تقديم شكوى امام القضاء الفلسطيني ضد جرائم الانتداب البريطاني (22.10.2020): الاندماج والتحرر
في تاريخ 22.10.2020 تم تقديم شكوى في مدينة نابلس امام القضاء الفلسطيني ضد الانتداب البريطاني (1920-1948). وعلى الرغم من ان هذه الخطوة تأتي متأخرة الا ان بعض الأصوات تثير شكوك حول نتائج هذه الخطوة. في رأيي، يمكن تفهم هذه الشكوك دون التخلي عن التفكير بمبادرات وافعال من هدفها المطالبة بحقوقنا وتثبيتها. ما تبرير هكذا خطوة؟ هل هناك ما يدعمها في القانون الدولي؟ وبالأخص اننا نتحدث عن شكوى ضد دولة الانتداب، مما يعني ان هذه الخطوة تصطدم بمبدأ الحصانة القضائية للدولة وهو مرتبط بالمساواة بين الدول وعدم إمكانية محاكمة دولة في محاكم دولة أخرى.
عرف مبدأ الحصانة القضائية للدولة تطورا في الفترة الأخيرة من ناحية الحالات الاستثنائية التي يمكن عدم الالتزام بهذا المبدأ وقد تم ذكرها في قائمة أولا ضمن اتفاقية بازل 16/03/1972 وهي اتفاقية طرحتها منظمة مجلس أوروبا ومن ثم على مستوى دولي ضمن اتفاقية الأمم المتحدة 2/12/2004. اود او انوّه الى المادة 11 في اتفاقية بازل التي تنص على ما يلي:
“لا يجوز للدولة المتعاقدة أن تحتج بالحصانة من الولاية القضائية أمام محكمة دولة متعاقدة أخرى عندما تتعلق الإجراءات بالتعويض عن الضرر الجسدي أو المادي الناتج عن فعل يحدث في إقليم دولة المحكمة. وأن صاحب الضرر كان موجودا هناك وقت حدوث هذه الحقيقة “.
وتم إعادة ذلك في المادة 12 من اتفاقية الأمم المتحدة 2004:
في حالة حدوث ضرر أو خسارة في الممتلكات المادية، بسبب فعل أو إغفال يُدعى أنه يُنسب إلى الدولة، إذا حدث ذلك الفعل أو الامتناع، كليًا أو جزئيًا، في إقليم تلك الدولة الأخرى وإذا كان صاحب الفعل أو الامتناع عن الحضور موجودًا في ذلك الإقليم وقت فعل أو امتناع”.
هل تُشكل مواد هذه الاتفاقيات تقنينا لقواعد عرفية قائمة كون ان الاتفاقية الأولى لم يصادق عليها أكثر من 8 دول أوروبية وكون الاتفاقية الثانية لم تدخل حيز التنفيذ بعد؟
ردت المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان بالإيجاب على ذلك في قضية Guadagnino v. Italy and France 29/06/2011. اما محكمة العدل الدولية (في قرار إيطاليا ضد المانيا 2012) وعلى الرغم من عدم ذكرها لاتفاقية الأمم المتحدة الا انها اكدت على ممارسة سبعة دول بما فيها دولة إسرائيل والولايات المتحدة واليابان وأستراليا والأرجنتين وجنوب أفريقيا وكندا حول إمكانية مقاضاة دولة إذا الحقت هذه الدولة ضرر بأملاك واشخاص في إقليم دولة المحكمة. اعتبرت المحكمة ان هناك “ممارسة مهمة” قد تكوّنت في موضوع نطاق وحدود مبدأ الحصانة من الولاية القضائية للدولة. في هذا القرار، تناولت المحكمة الدولية تطور العلاقات بين إيطاليا وألمانيا بخصوص هذا الموضوع حيث لا بد ان نذكر ان الدولتين قد ابرمت اتفاقية في العام 1961 حول تعويض الجنود الايطاليين الذين تم نفيهم الى المانيا بين سنوات 1943 -1945، سنوات الاحتلال النازي لجزء من الأراضي الإيطالية، وقد حصلت إيطاليا على 40 مليون مارك تعويضا عن ذلك. الا ان هذا لم يمنع من ملاحقة مواطنين ايطاليين للدولة الألمانية وأود ان اذكر هنا حالة جندي إيطالي باسم Luigi Ferrini الذي تقدم بشكوى الى محكمة مدينة Arrezo 1998 أي امام القضاء الإيطالي مطالبا الدولة الألمانية بتعويضه. رفضت المحكمة طلبه باسم الحصانة القضائية لألمانيا امام المحاكم الإيطالية وأكدت على القرار محكمة الاستئناف في مدينة فلورنس لكن محكمة النقض الإيطالية كسرت القرار وأكدت ان “الحصانة القضائية للدولة لا تثار الا في حالة جرائم دولية” (17/02/2011). يضاف الى ذلك الشكاوى التي تقدم بها مواطنين يونانيين امام محكمة Livadia في اليونان ضد الدولة الألمانية 1997 عن جرائم ارتكبت خلال الاحتلال النازي 1944 لليونان لكن محكمة النقض اليونانية رفضت تنفيذ القرار لان المانيا تتمتع بحصانة من الولاية القضائية الوطنية. لهذا طلب المواطنون اليونانيون قرار من محكمة إيطالية لتنفيذ قرار محكمة Livadia وهذا ما فعلته محكمة الاستئناف في فلورنس من خلال اجبار المانيا على تنفيذ القرار بوضع اليد على فيلا فيغوني والتي هي ملك الماني في إيطاليا.
إذا عدنا الى الشكوى امام القضاء الفلسطيني فهي تعيدنا بدورها الى اصدار تصريح بلفور 1917 وادخاله في صك الانتداب مما تعارض مع نظام عصبة الأمم وليس من الغريب ان يستخدم المؤرخ الكبير جورج انطونيوس كلمة “نكبة” في العام 1920 للحديث عن أثر هذا القرار على شعوب المنطقة. كما انه لا يمكن تجاهل سياسة الاستعمار البريطاني تجاه سيطرة الحركة الصهيونية على الأرض وعلى الموارد الطبيعية بالإضافة الى النهج القمعي الذي مارسه بحق الفلسطينيين في تمثيليهم السياسي او الملاحقة للنخب الفلسطينية ونفيها وتدميرها بعد فترة 1936.
بالإضافة الى موضوع الحصانة وإمكانية تجاوزه في حالة ارتكاب جرائم دولية، أرى من الضروري ان نعتبر خطوة التوجه للقضاء الفلسطيني واستخدام القانون الدولي من ضمن خيار “الاندماج والتحرر”. بما ان القانون يصقل ويُصقل على يد المجتمع، لذا لا يمكن ان يعتبر فقط أداة سيطرة من قبل الجهة القوية اذ بالإمكان ان يُستخدم أيضا كأداة تغيير من قبل من يخضع لهذه الجهة القوية. ما تسعى اليه النخبة الفلسطينية هو الاندماج في المجتمع الدولي (الانضمام الى المؤسسات الدولية والى الاتفاقيات الدولية او الانضمام الى المعايير القانونية والأخلاقية للنظام الدولي). وفق اميل دوركهايم، الاندماج الاجتماعي يتطلب التضامن والتماسك الاجتماعي. يتطلب اندماج الفلسطينيين في المجتمع الدولي إعادة النظر في توزيع الموارد الاقتصادية وذلك بالاستناد الى الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وكرامته. في الفترة الأخيرة التي تسود فيها اللبرالية المستجدة نجد إعادة النظر في تعريف الاندماج في المجتمع الدولي من خلال التركيز على امن الفرد ورفاهيته. من المهم ان لا تكون إعادة النظر في الاندماج على حساب دور الدولة في التنمية وفي الامن الإنساني. ما نسمعه من قول حول ” الدولة الفاشلة” هو استخدام امن الفرد كحجة للتدخل والضغط على النخبة الحاكمة المحلية وربط شرعيتها بما تقرره القوى الكبرى في المجتمع الدولي من فحوى لهذه الشرعية. يخدم قول “الدولة الفاشلة” الى جعل النخبة المحلية مسؤولة امام هذه القوى وليس امام جماهيرها في الداخل. انطلاقا من الاندماج او الالتزام بالمعايير القانونية يميّز اميل دوركهايم بين سلوك طبيعي وسلوك مرضي. في كتابه: “المانيا فوق كل شيء. العقلية الألمانية والحرب”(1915) يتعرض دوركهايم الى “إرادة القوة” عند المانيا والتي تنطبق اليوم على دولة الاحتلال اذ يكتب انه ” بدون الحرب، لا يمكن استيعاب الدولة. ويشكّل حق شنّ الحرب وفق ارادتها الميزة الأساسية لسيادتها” (…) “عندما تتواجد الدولة في وضع لا تستطيع رفع سيفها كما تريد فإنها لا تستحق اسمها”. هذه الرؤية للقوة تبرر انتهاكات المانيا النازية للقانون الدولي في الماضي وهي تبرر انتهاكات إسرائيل الكولونيالية للقانون الدولي في الحاضر وعدوانها على الشعب الفلسطيني بما في ذلك حروبها المتكررة على الاهل في غزة.
على مستوى الاعتراف، يعتبر Alex Honneth، وهو من رموز مدرسة فرانكفورت، ان نظرية الاعتراف التي طوّرها لا تنطبق على العلاقة بين الدول بسبب ان هذه العلاقة تخضع للعامل الاستراتيجي والعقلاني وليس للعامل النفسي كما هي الحال بين الافراد والمجموعات. في رأيه لا تعتبر الدولة الهيئة التنفيذية للهوية الجماعية فهي تهتم بتنظيم العلاقات الاقتصادية وبحماية الحدود. هنا، أرى ان الموقف النقدي هو ان الاعتراف يخص ليس فقط الافراد والمجموعات انما أيضا الدول كما تقول Emmanuelle Tourme- Jouannet, وتخص الاعتراف بمكانة قانونية متساوية لكن أيضا بهوية مختلفة. لا بد من التنويه ان الدولة الفلسطينية اُعترف بها من قبل دول ومجموعات وافراد تجمعهم المطالبة بنظام عالمي يستند الى العدالة والمساواة. كما انه من الضروري عدم فصل الدولة عن الافراد والمجموعات وكأن الدولة هي المرجعية العليا في العلاقات الدولية والاستراتيجية. في رأيي، ربما من المفيد ان نعود الى نظرية جون لوك الخاصة بالمجتمع كحالة سابقة للدولة تملك الحق في حماية ذاتها من تهديدات وجودية وتهديدات تتعلق بحريات افراد هذا المجتمع. يمكن ان نرى في جنوب أفريقيا نموذجا لما نريد التنويه اليه وهو المفهوم الواسع للأمن وللتهديدات التي يتعرض لها المجتمع. فالأمن هو امن “الشعب” وليس امن الإقليم. لم تعد مسألة الامن محصورة على الدولة التي ما هي الا مجرد أداة لضمان امن المجموعات والافراد اذ قد تمثّل الدولة هي ذاتها تهديدا للمجموعات وللأفراد. الاتجاه يجب ان يكون بتبني موقف واسع للأمن يرفض مركزية الدولة. عندما نشأت الدولة في أوروبا تم تعريفها على انها مجتمع هدفه الأساسي الامن: “الدولة ليست المرجعية وليست الشخص الأخير في موضوع الامن. فقد فهمت الدولة بانها كيان يهدف الى تحقيق الامن العام مع الالتزام بالحفاظ على القيم الإنسانية”. الدولة هي أداة لتحقيق الامن والافراد هم اشخاص الامن. هذا يعني ان الدولة منذ البداية فهمت بانها سيادة وحقوق. وقد مثّلت سنوات التسعينات لحظة مراجعة لنظرية العلاقات الدولية من خلال الانفتاح على مرجعيات أخرى غير الدولة والخروج عن اعتبار الدولة اللاعب الأساسي في العلاقات الدولية وعن تميّزها الأخلاقي. فالدولة هي حق تقرير مصير لمجموعة معينة وهي متسع يمارس فيه الافراد حرياتهم وحقوقهم كما ان من واجبها ضمان سلامة ورفاهية الفرد من خلال توسيع معنى الامن الى الامن الإنساني والامن المجتمعي. اذن، لا بد من التنويه الى ان المطالبة بالدولة شيء واعتبار الدولة المرجعية العليا واللاعب الأساسي في العلاقات الدولية والأمنية شيئا اخر.
يتوقع دوركهايم ان السلوك المرضي ضد طرف معين سيولد عند هذا الأخير موقفا مرضيا، لهذا من الضروري ان يتم الاهتمام بالمقاومة وبالتحرر كبناء لفضاء مدني فلسطيني. وفق قراءة Etienne Balibar للفيلسوف سبينوزا، لا يمكن للعنف المفرط ان يلغي الحيز المقاوم لدى الفرد مهما عمل على تضييقه. في معناه الجوهري يهدف العنف المفرط الى الغاء أي مقاومة لكن وبالذات في هذه الشروط التي يفرضها العنف المفرط تكمن إمكانية السياسة، وتتمثّل في ممارسة المقاومة. والمقاومة لا تنحصر في الاحتجاج على الوضع القائم بل تتضمن أيضا بناء فضاء تتشكل فيه الذاتيات النشطة واشكال التضامن الجماعية. ما يتم الإشارة اليه هنا هي فكرة ان المقاومة مرتبطة بعلاقات القوة وهي تنبثق عنها وقد تأخذ المقاومة شكل مقاومة محلية كما شهدنا في السنوات الأخيرة في النبي صالح وفي القدس الشرقية وغيرهم اذ تُظهر هذه المقاومة قدرة على تعميم وأنسنه الصراع. بالإضافة الى ذلك، قد تتمثّل المقاومة بالتوجه الى المؤسسات الوطنية كما هي الحال في تقديم الشكوى ضد الانتداب البريطاني في القضاء الفلسطيني اذ تمثل هذه الخطوة ترجمة لما يقوله إتيان باليبار بان المقاومة ليست حق بل مطالبة منشئة للحقوق ولا أحد يستطيع ان يتحرر من اعلى او من الخارج بل من خلال اعماله. كذلك، في هذه الخطوة يتم اعتبار ان الدولة الفلسطينية مثل أي دولة أخرى تستطيع تفسير القانون الدولي والتأثير فيه وليس فقط الانصياع له، بالإضافة الى التعاطي مع الدولة الفلسطينية التي نطالب بها بان تكون “سيادة وحقوق” وان هدفها الأول والأسمى هو حماية المواطن الفلسطيني وضمان حقوقه التي انتهكت وما زالت تُنتهك.