تفكيك الاحتلال الإسرائيلي على طريقة فرنسيسكا البانزا

في 13 تشرين الثاني الجاري نشرت مبعوثة الأمم المتحدة للأراضي الفلسطينية المحتلة، فرنسيسكا البانزا، تغريدة في تويتر تتعلق بسفير إسرائيل في الامم المتحدة، جلعاد اردان، ردا على خطاب آخر من خطابات الغضب المحرجة له وكتبت: “أنا قلقة جدا من لهجة ومضمون أقوال السفير اردان. لن تكون الامم المتحدة بيتاً للتخويف وللتهديد باعمال انتقام”. في حسابها على تويتر اعتادت البانزا أن تشارك بين حين وآخر تغريدات ومقالات انتقادية ضد إسرائيل وتصريحات شديدة تجاهها. ولكن من قراءة التقرير الأول الذي اصدرته منذ تسلمها منصبها في نيسان الماضي يتبين أنها، شبيهة بأردان، هي ايضا بالأساس تعمل على الحفاظ على “الوضع الراهن”.
تقريرها مصوغ كمقال رأي عن الصهيونية وعن الكولونيالية وعن طرق مكافحتها. حسب رأي البانزا فانه بدلاً من التركيز على جريمة الابرتهايد يجب التركيز في الخطاب على الكولونيالية. وقد شرحت أن التركيز على الابرتهايد هو أمر إشكالي، ضمن امور اخرى، لأنه اذا تم حل مشكلة التمييز العنصري، طالما أن إسرائيل تحتفظ بالاراضي وراء الخط الاخضر، سيكون هذا جريمة “اعتداء” وسيستمر مشروعها الكولونيالي هناك. اقتراحها هو التنازل عن التركيز على جريمة الابرتهايد، رغم أنه بالتحديد في السنتين الاخيرتين بدأ هذا المفهوم يتجذر ويؤثر على مواقف الجمهور في دول كثيرة بعد أن حصل على اعتراف من قبل منظمات حقوق انسان إسرائيلية ودولية وعلى يد سلفها في هذا المنصب، مايكل لينك، يذكر كيف أن كل وزير للمواصلات في إسرائيل معني بـالقاء اصلاحات سلفه في القمامة لصالح اصلاح جديد يكون مسجلا على اسمه.
معنى الاقتراح هو إفراغ النضالات القانونية والعامة من المضمون، تلك التي اديرت في العقود الاخيرة لوقف الحصانة الساحقة التي تعطى لإسرائيل وجهات إسرائيلية رفيعة في الساحة الدولية. في حين أن معظم دول العالم ملتزمة بمواثيق دولية لمساعدة انفاذ القانون مع منفذي جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، مثل الابرتهايد والاعدام بدون محاكمة وعدم التمييز بين المدنيين والاهداف العسكرية الشرعية وحرمان جماعي من الحقوق والتعذيب. منذ محاكمة الزعماء والجنرالات الالمان واليابانيين في نهاية الحرب العالمية الثانية لم يتم عقد أي محاكمات جنائية دولية بسبب جريمة الاعتداء، خاصة بعد غزو العراق وافغانستان، حيث لا يوجد لدول الغرب أي مصلحة في عقد مثل هذه المحاكمات. لذلك، من غير المفاجئ أنه بدلا من الاشارة في التقرير الى اسماء شخصيات إسرائيلية رفيعة محددة هي مسؤولة عن جرائم محددة، فان البانزا اختارت رفع العتب، ودعت فقط بشكل عام الى اجراء تحقيق دولي وتقديم المسؤولين عن الجرائم للمحاكمة.
استغرقت الامم المتحدة حوالي ثلاث سنوات ونصف لاعداد قائمة بأسماء الشركات التي تعمل في المستوطنات في الضفة الغربية، بعد قرار مجلس الامن الذي أمر بذلك في كانون الاول 2016. بدون تبرير اوصت البانزا بتحديث القائمة، وهي خطوة يتوقع أن تمتد بضع سنوات، بدلا من توجيه اصبع الاتهام لدول محددة تتجاهل القائمة الموجودة. بوساطة بحث بسيط في “غوغل” كان يمكنها أن تكتشف بأن صندوق التقاعد الحكومي للنرويج يستثمر مليارات الدولارات في شركات إسرائيلية، بما في ذلك التي تعمل في المستوطنات والتي تظهر في قائمة الأمم المتحدة.
رغم أن تقريرها يركز على مسألة الكولونيالية وعلى حق تقرير المصير إلا أن البانزا نفسها لديها موقف كولونيالي. حسب اقوالها فانه بسبب عدم التماثل بين الطرفين فان الفلسطينيين وقيادتهم لا يمكنهم إجراء مفاوضات نزيهة مع إسرائيل، ويجب تحويل قضية تفكيك الاحتلال في الضفة وفي قطاع غزة الى الجمعية العمومية للأمم المتحدة. يصعب فهم الاساس القانوني لادعاء البانزا بأن الشعب الفلسطيني، الذي يتمتع بحق تقرير المصير، لن يكون مخولا بأن يجري بنفسه النقاشات حول مصيره.
طوبى لمن يؤمن بأن الدول المؤيدة لإسرائيل أو الدول التي تشتري منها منظومات السلاح والرقابة وخلال 55 سنة لم تترجم تصريحاتها الانتقادية الى اعمال، ستتوقف عن خيانة الفلسطينيين. هذا الامر صحيح بالاحرى بعد اتفاقات ابراهيم. تركيز البانزا على الجانب الكولونيالي موجود على طول تقريرها: القيادة الفلسطينية بنجاحاتها واتفاقاتها تقريبا لا توجد فيه. والفلسطينيون يتم وصفهم كموضوعات وليس كذوات في المشروع الكولونيالي لإسرائيل وفي مشروع البانزا لتحريرهم.
شبيها بقصة البعثة الاسبانية برئاسة كريستوفر كولومبوس التي وصلت الى أميركا في 1492 وبدأت عملية الاستعمار دون أن يكون للمستوطنين الاوروبيين أي علاقة تاريخية سابقة باراضي السكان الاصليين، هكذا، حسب البانزا، وصل “مستوطنون يهود ولاجئون من اوروبا” الى فلسطين في اعقاب قرار التقسيم للامم المتحدة في 1947، رغم أنه “كان يعيش في هذه البلاد خلال الف سنة سكان عرب”. فسرت البانزا ذلك بتعزز الدعم الدولي لتحقيق اقامة “دولة لليهود” في فلسطين في اعقاب الذروة العنيفة للكارثة بعد مئات السنين من اللاسامية واضطهاد اليهود.
إن محو أي علاقة تاريخية ودينية لليهود بـ “أرض إسرائيل” قبل 1947، لا يناقض فقط التوثيق التاريخي والاثري، بل هو ايضا يذكر بالادعاء اللاسامي بشأن مؤامرة عالمية للاجئين يهود لطرد السكان الفلسطينيين الاصليين مع استخدام الكارثة كذريعة لذلك؛ هكذا فان الادعاءات الآن في اوساط اليمين المتطرف في اوروبا بشأن مؤامرة اسلامية لينفذ هناك بوساطة اللاجئين استعمار على حساب السكان المسيحيين الاصليين. أي أنه بعد أن اجتازت معسكري تجميع وتجارب طبية واعمال قسرية ومسيرة موت، بقيت جدتي بدون معظم ابناء عائلتها الذين قتلوا، بدون اسنان وشعر واعضاء داخلية تعمل كالمعتاد، لكن كان لها هاتف بالاقمار الصناعية بوساطته نسقت مشروعا كولونياليا. الحقيقة هي أنه لم يكن لديها أي معلومات عن الفلسطينيين وهي ببساطة جاءت الى المكان الوحيد في العالم الذي استقبلها.
إن ادعاء البانزا بأن اليهود بدأوا في الوصول بجموعهم الى فلسطين فقط لأن شعوب العالم أشفقت عليهم بعد الكارثة، هو ادعاء غير صحيح من ناحية الواقع. فالحديث لا يدور عن الشفقة، بل عن المصالح. الدول التي لم تكن مرتبطة بالكارثة كانت لها مصالح سياسية متنوعة في تصويتها في الامم المتحدة لصالح “خطة التقسيم”. ايضا بعد الحرب العالمية الثانية فان اقامة دولة لليهود في فلسطين كانت حلا مريحا بالنسبة للدول الاوروبية التي لم ترغب في أن تستقبل مرة اخرى اللاجئين اليهود، الذين في معظمهم اصبحوا بدون وثائق رسمية تشخصهم وممتلكاتهم تمت مصادرتها وبعضهم كان في وضع صحي شديد، وفضلت اختفاء اليهود في فلسطين أو في الولايات المتحدة.
يقلل هذا الادعاء ايضا من خطورة اللاسامية ويتجاهل حقيقة أنه رغم أنه كان هناك يهود هاجروا الى فلسطين بارادتهم إلا أن الموجة الكبيرة من هجرة اليهود الى فلسطين قبل الكارثة جاءت نتيجة المذابح واللاسامية والقوانين اللاسامية، ومن التأثير الدراماتيكي الذي كان لسن قيود على الهجرة الى الولايات المتحدة في 1924. أي أن الحديث لا يدور عن ذريعة لا اساس لها استهدفت فقط تبرير الكولونيالية، بل بدافع حقيقي لليهود للهجرة الى فلسطين. مثلا، جدي مثل يهود آخرين، هاجر الى فلسطين بعد سلسلة من المذابح في غرب اوكرانيا (حسب التقديرات بين الحربين العالميتين قتل نحو 200 ألف يهودي في اوكرانيا).
عبرت البانزا في التقرير عن تأييدها للنضال الفلسطيني المسلح كجزء من النضال المشروع ضد الكولونيالية. منذ انتهاء الحرب الباردة فان نضالات التحرر في الربع الاخير للقرن العشرين تضاءل الدعم الدولي لشرعية وقانونية الكفاح المسلح لحركات التحرر والمجموعات الانفصالية. في السياق الفلسطيني فان معظم التنظيمات الفلسطينية المسلحة الرئيسية اعلن عنها تنظيمات “ارهابية” من قبل معظم الدول الاوروبية وكندا واليابان واستراليا والولايات المتحدة. تتجاهل البانزا هذه الاعلانات.
اضافة الى ذلك، يتضمن النضال الفلسطيني المسلح بين حين وآخر مسا متعمدا بمدنيين يهود – إسرائيليين. مقاربة اللاساميين المتذاكين هي تأييد النضال المسلح الفلسطيني دون اضافة جملة اخرى “صغيرة”، بأنه من المحظور المس بالمدنيين على انواعهم. تعرف تقريبا البانزا أنه من بين المبادئ الاساسية للقانون الدولي فان يوجد حظر للمس المتعمد بالمدنيين وواجب التمييز بين المدنيين والاهداف العسكرية. لذلك، ايضا في تقرير لجنة التحقيق بشأن جنوب افريقيا تقرر أن جرائم نظام الابرتهايد لا يمكن أن تشرعن تنفيذ جرائم حسب القانون الدولي من قبل مجموعات مسلحة لحركات التحرر. بشكل مشابه، أي جريمة ترتكبها دولة إسرائيل وقوات الامن فيها لا يمكن أن تشرعن المس المتعمد بمدنيين يهود – إسرائيليين.
اضافت البانزا الى ذلك ادعاء، من غير الواضح مصدره في القانون الدولي، يقول بأنه بسبب أن إسرائيل هي محتلة كولونيالية فقد فقدت الحق في الدفاع عن النفس والنشاطات الوقائية. أي أنه اذا كانت هناك معلومات بأن هناك فلسطينيا ينوي الوصول الى ملهى في تل ابيب واطلاق النار هناك كما حدث في ملهى “الكا بار” في تل ابيب في ايار الماضي، أو أن هناك نية لتفجير حافلة في القدس، فليس لدى إسرائيل امكانية قانونية لحماية مواطنيها. تعرف البانزا نفسها أن هذا موقف غير مقبول. وفي تغريدة لها في تويتر كتبت بأنها تأمل في أن تتبنى اللجنة الدولية للصليب الاحمر، التي هي من الجهات التي تضع قواعد القانون الدولي العرفي الانساني، موقفها.
في عهد الشبكات الاجتماعية لا يجب بذل جهد خاص لكسب التعاطف بوساطة انتقاد إسرائيل. يكفي ترديد صدى مزاعم تآمرية معادية للسامية من اجل تشويه قواعد القانون الدولي والايحاء بدعم المس بالمدنيين. اذا انتقدت إسرائيل البانزا ورفضت مقابلتها فان مكانتها في اوساط معينة ستتعزز، وسيتم اعتبارها مستضعفة. من جهة اخرى، دعوتها الى قطيعة حقيقية مع الوضع الراهن قد تضطرها الى دفع ثمن شخصي: اذا ارادت أن يوافق الدبلوماسيون الغربيون على مقابلتها، واذا ارادت الاستمرار في تولي مناصب رفيعة في الامم المتحدة أو المؤسسات الدولي الاخرى الممولة بشكل اساسي من الدول الغربية، لا يمكنها المجازفة بتوجيه اصبع الاتهام الى الولايات المتحدة ودول اوروبية معينة، بسبب مساعدتها المباشرة وغير المباشرة لسياسة الفصل العنصري في إسرائيل. لا يمكنها تحدي الحصانة القانونية والدبلوماسية التي تعطيها اياها هذه الدول، أو أن تطالب بصورة صريحة الولايات المتحدة بوقف أو تغيير المساعدات العسكرية لإسرائيل.
ربما يكفي تقريرها متابعيها في تويتر، لكن اللاجئين الفلسطينيين في ارجاء العالم والفلسطيين على جانبي الخط الاخضر يستحقون اكثر من ذلك.

 عن الأيام( المصدر: “هآرتس”)

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *