنا بعمه الشهيد بشير زقوت الذي استشهد في معركة اجتياح الليطاني جنوب لبنان عام 1978، ويتضمّن الكتاب فصلاً كاملاً عن أخي الشهيد.

بسؤاله عن سبب اختياره لعنوان «غزّاوي: سرديّة الشقاء والأمل»، تحديداً؟ يقول زقوت: بصراحة غزّة منذ سنوات هي عنوان البؤس والظلم الذي عاشه الفلسطيني، وهي بعد أن كانت رافعة للمشروع الوطني واستعادة الهوية، يراد لها أن تكون مقصلة هذا المشروع، ولكن تجربة شعبنا في القطاع كانت وستظلّ عصية على تمرير هكذا مخطّطات تصفوية. أهلنا في قطاع غزّة اليوم، يعانون من العدوان الإسرائيلي اليومي، وليس فقط من عدوان تشنّه إسرائيل بين فترة وأخرى، كما يعانون من الحصار الإسرائيلي، وظلم ذوي القربى في إطار الصراع الانقسامي المدمّر، ناهيك عن صمت المجتمع الدولي والأشقاء العرب. ومع ذلك بالقدر الذي شكّل فيه القطاع رافعة تاريخية لصون الهوية الوطنية الجامعة في المرحلة المصرية، وانطلاق الثورة عام 1965، ومن ثمّ اندلاع الانتفاضة الأولى. ويجب أن تكون غزّة بوابة إعادة بناء الوحدة على أسس ديمقراطية بإسقاط المشروع الانقسامي بوجهيه “العنتري” و”التخاذلي”، ومن يعتقد أنّ بإمكانه تطويع أهل غزّة لتهجير أهل الضفّة الغربيّة عليه أن لا يحصد سوى الوهم.

يشدّد زقوت هنا، على أنّ متلازمة الشقاء والأمل هي الحكاية الفلسطينية، وأعتقد أنه آن الأوان لإبراز الوجه الجميل لغزّة، فغزّة ليست حماس، وهي ليست هذا الفصيل أو ذاك، غزّة كما القدس وكلّ مدن فلسطين، هي عنوان الهوية الجامعة، ولن تكون مقبرة لها مهما كلّف الأمر من تضحيات.

 نسأل ضيفنا، عن مناخات وكواليس الكتابة؛ متى دُوّن هذا الكتاب، وما الوقت الذي استغرقه في كتابته منذ الجملة الأولى وحتّى الدفع به إلى المطبعة؟ فيقول: بدأت في تدوينه مباشرة بعد الإعلان عن تفشى جائحة كورونا، وبعد أن، كما أعتقد، أصبت بها وشفيت منها. لقد تبدّى لي، من حالة السيطرة الإعلامية التي سعت الحكومات لترويجها بنشر الذعر والتخويف، أنها تجاوزت الواجبات التي كان عليها أن تقدّمها للناس، سيما لجهة رعاية الفقراء والمعدمين المتضرّرين من توقّف حركة الاقتصاد والسوق. فهذه الأنظمة لم تقدّم سوى الذعر والأنانية في صراع على البقاء وصل حدَّ استخدام الأنظمة المخابراتية للسيطرة على أدوات الفحص أو الوقاية لعُلْيَة القوم المهيمنين على حياة الناس. هذا الأمر، أخذني إلى حقيقتين: الأولى، هي أنّ حظر الحركة بما يراد منه مجرّد وقاية عزل سلبية، فهو فرصة لامتلاك الوقت للكتابة التي طالما كنت أبحث عنها، وطالما أنّ سياسة الترهيب هي البضاعة الوحيدة في سوق الأنظمة، قفز لذهني سؤال، وماذا سيكون لو هدّد هذا الفايروس القاتل البشرية قاطبة، ونقلها لبراري العدم كما عاش الفلسطيني بعد نكبة 48.

من هنا بدأت حيث العراء الذي عاد لذاكرتي وفتح فيها سراديب الزمن المغلقة تحت وطأة الانشغال باليومي والعمل السياسي بكلّ تعقيداته. بدأت الكتابة في أواسط شهر آذار/ مارس 2020 ولمدّة حوالي مئة يوم يوميّاً، لمدّة ست إلى سبع ساعات بصورة ارتجاليّة جمعت بين تنوّع المراحل وتنوّع الحكايات، فكانت النتيجة مادّة خام غزيرة اشتغلت عليها في محاولة مني لتصبح متكاملة. في البدء كان حجم المادّة كبيراً جداً حيث تجاوز الخمسمائة صفحة، تمّ تنقيحها لغوياً بمساعدة بعض الأصدقاء بداية من قِبل المرحوم فيصل حوراني، الذي داهمه المرض ولم يستطع إكمال مراجعة المخطوط، فتطوّع الصديق أبو العلاء نجم لمراجعتها لغوياً. استغرق ذلك كلّه أكثر من سنة. ولكن ظلّت بالنسبة لي مشكلة حجم المخطوط إلى أن استعد الصديق الروائي ربعي المدهون لمساعدتي في اختصارها حتّى أصبحت على ما هي عليه عند نشرها في كتاب، وكان مشروع إصدارها مع داري نشر في عمّان ورام الله، وفجأة طلبتها مني “مؤسّسة الدراسات الفلسطينية”، التي كانت قد اطّلعت على اليوميّات سابقاً، لدراسة إمكانية إصدارها عن المؤسّسة. وتمّ عرضها على “لجنة الأبحاث والنشر” بالمؤسّسة لفحص جدوى ذلك ومدى صلاحية المخطوط. استغرق ذلك عدّة أشهر حتّى نهاية السنة الماضية. في الأثناء قمت مع الصديق إيهاب بسيسو (وزير الثقافة السابق) وابن غزّة، بتدقيق إضافي. وأقرّت المؤسّسة نشر الكتاب في بداية هذه السنة، وتمّ متابعة التحرير النهائي، والإجابة على بعض الأسئلة لمزيد من دقة التوثيق، لتصدر في مطلع شهر أيّار/ مايو الماضي في بيروت، ومن ثمّ في رام الله، وسيتمّ إطلاق الكتاب في رام الله وفي غزّة، وربّما في مدن فلسطينية أخرى، سيما في القدس في الأسابيع القادمة.

زقوت لفت في نهاية حوارنا معه، إلى أنه توقّف عن الكتابة عند مرحلة بداية إنشاء السلطة، مضيفاً أنه: كان ذلك بنصيحة من قِبل عدد من الأصدقاء حتّى يأخذ كتاب «غزّاوي: سرديّة الشقاء والأمل» حقّه الكامل ثمّ أواصل بعدها كتابة الجزء الثاني من السرديّة. وهذا هو مشروع كتابي القادم الذي سيكون بمثابة مراجعة لمرحلة هي الأخطر على قضية شعبنا وملامح المستقبل، وهو سيختلف بالتأكيد لأنه سيتجاوز كونه شهادة من الذاكرة، منذ بداية مرحلة أوسلو وحتى اليوم، وتقييم مسار المفاوضات ودور السلطة الوطنية وتفكّك الحركة الوطنية، وهذا يحتاج لوقت ملائم سياسياً وزمنياً، وكذلك إلى توثيق علمي دقيق. إنّ جزءاً من المادّة متوفّر في الذاكرة ومعلومات موثقة، وسأبدأ بالكتابة قريباً.

عن رمان الثقافية

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *