
يسرد الأديب الفلسطيني محمود شقير سيرته الذاتية “تلك الأزمنة” متذكراً أزمنة تحرك فيها بين أمكنة وشخصيات وكتب ومنفى واعتقال ومقاومة دائمة.
يسرد كما يرى، ويسرد كما يتذكر، ويسرد كما يعيش تلك الأزمنة مجدداً عبر التدوين.
…
كلّما قرأت عملاً جديداً للمقدسيّ محمود شقير، ألحّ عليّ سؤالا المكانِ والزمان؟ لأخالهُ ولسببٍ قد يتعلّق بالبحث عن مخرج، يُطيل التحديق في المرآة مُتسائلاً عمّن يرى: أهذا أنا؟ أين؟ ومتى؟ هل الزّمنُ الذي أحياهُ، زمني؟ منْ هؤلاء المُنتشرون من حولي؟
وسؤالُ الهُويّة الذي يَجرُّ سؤال الحياةِ هنا، لا يُعاني صاحبهُ بالضرورة، من “قلق التّعريف” على حدّ تعبير محمود درويش، ولكنّه يبحثُ عنْ معناهُ؛ هذا الذي دفع شقير للكتابة قبلاً عن “تلك الأمكنة” التي سكنته، فسكنها؛ ويستدعيه اليوم للتّبصّر في “تلك الأزمنة” التي عاشتهُ، فأعادها ليُحييها.
…
وسيرةُ “تلك الأزمنة – دار نوفل-2022” لم تتوقّف أمامَ سيرة شقير الكاتب والإنسان، قدر ما ذهبت تُضيئُ على مُشاغبات مهدي الحفيد، وصبر وجلد “أم خالد” الزّوجة، وتفاصيل حياة أمينة، أبنة الرّوح بجرسها المنبّه، وكأنّنا بها تضغط عليه بضمير المتكلّم في مجاز القول لأبيها: أبقَ على قيد الحياة قدر ما استطعت.
والبقاء على قيد الحياة، بالنسبة لشقير الأب والجدّ، الحاضر، الراعي، الفاعل، لا يقلُّ أهميّةً عن محاولات تخليد اسمه عبر ما ينتجه من إبداعات على الصعيد الأدبيّ، حيث لا يجب أن تبقى سيرة المرء نزعة عرضيّة، تتوهّج وتنطفئ ما بين تاريخين، “تاريخ اللقاء، وتاريخ الوداع”، خاصةً حينما يكون ابناً بارّاً أجمل ما يملكُ من الصفات، صفتان، البساطة للغاية، والغلوّ للنهاية؛ وشقير في حياته الشخصيّة والعامّة، سهل وبسيط، بساطة هطول الماء من علٍ، ولكنّه في ما يمسّ قضيّته الوطنيّة، لا يعرف إلّا الانحياز للغلوّ حتّى النهاية وبلا تروٍّ؛ غلوّ في المشاعر، وغلوٍّ في الممارسة والتعبير، كيف لا وهو من اعتقل، ونفي، ومنع، من دون أن يصرخ كفى، فبقى ثابتاً على الثابت والمتين؛ والخلود في مثل هذه الحالة، يصبح على الجبهتين الشخصيّة والوطنيّة، واجباً مقدساً، وليس خياراً، وفي هذه يقول شقير:
“حين أنظر إلى السنوات الطويلة التي أمضيتها في كتابة القصص والروايات والنصوص، فإنّني لا أشعر بالتقصير، مع ذلك؛ أرى من واجبي أن أنجز مزيداً من الكتابة الإبداعيّة، بالنظر إلى ما يتهدّدني شخصيّاً، ويتهدّد أسرتي وأبناء شعبي، ويتهدّد فلسطين بشكل عام، والقدس بشكل خاصّ من مخاطر مبعثها العدوان الصهيونيّ المستمرّ على بلادنا، وعلى أبناء شعبنا أجمعين” (ص 239).
سيرة الاعترافات…
ولأنّ “الحياة رحلة حافلة بالتفاصيل، وسفر مفتوح على عديد الاحتمالات” (ص57)، نلحظ شقير وهو يتحلّى بالشجاعة الكافية حيناً، والمفرطة أحياناً؛ ليدون عديد الاعترافات، التي عادة ما يتنكر لها كبار الكتّاب، كأن نجده يتناول قضيّة المرأة في المجتمع العربيّ بالكثير من الصراحة المؤلمة: ” مازالت بعض الرواسب السلبيّة تجاه المرأة تظهر في تصرّفاتي؛ وربما ساعد التخلّف السائد في محيط إقامتي على ظهورها بين الحين والآخر” (ص14)، وفي شأن العمل الحزبي نقرأ له نقداً لاذعاً لأفكاره ومعتقداته التي ما فتئ يكابر وهو يتمسّك بها، إلى أن يعترف قائلاً: “لم أفقد ثقتي بالاشتراكيّة؛ لكنّني لم أعد متعصّباً لقناعاتي، ولم يحدث هذا إلّا بعد معاناة” (ص15)، وفي ثالثة يشير إلى شيء من الغرور، وآخر من الخوف، وثالث من التسرّع في اطلاق الأحكام، تماماً كما حدث في واقعةٍ جمعته بالناقد المصري محمود أمين العالم، إذ أشاد الأخير برواية “الشيّاح” للروائيّ الكويتيّ إسماعيل فهد إسماعيل؛ فخالفه ولم يتّفق معه، بل وأطلق عليها أوصافاً سلبيّة كالباهتة وغير المقنعة، وحين عاد لقراءتها عشيّة رحيل صاحبها، انتبه كم تسرّع في حكمه، إذ كانت على العكس تماماً ممّا قال سابقاً، فاعترف: “ربّما كانت قدرتي على محاكمة الرواية في تلك السنوات غير مكتملة (…) أرجو أن يكون في هذا البوح اعتذارٌ من نوع ما” (ص69).
هكذا ببساطة ووضوح ويسر، تعامل شقير مع حكاياته الشخصيّة والعامّة، في هذه السيرة الذاتيّة، ممّا أكسبها مصداقيّة قلّ نظيرها في المشهد الثقافيّ الراهن؛ غير أنّها بمعنى من المعاني، شكّلت انحيازاً آخرَ للجمال؛ جمال الروح حين تبوح بما لا يباح به، وجمال نقد الذات قبل الآخرين، والأهمّ، قدرة الكاتب على إدارة الآراء والأفكار لبيان ما في بعضها من أوجه التعقيد؛ وهو ما عبّر عنه بهدوء لافت، في سياق نقده للحالة التربويّة والتعليميّة في البلاد قائلاً: ” برغم الجهود التي بذلها رجال تربيّة متخصّصون في شؤون المناهج المدرسيّة بعد قيام السلطة الفلسطينيّة، ظلّت هذه المناهج أقلّ من المطلوب بكثير (…) إنّها لم تُحدث التوازن المطلوب بين ماضينا الذي ينبغي علينا أن نأخذ أفضل ما فيه، وأن نترك ما لم يعد يتواءم مع منطق العصر والحياة، وبين حاضرنا الذي ينبغي أن نعزّزه بعلوم العصر ومعارفه ورؤاه” (ص149) لنلحظ نزوعه إلى التمييز في هذا المقطع، بين “القول النافع والقول الصحيح” بتعبير فيصل درّاج؛ بين الجهود المبذولة، وسوء النوايا والاتهام؛ وكذا بين الماضويّة بكامل حمولتها، وترك ما لم يعد يتوافق ومتطلّبات العصر والحياة.
القدس عنواني…
إنّ شقير الذي تفتّح وعيه الأوّل في القدس، لم يبلغ المجهول فيها قبلاً ولا بعداً، ولكنّه كلّما همّ بالكتابة، أطال التأمّل، ليروّض حواسه، ويستعيد فضاء المكان، وإنْ لوّثه الغرباء؛ وذلك على الرّغم من كونه من روّاد السهل الممتنع، مع استخدام واضح في العديد من الأماكن لتقنيّة السرد المتقطّع؛ خاصّة في الجزء الأخير من سرديّته، حيث تداخل الزمن السرديّ بكثافة، وهو يتحدّث مرّة عن الموت، وأخرى عن معاناة أمينة، التي سرد حكايتها في نهاية سيرته بأسلوب يُدمي القلب.
ولكنّه أسلوب أبى إلّا أن يوظّف حيله الأدبيّة المتفرّدة، وهو من يمتلك أدواته الإبداعيّة بحرفيّة عالية، علّها تشكّل رافعة لمحمول رسائل نحن أحوج ما نكون لمضامينها؛ كما هي لعبة احتمالات الوفاء في سؤال الموت وما بعده؛ وعلى نحو أدقّ في شرطه المصاب بداء النسيان؛ لنجده يطرح سؤالاً، ويضع بعض إجابات يترك للقارئ أن يختار بينها أو يضيف إليها، فيقول:
“سيحزن أهل وأقارب ورفاق وأصدقاء لموتي، ولن يكترث لموتي آخرون، فهذه هي سنّة الحياة، وستكون لي جنازة تحدّد حجمها الظروف (…) سيشارك في جنازتي رفاق ورفيقات من خارج القدس، وقد لا يتمكّنون من المشاركة”. ويتابع…
“حين أموت، قد يؤبّنني أحد قادة الحزب؛ لأنّني كنت عضّواً في قيادة الحزب الشيوعي (…) سيذكرني صديقات وأصدقاء على صفحات التواصل الاجتماعي، ليومين أو لثلاثة أيام، ثّم ستغيب صورتي ويغيب ذكري للتّرحّم على أموات جدد (…) وستنقضي الأعوام إثر الأعوام، وسوف تبتعد ذكراي مع مرور السنين، وسيكبر أحفادي وحفيداتي، (…) وقد يزورون قبري في بعض المناسبات، وقد لا يفعلون، لأنّ صروف الدهر قد تصرفهم عن ذلك، ولأنّ هموم الحياة قد لا تترك لهم وقتاً كافياً (…) وأنا على أبواب الثمانين؛ لا يستغربّن أحد كيف يلفت الموت انتباهي فلا أتغاضي عنه ولا أتناساه” (ص 227-230)
الموت…
الموت إذن في وعي شقير، وبكلّ هذا الاسترسال، ليس خللاً فادحاً في مفكرة توقيت الحياة، ولكنّه حقيقة آتية شئنا أم أبينا؛ ولأنّ الأمر كذلك، وأنا لا أمتلك الكثير مما يمكن أن أدّعيه في امتحان التنظير الإنشائيّ، ولن أحاول التسلّل من ثقوب البلاغة، كي لا أسقط على رأسي؛ وهو من كرّمني باختيار مقطع لي كتظهير لسيرته “تلك الأزمنة”، وكون الردّ أحجيةُ تفلسفٍ مصيرها الزوال، ما لم يكن ردّاً صادقاً وحقيقيّاً؛ توقّفتُ بشكل شخصيّ، أمام فقرته المذّكِرة بوصيّة الراحل إميل حبيبي، الذي طالب أن يُكتبَ على شاهد قبر الأخير “باقٍ في حيفا”، ومع كل توقعات شقير وإجاباته الكثيرة على سؤال الموت وما بعده، فإن سيرته، بكل بساطة هي سيرة مفردٍ بصيغة الجمع، وكأنه يقول لنا دائما: “عنواني القدس وإن غبت”.
عن: مجلة ” الناشر الأسبوعي”