تلخيصات أوّلية لنتائج الانتخابات …في انتظار جيل آخر يُكمل هذا النصّ

الانتخابات ساحة زمنية ولغوية ـ خطاب ـ تلتقي فيه النُخب والجماهير وتسيران معا أو على خصام فيُتاج لنا المجال كي نقرأ. فما الذي قرأناه من تراجع المشتركة ومن الانشقاق عنها؟

ـ لقد انتشر وتعزز في السنوات الأخيرة ـ خطاب النُخب العربية هنا المتصل بالمواطنة والحقوق المدنيّة على حساب ذاك المتصّل بالقومية والانتماء والهوية (ولذلك عدّة أسباب). حصل هذا ضمن علاقة عكسية مع الشرط السياسي ـ الدستوري الذي تعززت فيه سياسات نزع الشرعية السياسية والمواطنية الذي وصل ذروته من تشريع قانون القومية ومع خطاب صفقة القرن. فالقانون يخفّض دستوريا مكانة العرب الفلسطينيين هنا إلى أدنى من مواطنة وكانت منقوصة. وخطاب الصفقة أشار إلى إمكانية نزع المواطنة عن 400 ألف عربي فلسطيني في منطقة المثلث. وصارت السياسة العربية أكثر وأكثر سياسة قائمة على بُعد المواطنة فقط بدون الهويّة القومية مما جعل السياسة بدون بُعد تاريخي سردي محصورة في خطاب الحقوق وهو خطاب يجعل منّا كأي مجموعة أخرى ربّما كمهاجرين إلى الزمن الإسرائيلي من زمن فلسطيني.

ـ السياسة العربية هنا وصلت إلى أزمة مع ميل النُخب اليهودية المهيمنة إلى التنازل عن الشق اللبرالي في النظام السياسي ومع قطعها الفظّ لمسار التفاوض مع الفلسطينيين وحسمها أمر الصراع ـ ولو مؤقّتا بتصريفه لا بحلّه وبفرض سيادة كاملة على فلسطين التاريخية. وهذا يعني سقوط حلّ الدولتيْن الذي غذّى وأنتج الوعي السياسيّ الجمعي للعرب الفلسطينيين في إسرائيل. ومع “اختفاء” هذا الخيار وصل وعينا الجماعي إلى طريق مسدود. ولم نكتب كجماعة ـ رغم اجتهادات شخصية جادة ـ أي نصّ لوعي جديد. أزمة أخذتها الأحزاب والأطر إلى الانتخابات مرّة تلو أخرى عاجزة عن استشراف الآتي أو طرح مبادرة جديدة أو تحدي السلطة.

ـ في حالة الأزمة هذه ولدت فكرة القائمة المشتركة. ولدت كفكرة معنوية وعملية لتجاوز نسبة الحسم التي رُفعت كعائق أمام دخول العرب البرلمان. رُفعت في إطار سعي النُخب السياسية المهيمنة في إسرائيل التخلّص من الثقل الانتخابي الذي أعاق طريق اليمين العنصري وكان مرشحا بالاحتمال ـ كما في حكومة رابين الأخيرة ـ ليُسهم في قطع طريق هذه النُخب إلى السلطة وإلى تنفيذ مشاريعها كما تعبّر عنها مجموعة “كهيلت” اليمينية الممولة بأيدي جاليات يهودية تُدين ليس فقط بالنيولبرالية وإنما بتفوّق الإنسان الأبيض والعرق اليهودي ومتحالفة مع حزام التوراة المسيحي الخلاصي. الولادة كانت عسيرة وصعبة لكن من نقطة التكوين كان يُمكن أن نذهب إلى بناء إرادة جامعة معقولة لتدبّر أمر المرحلة المقبلة.

ـ في موازاة ذلك حصل انهيار العقائد التي شكّلت وعينا الجماعي وانتظمنا بموجبها خاصة مع الانهيارات والتفكك الذي فرضته قوى الثورات المضادة في الإقليم حولنا. كل العقائد وصلت إلى طريق مسدود وإلى جمود وانكسار توقّف عنده العقل الجماعي عن التفكير. وليس العقائد وحدها بل أنماط العمل السياسيّ والتفكير والعلاقات إلخ.

ـ الوضع الفلسطيني بصفتنا صدى له أو ظلًا لنُخبه الفاعلة هو أيضا اصطدم بالتاريخ وانكسر. فانكسر شيء فينا والفينا أنفسنا وحيدين تمامًا أمام الضغط من النُخب الإسرائيلية التي حشرتنا في التشريع والخطاب والسياسة فلم نجرؤ سوى على خطاب مواطنة وحقوق خجول أحيانًا كثيرة.

ـ في كل هذه الفترة وفي ضوء كل هذا التراجع في الهوية شاعت بيننا نزعات يأس واندماج في مجتمع الوافدين بأي ثمن. وأصابتنا أحداث الثورة المضادة بهلع وخيبة وخوف حقيقيّ من التوحّش والتدمير والتقتيل فأحجمنا عن تحدي السلطة الإسرائيلية على اعتبار أن لا أحد يسمع وأننا وحدنا وأننا غير قادرين على التحدي ـ هذه مشاعر إنسانية طبيعية في انكسار وجودي كالذي حصل لنا وهذه المرة في جبهة الهوية وعمقها الاستراتيجي الثقافيّ التاريخي.

ـ من هنا فإن خطاب النُخب العربية هنا بدا كل هذه الفترة مأزومًا. وبدا سلوكنا السياسي وسجالاتنا ولغتنا صدر مطابقًا لما تبثّه السلطة اليمينية. فإذا تحرّكن خطوة سألنا كيف سيسمونها؟ وإذا توقفنا سألنا كيف سيفسّرونها؟ ولا أبالغ إذا قُلت أننا رأينا أنفسنا ليس بعيوننا نحن وليس بأحكامنا نحن بل بعيون السلطة ويمينها العنصريّ. من أصغر مشتغل بالإلام إلى أكبر واحد عندنا يسأل ويُحاور كأنه تتلمذ في مدارس حركة بيتار أو “يشيباة دينية”!! وهكذا كانت السجالات في معظمها والمفردات.

ـ مع تراجع الأفق القومي العربي ـ المستمر منذ عقود ـ الذي دخل مأزقه مع الثورة المُضادة للربيع العربي انحسر العمل السياسي هنا إلى عمل برلماني. اختفت الحركات والأطر والتيارات والعقائد أو عادت إلى البيوت من الحيز العام. واستغلّها الإسلام السياسي على تياريْه هنا واحتلّ الحيز العام واللغة والخطاب ـ والموحّدة استمرار لهذا الانقضاض على الحياة العامة. وهو انقضاض لا يُغنيها بل يُفقرها ولا يعززها بل يُضعفها لأنه يُضيّق الأهداف والأفكار النبيلة ويُجعلكها ويرميها ويستبدلها بعملية سيطرة على المجتمع.

ـ عندما ذهبت النُخب عندنا إلى الانتخابات في العقود الأخيرة ذهبت بدون روح. بدون النُخب المُبدعة والمفكّرة. بدون الشعراء والفنانين رجالا ونساء وبدون المعنى الذي يمنحوه بإبداعهم للجماعة ووجودها. كأن الأطر السياسية تنازلت عن روحها وسعت إلى تحقيق أمرين ـ رضا السيّد الخواجا ورضا الجماهير بمعناها الاستهلاكي وليس بمعناها كشعب، بمعناها كمنتخبين ينبغي مسايرتهم وسدّ احتياجاتهم الفورية علما بأننا أقلية وطن خاضعين كلّنا القيادة والمواطنون إلى سيادة الآخر واضطهاده. المُشكلة أن كثيرين من الناشطات والناشطين علقوا في هذه المصيدة ووجّهوا أصابع الاتهام للأحزاب كأنها حكومة أو سلطة وليس لسلطة الدولة وسياساتها العنصرية ومبنى القوة الذي أنشأته عبر التاريخ.

ـ لم أعرف عن أي إطار سياسي بيننا أقدم على إجراء تفكير استراتيجي أو مراجعة حسابات معمّقة في العقدين الأخيريْن. وكل ما أنتجته النُخب المثقّفة المبدعة وُضع على الرفّ أو أُهمل تمامًا. بمعنى أننا كجماعة ونُخب لم نُنتج خطابا بقدر ما استهلكنا خطاب الآخر مترجما للعربيّة. ببساطة لم نُنتج روايتنا من جديد ولا خطابنا ولا هويتنا ولا أنفسنا ـ ففقدنا المعنى أو استعرناه من اليهودي بسلطته ولغته وتفوّقه ضمن مبنى القوة. فلا عجب أن نطمح لنصير مثله ـ خطاب الاندماج والشراكة المحتملة مع العنصريين على أسمائهم.

ـ وكلمة عن المثقفين. وهم الواعدون في المجتمعات. لقد تمّ تهميشهم والتخلّي عن المعاني التي يُنتجونها. وهذا ما دفع الكثيرين منهم إلى الصمت أو إلى تقديس القوى الصاعدة ومسايرتها علما بأنها جزء من الأزمة وليس من الحلّ. كثيرون لم يُسمعونا رأيهم في الحريات ولا في قضايا مجتمعية ولا سياسية داخلية. كثيرون لم يُحددوا موقفا وتفرّجوا على مجتمعهم يتضرّج بلغته. وكثيرون تنازلوا عن دورهم في التنوير والتثوير وكثيرون انقضوا على أصوات مُشرقة ظلّت تُقاتل لوحدها وعلى كلّ الجبهات. حتى أنهم لم يُقدموا لها شُربة ماء!

الخروج من هذا المأزق يستلزم البناء من جديد ـ من الأساس ومن خلال التعلّم من التجارب الفاشلة والقاسية. وكما قال محمود درويش في قصيدته “سيناريو جاهز” ـ سأنتظر جيلًا آخر ليكمل هذا النصّ.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *