ثوراتنا بين التحرر والهيمنة الاستعمارية
لم تكد تمضي بضعة أيام على تساؤلاتي في المقال المعنون “المستقبل الذي يرسمه الغرب الاستعماري الصهيوني العنصري لنا ويسخرنا لبلوغه بأنفسنا” بتاريخ 1/10/2024 حتى جاء الجواب سريعا وقاطعا عبر المشهد السوري. الذي تؤكد حقائقه على:
- أن استبدال التوحش الاستعماري الأجنبي باستبداد وتوحش آخر قومي أم ديني أم طائفي أم مذهبي يقود إلى تأبيد العبودية التي ما تزال شعوبنا كافة تدفع خيرة أبنائها على مدى أجيالها المتعاقبة منذ فقدت حريتها واستقلالها قبل قرون.
- وأن خلاصها يبقى متعذرا دون تحررها من العبودية بكافة أنواعها وأشكالها ومسمياتها.
- وأن الوعي المعرفي العربي والإسلامي لم يطرأ عليه أي تغيير منذ قرون. وأننا لم نتعلم شيئا من تاريخنا الطويل وما حفل به من انتصارات عظيمة عندما وفرنا موجباتها. وما لحق بنا من هزائم كبرى ما تزال تتوالى تباعا على بلادنا وشعوبنا منذ أكثر من خمسة قرون. عندما أضعنا البوصلة واستعنا لهزيمة بعضنا البعض بالأعداء المتربصين بنا جميعا.
- وأننا ضللنا طريقنا منذ ابتلينا بقادة ونخب متغربة، سلطة ومعارضة، وسلمناها زمام أمورنا للتأسيس لمستقبل مغاير مبتغى. فعجزت جميعها وأبعدتنا عن بلوغه. لجهل كلاها بطبيعة الصراع الوجودي الذي فرضه الغرب الاستعماري الأوروبي العنصري، منذ صعود حضارته الرأسمالية في القرن الخامس عشر الميلادي. وسعيه الحثيث منذ ذاك الحين لاجتثاث الحضارات الإنسانية الأصيلة التي سبقته. والمرتكزة جلها على الموازنة بين المادة والروح (ما يضع بعض الضوابط التي تحد من الشر البشري). وسعيه الحثيث لاستبدالها جميعا بحضارته المادية الغربية(الخاضعة لمعايير تحددها ثنائية العنصرية القائمة على تفوق العرق الأبيض والاحتكام إلى موازين القوى الذي تتفوق به لإخضاع عموم البشرية لسطوتها.
- وان نجاح الغرب الاستعماري العنصري ناجم عن امتلاكه. رؤية شاملة لمستلزمات تغيير العالم وإخضاعه لسطوته توجه سياساته وخططه المتتابعة على مدى قرون لبلوغ غاياته الأساسية. عبر الإخلال بالتوازن الذي حفظ الوجود البشري منذ آلاف السنين. بالفصل بين الروحانيات التي تقيد التوحش البشري، وبين المادة التي تحرره من كافة الضوابط الأخلاقية، وتطلق العنان للغرائز التي لا حدود لإشباعها. فمنذ بدء تسيد المادة بصعود الرأسمالية مطلع القرن الخامس عشر الذي تراكمت إرهاصاته في القرنين الثالث والرابع عشر، وتوظيف الثورة الصناعية ومنجزاتها المادية، بالتوازي مع الانقلاب على الأديان عبرالتغلغل الرأسمالي في المؤسسات الدينية، للتمهيد للانقلاب على صحيحها. ذلك أنها استهدفت جميعها تهذيب النفس البشرية الأمارة بالسوء. ثم الانقلاب عليها بذريعة الإصلاح الديني، الذي قاده القس الألماني مارتن لوثر أواخر عام 1492 ضد استبداد الكنيسة الكاثوليكية. (الاصلاح الديني) وإنشاء البروتستانية، بالتزامن مع الاستكشافات الجغرافية لما وراء المحيطات. فتفاعلات هذه التطورات وتضافرت جهود الغرب الاستعماري وقواه المتنفذة، آنذاك، (بريطانيا وفرنسا والبرتغال وإسبانيا وهولندا وبلجيكا وألمانيا وإيطاليا) وتمكنت خلال القرنين السادس والسابع عشر من التوسع الاستعماري الاستيطاني في الأمريكتين وأستراليا ونيوزيلندا. باجتثاث شعوبها وحضاراتها الأصيلة. وإحلال حضارته المادية الغربية محلها. وبسط سيطرته على شمال الكرة الأرضية. والتوغل في جنوبها. والتأهب منذ مطلع القرن الثامن عشر لاستكمال سيطرته على إفريقيا وآسيا. وتسابقت القوتين العظميين/بريطانيا وفرنسا/ لتوسيع نفوذهما للتربع على عرش القيادة العالميّة. فسيطرت بريطانيا على الهند، وتسابقا للسيطرة على جنوب إفريقيا وساحلها الغربي وشمالها. وسعى نابليون بونابرت إلى قطع الطريق عليها لتحقيق حلمه الإمبراطوري التوسعي . فقاد حملته لاحتلال مصر وتقدم نحو بلاد الشام. لكنه أخفق، آنذاك، لأسباب عديدة تم تناولها في مقالات سابقة. لعل أهمها: التنافس الاستعماري الاستقطابي البريطاني الفرنسي لشعوب المنطقة. وفشل نابليون في استقطاب يهود أوروبا لإقامة دولة استيطانية يهودية موالية في فلسطين، تعزل مشرق الأمة العربية- الإسلامية المستهدفة بالإخضاع عن مغربها. الأمر الذي أدركه المستعمرون الأوروبيون وسعوا لتلافيه في محاولاتهم اللاحقة لبسط سيطرتهم على البلاد العربية- الإسلامية التي تقع في مركز العالم. وتسهم السيطرة عليها بدور مركزي في ترجيح موازين القوى العالمية.
وقد عكس مؤتمر لندن عام 1840، وعيا أوروبيا بموجبات ومستلزمات تحقيق أطماعهم التوسعية، وبأهمية توفرها عند تكرار محاولة السيطرة الغربية على عموم المنطقة.
فسارعت القوى الأوروبية المتنفذة، آنذاك، (الإمبراطورية الروسية وبروسيا والمملكة المتحدة والإمبراطورية النمساوية) لتجاوز خلافاتهم وتنافسهم البيني، وتعاونوا سويا لوقف تقدم قوات محمد علي باشا والي مصر- القوة الصاعدة في المنطقة التي شهدت مصر في عصره أوسع عملية تحديث ومحاكاة لتجارب الغرب، عبر استقدام العلماء والخبراء الأوروبيين، وإيفاد البعثات التعليمية للدراسة في الجامعات الفرنسية والبريطانية والإيطالية وتنشيط الترجمة. ما أسهم في تحديث وتطور مصر في المجالات الاجتماعية والعلمية، والاقتصادية، والحربية، والسياسية. حفزته على بلورة مشروعه الخاص لتعزيز سيطرته عبر التقدم في بلاد الشام، ووصلت طلائع قواته إلى مشارف الأناضول، وأوشكت على الاستيلاء على الحكم العثماني الآيل للسقوط. ما كان سيعطل سعي الغرب الاستعماري، ويربك خططه للسيطرة على عموم المنطقة لعقود طويلة.
فقرروا التحالف والتدخل المباشر لعرقلة وتأخير سقوط الحكم العثماني الضعيف. ودعوا إلى عقد مؤتمر عاجل في لندن بذريعة إعادة السلام إلى بلاد الشام. ووجهوا إنذارا حاسما لمحمد على لسحب جيشه والانكفاء داخل حدود مصر، إن أراد الاحتفاظ بحكمه. وأبرموا معاهدة مع الدولة العثمانية لحمايتها.
وكان ذلك أول اختراق غربي ناجح لصفوف الأمة العربية- الإسلامية بالتدخل الأوروبي المباشر لترجيح سيطرة الطرف الأضعف على الحكم، لقاء الحصول على امتيازات دينية وسياسية في أراضي الإمبراطورية العثمانية عموما، وفي فلسطين خصوصا. إذ كان المستشرقون الأوروبيون المدفوعون بنظرية التفوق الغربي على الثقافات الشرقية، قد وفروا الأساس المعرفي بتاريخ وثقافة وخصائص وعادات شعوب المنطقة ومواطن قوتها ومكامن ضعفها. وبدأت البعثات التبشيرية والدبلوماسية الأوروبية بالتدفق على المنطقة تباعا، وأقاموا العديد من المراكز الغربية في أراضي الدولة العثمانية، واحتفظوا بحق حمايتها. واستقطبوا النخب العربية والإسلامية المتغربة التي تم إعادة هندسة وعيها في الجامعات الغربية وأنيطت بهم مهمة التغريب باستنساخ تجارب التحديث. ومكن ذلك الغرب من التوغل عميقا داخل المنطقة العربية – الإسلامية المستهدفة جميعها بالاستعمار والإخضاع.
الملفت في سلوك الغرب الاستعماري انضباطه والتزامه بالرؤية الشاملة والخطط التنفيذية للاستيلاء على المنطقة. (خلافا لمكونات المنطقة الأصيلة، الذين يستدرجون للكمائن ويتعجلون الحصاد قبل أن ينضج الزرع، فلا يحصدون سوى الخيبات).
فعلى الرغم من امتلاك الغرب الاستعماري القوة والقدرة والفرصة التي يوفرها ضعف المركز العثماني. لم يتعجلوا بسط سيطرتهم على المنطقة المستهدفة بالاستعمار. وآثروا تأجيل ذلك لحين توفير الموجبات الضرورية لإدامة سيطرتهم لأطول فترة ممكنة. وعدم تكرار خطأ نابليون، الذي تسبب بهزيمته بعد ثلاث سنوات فقط من غزوه للمنطقة. فأولوا الأولوية لتثبيت وتوسيع سيطرتهم على شمال إفريقيا واليمن وخليج عمان. وهو ما تمكنوا من إنجازه خلال القرن التاسع عشر. وعملوا بالتوازي على تهيئة يهود أوروبا للانخراط في المشروع الاستعماري الغربي. وتحالفوا مع النخب المالية اليهودية المتنفذة لإنشاء الحركة الصهيونية ومؤسساتها السياسية والتنظيمية والإدارية والمالية، لتهيئتها للانقلاب على الدين اليهودي، واحتكار حصرية تمثيلها ليهود العالم، وإضفاء صبغة قومية على الديانة اليهودية تبرر المطالبة بمركز جغرافي تسيطر عليه ويستوطنه اليهود. ويقيمون فيه دولتهم الاستيطانية اليهودية الموالية للغرب في فلسطين. التي تقع في مركز الوصل والفصل الجغرافي والديموغرافي والحضاري للأمة العربية- الإسلامية وبلادها المستهدفة بالاستعمار والتجزئة.
وعندما استكملت الحركة الصهيونية جاهزيتها، تم عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية. وقد قوبلت الحركة الصهيونية في البداية بمعارضة يهودية وازنة. وشهدت اختلافات وتجاذبات حول الموقع الجغرافي للدولة اليهودية. إلى أن تمكنت القوى الصهيونية المتنفذة من حسم خيارها في المؤتمر الصهيوني السابع عام 1905، بإدماج مشروعها الاستيطاني الخاص بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، بالمشروع الإمبريالي الغربي العام للاستيلاء على إرث الإمبراطورية العثمانية المتهاوية.
فسارع قادة القوى الغربية المتنفذة في العام ذاته -1905- بعقد مؤتمر في لندن دعا إليه رئيس الوزراء البريطاني، آنذاك، هنري كامبل. لمواجهة التوسع الاستعماري الألماني من جهة. ولإيجاد آلية تحافظ على المكاسب الاستعمارية الغربية وتعمل على تكريسها وتعظيمها من جهة أخرى. شاركت به ست دول أوروبية (بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا). وقرروا تكليف فريق عمل من كبار المفكرين والعلماء والخبراء الأوروبيين المتخصصين في التاريخ والاجتماع والجغرافيا والزراعة والبترول والاقتصاد، لبلورة خطة شاملة لإحكام الغربية على العالم. تواصل العمل على بلورتها عامين كاملين. وفور إنجازها وتقديم خلاصتها إلى رئيس الوزراء البريطاني كامبل. دعا قادة الدول الغربية المعنية لاستئناف جلسات المؤتمر للمصادقة على التوصيات. وأقر المؤتمرون ما عرف بوثيقة كامبل، التي تضمنت رؤية شاملة لإدارة العالم، ولإعادة هندسة المنطقة العربية الإسلامية الممتدة (التي تلعب السيطرة عليها دورا مركزيا في ترجيح موازين القوى الدولية). لتشكل إطارا مرجعيا للسياسات الخارجية للدول المشاركة.
ارتكزت الرؤية الغربية على تصنيف العالم إلى ثلاث فئات: –
الفئة الأولى: تضم دول الحضارة الغربية المسيحية التي يتوجب دعمها ماديا وتقنيا (أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا).
الفئة الثانية: تضم دولا لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحيه، لكن لا يوجد تصادم حضاري معها، ولا تشكل تهديدا للحضارة الغربية. ما يتوجب العمل على احتوائها (دول أمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا واليابان وكوريا).
الفئة الثالثة: تضم دولا لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية، ويوجد تصادم حضاري معها، ويشكل تقدمها تهديدا للحضارة الغربية (الدول العربية والإسلامية). ما يتوجب معه العمل على تجزئتها جغرافيا وديموغرافيا، وفق أسس عرقية وقومية، ودينية، وطائفية، ومذهبية.
وفصل الجزء الإفريقي عن الآسيوي، بإقامة حاجز بشري مغاير لشعوب المنطقة عرقيا ودينيا وثقافيا ومواليا للغرب. وإنشاء دولة عازلة يناط بها دور وظيفي لتكريس تجزئة المنطقة، واستنزاف شعوبها ودولها وحرمانهم من التطور والتقدم العلمي والتقني، والاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي. وإجهاض أية محاولات وحدوية بينهم.
ووفقا لذلك، تم وضع الخطط للشروع بالعمل فور اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) بين القوى الأوروبية المتنافسة: الحلفاء (بريطانيا وإيرلندا وفرنسا والإمبراطورية الروسية، وانضمت إليهم لاحقا إيطاليا واليابان ورومانيا والولايات المتحدة الأمريكية)
وبين دول المحور (ألمانيا والنمسا والمجر وانضمت إليهم لاحقا بلغاريا والإمبراطورية العثمانية). وبانتصار الحلفاء باتت الفرصة مواتية للبدء في تنفيذ مقررات مؤتمر كامبل.
فتوافق المنتصرون الكبار /بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية الصاعدة/ على تقاسم المكاسب:
- بالاستيلاء على الإرث الاستعماري للإمبراطوريات المهزومة الألمانية والمجرية والنمساوية التي تنتمي إلى ذات الحضارة الغربية. وإقصائهم وإخراجهم، بذلك، من دائرة التنافس الغربي البيني على النفوذ.
- واتفقوا على الاستيلاء على إرث الإمبراطورية العثمانية التي تندرج دولها ضمن الفئة الثالثة، والتي يشكل الصدام معها أمراحتميا. فالحضارة العربية الإسلامية المستهدف غربيا هزيمتها واجتثاثها، ترتكزعلى الترابط الوثيق بين المادة والروح. وتتسم بتعددية جامعة للمكونات الأصيلة المتجانسة الثرية بالمراكمة على إرث الحضارات الإنسانيه العظيمة التي سبقتها. واكسبتها تنوعا في الأعراق والإثنيات والألوان والأجناس واللغات والأديان والمذاهب، تجانست شعوبها وانصهرت معا في بوتقة حضارة جامعة منفتحة على البشرية. خلافا للحضارة الغربية العنصرية المنغلقة المأفونة بعقدة التفوق العرقي للرجل الأبيض.
وقد تشاركت الشعوب الأصيلة في المنطقة – منذ الأزل- المنطقة الجيو استراتيجية الممتدة الأهم التي تقع في مركز العالم القديم، (آسيا وإفريقيا وجزء من أوروبا) وتشرف بذلك على خطوط الملاحة والتجارة والمواصلات والاتصالات الدولية، وتمتلك ثروات طبيعية ومعدنية وفيرة، وطاقة أحفورية تشكل عصب الاقتصاد الدولي، ذات احتياطيات هي الأكبر عالميا. وتشكل مركز إشعاع حضاري باعتبارها موئلا للديانات التوحيدية الثلاث التي يؤمن بها ثلاثة ارباع البشرية. وعندما توحدت وتكاملت مكوناتها الأصيلة وترابطت مصالحها الوطنية والقومية والثقافية والحضارية وارتبطت بعلاقة طردية عززت مناعة دولها وشعوبها فرادى والأمة مجتمعة. أمنت استقلالها ومكنت شعوبها من التطور والتقدم والإسهام في إثراء الحضارة الإنسانية وتسيد العالم قرونا طويلة.
وعليه، فإن هزيمتها تبقى متعذرة دون تفريق مكوناتها الأصيلة وتأليبهم على بعضهم البعض، عبر استدعاء الهويات الفرعية القومية – العربية والفارسية والتركية والكردية -. والدينية – اليهودية والمسيحية والإسلامية- والمذهبية المتعددة في الديانات التوحيدية الثلاث، وأمنوا جميعا عندما تعاونوا واستظلوا بالحضارة الإسلامية الجامعة. بالمفهوم الصحيح لمعنى الإسلام، الشامل لكل من يسلم أمره لخالق الكون، بغض النظر عن دينه وطائفته ومذهبه.
وعليه، فقد خطط الغرب المادي الاستعماري العنصري المتفوق في موازين القوى المادية والتدميرية بعناية لاجتثاث الحضارة الأصيلة للمنطقة، كما سبق وفعل بالحضارات الأصيلة الأخرى عبر تجزئة الأمة. فتم توقيع اتفاقية سايكس-بيكو عام 1916 بين بريطانيا وفرنسا، (بمصادقة إيطاليا والإمبراطورية الروسية- التي انسحبت بعد اندلاع الثورة البلشفية عام 1917) – لاحتلال وتقسيم البلاد العربية والإسلامية وتقاسم السيطرة عليها بين بريطانيا وفرنسا.
وتم إصدار وعد بلفورعام 1917 لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين التي تقع في مركز الوصل والفصل الجغرافي والديموغرافي والحضاري بين جناحي الأمة العربية – الإسلامية في آسيا وإفريقيا.
وتوافقت جميع قواه: المنتصرون منهم والمهزومون على السواء. والمقيمون منهم في المناطق الأوروبية، والمستوطنون في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا وسائر المستعمرات الغربية.
واتفقوا على إخراج الحضارة العربية الإسلامية حاضرا ومستقبلا، بتفريق مكوناتها الأصيلة، وتوظيف تنوعها واختلافاتها القومية والعرقية والإثنية والطائفية والمذهبية لتقويض وحدتها وتماسكها الداخلي. واستبدال علاقة الترابط الطردي بين مكوناتها الأصيلة بعلاقة عكسية تنافسية تصادمية.
ونجحوا باستنفار القوميات العربية والتركية والفارسية والكردية والتركية، واستدعاء العصبيات الدينية والطائفية، والمذهبية، والقبلية، والعشائرية. فانخرطت فرادى في ثورات حفزها الغرب الاستعماري وقواه المتنفذة بوعود بالاستقلال والمكتسبات المادية المحسوسة. لقاء انقلابهم على دولة الخلافة ومرتكزاتها وثوابتها الروحانية. وانخراطهم في حروبه ما سرع بهزيمتها وانهيارها. وتنكر بعد ذلك لوعوده، فأخضعها لاستعماره. وسعى لاستقطاب نخبها المتغربة، وتوظيفها في تفكيك البنى والروابط الداخلية والبينية، وإعادة ربط جزئياتها بالمراكز الاستعمارية.
وخلافا لتركيا وإيران اللتين كانت قومياتهما قد تبلورت قبل دخولهما الإسلام، فانكفأتا بعد سقوط دولة الخلافة داخل حدودهما الجغرافية التي سمح لها بالتمدد جغرافيا داخل حدود القوميتين: الكردية التي جرى تقاسم أراضيها بين أربع دول مجاورة: تركيا وإيران وسوريا والعراق. والعربية (لواء الإسكندرون ومنطقة الأهواز) للإبقاء على عوامل التفجير الذاتي بين مكونات المنطقة.
فيما دخل العرب الإسلام فرادى كقبائل وشعوب، ولم يكونوا قد بلوروا قبله هوية قومية موحدة، ولم يجدوا ضرورة لتطوير هوية قومية عربية في إطار الحضارة العربية الإسلامية الجامعة، خصوصا أن القرآن جاء بلسان عربي. فانفرط عقدهم بعد انهيار دولة الخلافة، ما سهل تجزئة بلادهم عند دخول اتفاقيات سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا حيز التنفيذ بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.
وتمكن الغرب الاستعماري من استعمار البلاد وتجزئتها، وتفكيك بناها
وانهاء الترابطات الأمامية والخلفية الداخلية والبينية، وإعادة ربط جزيئاتها بالمراكز الاستعمارية الغربية.
واستقطبوا النخب المتغربة لإدارة الأقطار المستحدثة عند انتهاء الاستعمار المباشر.
ومكنوا الكيان الصهيونى الاستيطاني المستحدث، (جغرافيا وديموغرافيا وعسكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإداريا الخ..) لتأهيله للدورالوظيفي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وشرعوا وجوده دوليا في النظام الدولي ثنائي القطبية التي استحدثته القوى المنتصرة فيها. فكلاهما / المعسكر الرأسمالي والاشتراكي/ينتمي الى ذات الحضارة المادية، ويقتصر اختلافهما على منهج إدارة الملكية وتوزيع عوائد استثمارها. وتقاطعت مصالحهما في تحييد الكيان الاستيطاني الصهيونى خلال سنوات الحرب الباردة بينهما. إذ وجد فيه المعسكر الرأسمالي الغربي امتدادا طبيعيا للحضارة الغربية وقاعدة استعمارية متقدمة في الموقع الجيوسياسي الأهم.
فيما راهن المعسكر الاشتراكي عليه بسبب تكوينه الديموغرافي المنتمي في غالبيته الساحقة لدول أوروبا الشرقية التي يسيطر عليها، وبسبب انتهاجه النمط الاشتراكي/ الملكية العامة للوكالة اليهودية للأراضي الفلسطينية التي استولى عليها. والعمل التعاوني في إدارة الاقتصاد وتوزيع العوائد. /الكيبوتسات/ واعتبر الكيان الصهيوني قاعدة متقدمة لنشر الاشتراكية في عموم المنطقة. وبذلك حظيت الدولة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية العنصرية المستحدثة في فلسطين بدعم كلا المعسكرين. ما أخرجها من دائرة الصراع الدامي الذي ابتليت به شعوب ودول المنطقة خصوصا، ودول العالم الثالث عموما خلال سنوات الحرب الباردة. ومكنها من التطور والتقدم والتسلح النووي، والتحول إلى قطب إقليمي وازن مكنها من التوسع خلال أقل من عقدين، والسيطرة على كامل فلسطين الانتدابية والتمدد في الجوار العربي، والتحالف مع القوى الإقليمية الإسلامية التركية، والإيرانية (قبل الثورة الإسلامية في إيران عام 1979)، ومع الجيوب الكردية في الدول الأربع التي تقاسمت أراضيهم (العراق وسوريا وإيران وتركيا). وأكسبها ذلك قدرة استثنائية وقوة تفاوضية مع جميع القوى الفاعلة على الصعيد العالمي. (الغرب بامتداداته وتحالفاته في القارات المختلفة. والقوى الصاعدة / جنوب افريقيا إبان نظام الفصل العنصري، والصين، والهند وروسيا، والبرازيل). في الوقت الذي انخرطت فيه دول وشعوب المنطقة في تثبيت حدودها القطرية التي استحدثتها اتفاقات سايكس بيكو. وجرى استنزافها لاحقا في حروب بينية وأهلية لتهيئتها لاستكمال عملية التفكيك الذاتي، الذي تسارع بعد استعادة النظام الدولي أحادي القطبية، وتفرد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادته مع انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المعسكر الاشتراكي وتجزئة دوله في مطلع تسعينيات القرن الماضي. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد مهدت له في عهد الرئيس رونالد ريغان (1981 – 1989) – بإطلاق حرب النجوم لاستدراجه إلى سباق تسلح تسبب بانهياره وتفكيك المعسكر الاشتراكي. واستعان في مطلع ثمانينيات القرن الماضي بمستشار الأمن القومي في عهد الرئيس كارتر، زبغنيو بريجينسكي، الذي دعا لاستكمال إنجاز مشروع “الشرق أوسط الجديد “. فكلفت وزارة الدفاع الأمريكية / البنتاجون/، المستشرق اليهودي الصهيوني وخبير التخطيط الاستراتيجي في الشرق الأوسط برنارد لويس، بتصميم خرائطه وعرض خلاصة مشروعه للشرق أوسط الجديد المستهدف إنشاؤه، مرفقا بالخرائط التفصيلية في جلسة سرية للكونغرس الأمريكي عام 1983، فتم اعتماده، وبات منذ ذلك الحين الإطار المرجعي الملزم للإدارات الأمريكية /الجمهورية والديموقراطية/والموجه لعموم السياسات الغربية في المنطقة. ويقضي ب:
” القيام بتفكيك الدول العربية والإسلامية إلى دويلات عرقية وإثنية ودينية وطائفية ومذهبية، تتمحور حول الكيان الصهيوني، باعتباره الخط الأمامي للحضارة الغربية. (تقسيم كل من مصر والسودان وسوريا إلى أربع دول.
