تيدي كاتس ومجزرة الطنطورة*

كثيراً ما كنت أُصدم, دون معرفة السبب, بردة الفعل المبهمة والخوف الذي أراه في عيون الأشخاص الذين كنت أحاورهم لدى سؤالي لهم عمّا إذا كانوا يعرفون أشخاصاً هجّروا من قرى سنديانة أو إجزم أو الطنطورة,و ما لفت نظري أكثر حجم القلق الذي كان يثار في نفوسهم عند ذكري اسم ” الطنطورة” , ومن هنا قررت البحث في الأمر وكنت على قناعة أن البحث في مثل هذه الأمور لن يكون مرغوباً فيه ولا محبذاً لدى البعض إذ سوف أفقد صفتي كمؤرخ باحث, وكنت بالتالي أتوقع المزيد من الصعوبات والتشكيك في الكشف عن مجزرة مرّ عليها زمن ليس بقليل كان البعض يفضل موت ذكرها دون أي ضجة إعلامية حولها. وقد تعرضت شخصياً لمضايقات عديدة فكثيراً ما كانت تأتيني اتصالات تلقي باللوم عليّ, وتتهمني, بتهكم واضح, بالضجة التي أحدثتها وأنه سوف ينتهي بي المطاف مشاركة الفلسطينيين قبورهم, ناهيك عن التكلفة المادية الباهظة التي تكبدتها بسبب الشكاوي التي رفعت ضدي في المحاكم وما تسبب ذلك بتشتت ذهني واضح أثر على عملي وانعكس سلباً على مجريات حياتي.
أذكر أن الصدفة جمعتني برجل تسعيني أخبرني عن المجزرة التي “حدثت هناك”, وللتأكيد على صدق قوله, بدأت أدقق في قضية القرية إلى أن توصلت إلى نتيجة قاسية, فقد شهدت القرية أكبر مجزرة تعرض لها الفلسطينيون في العام 1948 حين قامت وحدة ” ألكسندروني” بقتل 230 فلسطينياً بدم بارد**.
وبكل تأكيد لا يعد اكتشاف حقائق تاريخية كهذه أمراً يستهوي للسلطات الإسرائيلية أو يروق لدولة إسرائيل لأن مثل هذه الحقائق لو نشرت سوف تفضح بشاعة ما تم ارتكابه في العام 1948 و يبرن على أن ما جرى هناك كان محاولة تطهير عرقي وليست مجرد نكبة.
أرجع فأقول, الصدفة وحدها قادتني إلى هذا, فقد كنت قد تقدمت برسالة الماجستير في جامعة حيفا, و أنهيت ما يترتب علي من الوظائف و الأبحاث التي تؤهلني للحصول على درجة ” مؤرخ” وكان عليّ أن أختار إحدى القرى أو المدن كموضوع للبحث, فاخترت مدينة حيفا باعتباري أصلاً من سكانها, لكن الجامعة رفضت اقتراحي, فما كان مني إلا أن توجهت نحو القرى المجاورة وهكذا تعرفت على الطنطورة و ما حصل فيها من مجزرة, لكن الجامعة رفضت-من جديد- بحثي و أسقطته و ألغت عني صفة حاصل على ماجستير بدرجة باحث فصرت أحمل درجة الماجستير دون صفة الباحث, و بسبب نتائج بحثي قامت مجموعة من وحدة ألكسندروني -وهي الكتيبة التي شاركت في المجزرة- برفع دعوى ضدي-بدعم من الجامعة وبضغوط سياسية- بتهمة تحريف أقوالهم, علماً أني أحتفظ بنسخة مسجلة من جميع حواراتي والتي تتضمن شهادة 150 شخص عربي و76 شخص يهودي, 7 منهم من كتيبة ألكسندروني ممن شاركوا في المجزرة, منهم شخص تقاعد من الجيش سنة 1972 برتبة جنرال قال لي بالحرف الواحد:” عندما رأيت ماذا كان يفعل أصدقائي في المقابر, لم أستطع تحمّل المشهد, فذهبت من المكان” .. وقد أكد لي مراراً و تكراراً أنه لم يكن قائد الكتيبة بل كانت مهمته تتمثل بوضع المتفجرات عند مدخل القرية, ولعل هذا ما جعله يتحدث معي بصراحة عن وقائع ما حصل في الطنطورة, نظراً لأنه لم يشارك بصورة مباشرة في قتال الفلسطينيين, بالإضافة إلى ذلك كان قد قال لي أنه كان أحد المشاركين في الكتائب اليهودية التي حاربت النازية في الحرب العالمية الثانية تحت أمرة أحد الألوية البريطانية, وأكثر ما استرعى انتباهي, قوله “أتعلم بأن النازيين لم يقتلوا أسرى الحرب؟!”.