ولبنان إلى ثماني كانتونات.
والعراق إلى ثلاث دول. ودمج دول الخليج واليمن بالجزيرة العربية وتقسيمها إلى ثلاث دول على أساس مذهبي، وتفكيك ليبيا والجزائر والمغرب لإنشاء كيانات جديدة على أساس عرقي، وتقسيم إيران وباكستان وافغانستان إلى عشر كيانات عرقية، واقتطاع الإقليم الكردي من تركيا وضمه لدولة كردية تقام على الأقاليم الكردية في العراق وسوريا وإيران وبعض الاراضي السوفيتية سابقا. وتحويل شرق الأردن إلى وطن بديل للفلسطينيين.
أردت بهذا الاستعراض المسهب لتاريخ المنطقة. تحديد الإطار العام لفهم التطورات التي شهدتها بلادنا خلال القرون الماضية. والتي تسارعت منذ أحكمت الولايات المتحدة الأمريكية سيطرتها على الإرث الاستعماري البريطاني والفرنسي، وتولت قيادة المعسكر الغربي. وكثفت جهودها لإحباط محاولات النهوض العربي (صعود الحركات القومية: الناصرية في مصر والبعث في سوريا والعراق والثورة الفلسطينية بعد معركة الكرامة وحرب الاستنزاف (1968-1970) وحرب تشرين الأول/ اكتوبر1973). ومنع صعود أي من القوى الإقليمية الأصيلة / إيران عاجلا وتركيا آجلا/ ووظفت القوة والدبلوماسية لإجهاض واحتواء القوى الأصيلة، فاستوعبت تركيا في مطلع الخمسينات وضمتها لحلف الأطلسي، وتحالفت مع نظام شاه إيران، وأخرجت مصر من دائرة الصراع العربي الفلسطيني وقوضت بذلك فرص قيام إقليم عربي وازن. واستنزفت الدول العربية المركزية / العراق وسوريا ومصر والجزائر والمغرب واليمن / بصراعات أهلية وبينية. وتحت شعار إسقاط الأنظمة المستبدة تم تدمير وتقويض بنى الدولة في ليبيا والسودان والعراق وسوريا/ لتهيئة المنطقة لاستيلاد الشرق أوسط الجديد. بتصفية القضية الفلسطينية، وإناطة قيادة الإقليم بالدولة الصهيونية المرشحة للتوسع في عموم المنطقة الممتدة من الفرات إلى النيل.
ولم يكن بالإمكان تنفيذ الرؤى والمخططات الأمريكية والغربية والصهيونية في المنطقة لولا تواطؤ الأنظمة والنخب المتغربة وإسهامها في تسريع إسقاط الأمة والمنطقة. وتمكين التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري من امتطاء الثورات التحررية، منذ الثورة العربية الكبرى، مرورا بالثورات الوطنية والانقلابات المتتابعة في عديد الأقطار العربية تحت شعارات قومية/ والثورة الفلسطينية عندما انخرطت في مشاريع استبدال الوطن بدولة على جزء منه وفقا لتوقيت احتلال أجزائه. وصولا إلى ثورات الربيع العربي منذ مطلع العشرية الثانية للقرن الحالي، وإلى ما يجري حاليا على أرض فلسطين ولبنان وسوريا. وينذر بالتمدد لدول الإقليم كافة.
ولم يكن بالإمكان نجاح التحالف الاستعماري الصهيوني العنصري لو امتلكت الأمة ومكوناتها الأصيلة كافة، رؤية نهضوية ومشروع تحرري إنساني جامع نقيض.
لقد وفر طوفان الأقصى وحرب الإسناد فرصة تاريخية غير مسبوقة للأمة ولشعوب المنطقة كافة لعكس المسار. والبدء بتصويب اعوجاج مسار التاريخ في عموم منطقتنا العربية – الإسلامية الممتدة. حيث فلسطين أم البدايات وأم النهايات. وحيث تحريرها المدخل والمخرج لتحرر وخلاص الشعوب والدول فرادى والأمة مجتمعة.
فما تزال تداعيات الهزات الارتدادية للزلزال الكبير في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر/ 2023 تتفاعل وتعمق الصدوع التكوينية على امتداد العالم.
وعلى الرغم من حرب الإبادة الجماعية التي يشنها التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري وأتباعه والمتواصلة للشهر الخامس عشر على التوالي في قطاع غزة وعموم فلسطين الانتدابية. والمستمرة في لبنان- رغم اتفاق وقف إطلاق النار-
وبالرغم من هول المجازر التي تستهدف البشر والحجر والتاريخ والمستقبل في مركز الزلزال بفلسطين وجوارها اللبناني والسوري. فقد نجح الطوفان في إسقاط الطبقات الفاسدة التي تنامت وتراكمت وتكلست على امتداد أكثر من قرن، وبدأت تتساقط تباعا. ووفر بذلك فرصة تاريخية غير مسبوقة في تاريخ المنطقة لإنهاء العبودية والاستبداد بأشكاله كافة: الاستعمارية الأجنبية، والقومية، والدينية، والمذهبية. والتأسيس لمستقبل مغاير يحفظ حق جميع مكوناتها في الحياة والحرية والكرامة ويمكنها من تقرير مصيرها في أوطانها. والإسهام، بذلك، في التحرر الإنساني على الصعيد العالمي.
فالكيان الصهيونى رغم تغوله وتوحشه غير المسبوق لن ينجو، ولن يطول الوقت حتى تتوسع وتتعمق الصدوع التكوينية العميقة، وتنهار أساساته البنيوية الذاتية والوظيفية التي هزها طوفان الأقصى، والمقاومة الفلسطينية واللبنانية الباسلة، والصمود الأسطوري للحاضنات الشعبية.
ولن يطول الوقت، أيضا، للتداعي والإنهيار الذاتي لراعيته الأساسية الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائه الغربيين. ومؤشرات ذلك متاحة لمن يريد أن يرى. فلن تنقذهم قوتهم التدميرية الهائلة وطغيانهم واستبدادهم الذي بات يطال شعوبهم الغاضبة. ولن يطول تفجر غضب شعوب العالم على امتداد الكرة الأرضية بعد أن أسقط طوفان الأقصى الأقنعة وكشف زيف ادعاءاتهم المتصلة بالحريات، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، والعدالة.
غير أن ذلك لا يعفينا من مسؤوليتنا الأساسية بالمسارعة في بلورة رؤية نهضوية جامعة، ومشروع تحرري إنساني نقيض يشترك في وضعه الأحرار المفكرون والحكماء والعلماء والخبراء المتخصصون في المجالات كافة/ السياسية والدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والحقوقية والتنظيمية والإدارية، ويستهدف إنهاء العبودية والاستبداد بكافة أشكاله وأدواته الأجنبية والمحلية، لخلاص جماعي للأمم الأربعة التي تتشارك العيش في هذه المنطقة منذ الأزل : العرب والكرد والفرس والترك. والأمم الأخرى الساعية لحل مشاكلها بروح التعاون والحرص والمسؤولية وحسن الجوار والروابط المشتركة، بما يمنع التدخل الخارجي وإثارة الحروب والضغائن بين مكوناتها.