لا أنكر دهشتي من هذه المقارنة غير المتوقعة, حتى حين أردف يحدثني عن المقابر الفلسطينية و ما حدث في الحرب العالمية الثانية وهو يقصد بطبيعة الحال ما تعرض له اليهود من مجازر على يد النازيين و مقارنته بما تعرض له الفلسطينيون على يد اليهود.
صدقاً لقد اقشعرَّ بدني من هذه المقارنة, وقلت في نفسي ” يا الله هل هناك ثمة مقارنة أبشع من هذه, لقد صدمي حديثه هذا بشدة لدرجة إني لم أتفوه بحرف واحد وبقيت صامتاً طوال حديثه, إلى أن فاجئيني بقوله مستغرباً ” كيف وصلنا إلى هذه الحالة من البشاعة, ثم تابع مستدركاً – وكأنه يعي خطورة ما يقول-” كيف وصلنا إلى ما وصل إليه الألمان؟” وكأن ما علق بذهنه من صور ما اقترفته كتيبته في الفلسطينيين في الطنطورة أعاده إلى المقابر اليهودية في زمن النازية.
و الآن عندما يلتقي كبار الضباط الذين شاركوا بالمجازر التي ارتكبت سنة 1948 وعنما يدور الحديث فيما بينهم أو أحياناً في محاضرات و اجتماعات كنت أحضرها بحكم عملي كانوا يقولون ببساطة شديدة : ” خسارة إننا لم ننه الأمر آنذاك” في إشارة منهم إلى أنه كان ينبغي عليهم قتل الجميع, ثم يستأنفون بحسرة, ما لم ننجح في تحقيقه آنذاك لن ننجح في تحقيقه اليوم فمن الصعب اليوم تكرار ما حدث سنة 1948 .
ما حدث في الطنطورة كان مختلفاً عن باقي القرى و البلدات الفلسطينية. في العادة كانت القوات الصهيونية تدخل إلى القرية أو المدينة فتقوم بتجميع بعض الرجال و يحاصرون المداخل باستثناء جهة واحدة يتركونها مفتوحة للسماح لبقية السكان بالهرب. لكنهم في الطنطورة أغلقوا المداخل من الجهات الثلاث ومن البحر أيضاً, وجمعوا الرجال وبدؤوا يسألوهم عن السلاح ومن كان ينكر أو يجيب بالنفي كانوا يقتلوه فوراً ومن كان يعترف كانوا يقتادوه إلى حيث مكان السلاح فيتم إخراجه ومن ثم يعدموه في المكان. و لعل ” الغضب اليهودي” على الطنطورة وسكانها يعود لغضب اليهود سكان زخرون يعقوب المجاورة الذين كانوا ينظرون بحسد إلى سكان القرية بسبب غناهم الظاهر فقد كان جزء كبير منهم يملكون أراضٍ خاصة بهم وبعضهم كان يعمل في حيفا القريبة, والبعض الآخر اشتغل ” مع ” اليهود و” ليس عندهم” خلافاً لسكان العديد من القرى المحيطة الذين عملوا “أجراء” في المزارع اليهودية. وقد انعكست الحالة الاقتصادية الجيدة للطنطورة على البنية التحتية فيها إذ كانت شوارع القرية ذات أرصفة, هل لنا أن تخيل ذلك في قرية فلسطينية صغيرة سنة 1948 ؟ كما كانت بيوتها مزودة بحنفيات مياه, فضلاً عن انتظام أهل القرية في جمعيتين أهليتين, كانت الأولى تهتم بأمور السائقين والثانية كانت خاصة بالصيادين, وقد أخبرني الكثير ممن حاورتهم أنه لو استمرت القرية في الحياة لربما أصبحت اليوم مدينة كبيرة, وللتدليل على ذلك يذكر أن أهل البلد جمعوا سنة 1944 من أموال التبرعات 3750 جنيه إسترليني(وهو مبلغ ضخم في معايير تلك الفترة)وأكملت سلطات الانتداب المبلغ إلى 5000 جنيه لبناء مدرسة كبيرة لازالت قائمة حتى اليوم عند مدخل القرية***( تستعمل اليوم كمركز لأبحاث الصيد تابع لوزارة الزراعة, وثمة الآن نصب أقامته وحدة ألكسندروني على رابية المدرسة ورغم التغيرات الطفيفة على المبنى الآن, إلا أنه مازال يحتفظ بطابعه الخاص, ومن الجدير ذكره أن السلطات المحلية لم تضع أي لافتة تشير إلى تاريخ إنشاء المبنى )
لم يكن الكشف عن مجزرة الطنطورة بالأمر السهل على كل حال, ولو قيض لي أن أكتب كتاباً جديداً فسوف يكون موضوعه عن مجزرة الطنطورة أيضاً****, ولكن هذه المرة سأكتب عن تجربتي الشخصية وما تعرضت له بعد العام 2000 في المحاكم و في الجامعة و محاولات التعتيم الإعلامي على بحثي, سأكتب عن العالم الغريب الذي يلف الفضاء الأكاديمي الإسرائيلي. والطريقة التي حذف فيها اسمي من قوائم الحاصلين على درجة الماجستير رغم تفوقي بنسبة 97%.
……………..
*المصدر: بتصرف من حوار تيدي كاتس مع رِماح مفيد: المؤرخ كاتس: إسرائيل ندمتْ لعدم إبادة الفلسطينيين, للمزيد, انظر النص الكامل للمقابلة في التعليق
** سقطت الطنطورة ليل 22-23 أيار\مايو 1948 إثر هجوم قامت به كتيبة الهاغاناه الثالثة والثلاثون ( الكتيبة الثالثة من لواء ألكسندروني) وكانت القرية قد رفضت شروط الهاغاناه للاستسلام، ويقول بني موريس:” كان من الواضح أن قادة لواء ألكسندروني أرادوا القرية خالية من سكانها وطرد على الأقل بعض هؤلاء السكان”، ومن الجدير ذكره أن مصير الطنطورة وبعض القرى الأخرى في محيط مدينة حيفا تحدد يوم 9 أيار\مايو تقرر إثر اجتماع بين ضباط استخبارات الهاغاناه وخبراء الشؤون العربية، واتخذ القرار بطرد السكان أو إخضاعهم, وبعد سقوط البلدة صدر بلاغ عسكري إسرائيلي يوم 23 أيار\مايو (أوردته صحيفة نيويورك تايمز في حينه) جاء فيه أن مئات من العرب “وقعوا في أيدينا, فضلاً عن كميات كبيرة من الغنائم” وذكر مراسل النيويورك تايمز مزاعم الهاغاناه” غير المؤكدة” من أن البلدة “كانت نقطة تهريب للمتطوعين المصريين القادمين إلى فلسطين عن طريق البحر”.
***يذكر وليد الخالدي في كتابه ” كي لا ننسى” الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية سنة 1997 أنه كان يوجد في القرية مدرسة ابتدائية للبنين أنشأت سنة 1889 تقريباً وأخرى للبنات (أسست سنة 1937\1938) وهاتين المدرستين هما غير المدرسة التي يتحدث عنها كاتس, ويتذكر والدي موسى الصباغ شخصياً وقت بناء المدرسة التي يتحدث عنها كاتس, علماً أنه درس فيها حتى الصف الرابع الابتدائي. كما يذكر عبدالله سليم أبو الشكر أن البلدة كان فيها نادي ثقافي اجتماعي رياضي ومستوصف يزوره أطباء بالتناوب وتعمل فيه ممرضة مقيمة بشكل دائم اسمها” ذهبية”
**** يرى الباحث، الصديق مصطفى الولي، أن كاتس يتحاشى، عمداً، التسليم بمسؤولية الهاغاناه عمّا حدث في البلدة، وهو لايرى أن ثمة سبب يدعو إسرائيل لإخفاء المعلومات عن المجزرة التي ينظر لها كنوع من ردود الأفعال لعناصر الهاغاناه بسبب المقاومة التي واجهتهم في البلدة، ويعتبر الباحث مصطفى الولي أن استنتاج كاتس هذا خاطىء من أساسه تكشفه الاحداث اللاحقة لسقوط الطنطورة، أي ترحيل السكان، واعتقال الرجال وتوزيعهم على عدة مراكز اعتقال. أما بخصوص الاستنتاج الذي توصل اليه كاتس ان تكتم اسرائيل الاعلامي على المجزرة-يتابع الاستاذ مصطفى الولي القول- لم يكن بقرار من المركز، “فقوات الهاغاناة أغلقت البلدة خلال القتال وخلال المجزرة على كل وسائل الاعلام والصحافة الدولية، وكان الخبر ملك الإعلام والصحافة الرسميين. وهاتان النقطتان يحدثان خللا في بنية بحث كاتس ومطالعاته للأرشيف و المحفوظات الإسرائيلية و الصهيونية، علماً أنه ومن موقعه كان بإمكانه الوصول الى استنتاجات أكثر دقة وواقعية حول النقطتين: القرار بالقتل (بدليل أن القتل توقغ أو أوقف بقرار جاء به مختار “زخرون يعقوب” على هيئة رسالة من قيادة جيش الدفاع، سلمه لشمشون، فأوقف عمليات الإعدام لحوالي 16 رجلاً كانوا خلف جدار دكان الحلاق ابو جويد)، وإذن فطالما قرار الإيقاف صدر من القيادة العليا، فهذا يعني أنها الجهة التي أصدرت أصلاً تعليمات تنفيذ الإعدامات. أما التكتم على أخبار الطنطورة في ذلك اليوم فهو بقرار نفذته القوات المحاصرة للقرية بأن منعت أي مراسل صحفي من دخول القرية لأيام بعد سقوط الطنطورة. لكن ولا شك أن ما اعلنه كاتس كان صادما داخل إسرائيل وللرأي العام الدولي”

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *