تمّ تنفيذ وقف إطلاق النار من قبل إسرائيل والقوى المسلحة في غزة قبل فجر الجمعة الماضي، بعد حرب دامت أحد عشر يوماً، ما بين قصف إسرائيلي بالطيران والمدفعية، وقصف» غزاوي» بالصواريخ. وكان طبيعياً أن تنطلق مظاهر الارتياح في كل الأراضي الفلسطينية وبين كلّ الفلسطينيين، وكلّ من يهتمّ لأمرهم أو يحمل همّهم معهم. ولعلّ تلك المظاهر؛ التي تعبّر عن الإحساس بالنصر أو الفرح بوقف العدوان والدمار؛ أعطت العالم انطباعاً بخسارة أصابت الإسرائيليين، الذين عادوا قبل ذلك إلى تطوير نزاعاتهم واتهاماتهم في ما بينهم.
من الناحية العسكرية، كانت تلك الحرب؛ وهي الرابعة على غزة منذ عام 2008 (حرب الفرقان وعامود السحاب والجرف الصامد وهذه الأخيرة سيف القدس)؛ ما بين الجيش الإسرائيلي من جهة، وحركة حماس مع الجهاد الإسلامي وبعض المجموعات الأصغر من جهة أخرى. وكان سلاح الجهة الثانية الوحيدة تقريباً هو الصواريخ.
ولعلّ الجانب الفلسطيني في غزة أراد أن يحقق عدة أهداف دفعة واحدة، منها ما كان في الواجهة، وهو دعم القدس وقضية حيّ الشيخ جراح خصوصاً، إضافة إلى كسب نقاط مهمة في التموضع الفلسطيني الداخلي، مع احتدام مسألة الانتخابات، ومحاولة فرض مركز وأهمية أكبر لتلك القوى في أي محادثات سلام مقبلة.
في حين كانت إسرائيل أمام امتحان عسير لقدرتها على المواجهة وفرض هيبتها، يتداخل مع حسابات انتخابية أيضاً لنتنياهو وحلفائه، في خضمّ الأزمة السياسية المستمرة منذ زمن طويل، التي تكاد تذهب به وبمستقبله السياسي.
وقد استطاعت مصر- مع دور قطري ضروري – أن تنجح في وساطتها للتوصّل إلى وقف إطلاق النار، الأمر الذي سوف يساهم؛ مع نقاط أخرى؛ في استعادة دور عربي لمصر، ولكن مع حظوة إضافية لقيادتها الحالية أمام الأمريكيين والأوروبيين، ربّما كان ذلك نجاحاً لنموذج كامب ديفيد في النتيجة، أحببناه أم لم نحبّه. لكنّ سؤالاً يتبادر إلى الذهن، لا بدّ من مواجهته أو طرحه: هو هل كانت تلك حرباً بالوكالة، وليس احتدام مفاوضات الاتفاق النووي ووصولها إلى مفترق حاسم؟ وحده ما يثير هذا السؤال، وإنما كذلك ما ظهر من دخول للنقطتين الثانويتين على هامش تلك المفاوضات، وهما صواريخ إيران وتصديرها لثورتها وقلاقلها في المنطقة. وقد كانت الصواريخ – قيل أكثر من أربعة آلاف – تمرح على الشاشات لأحد عشر يوماً، وشكّلت رعباً للإسرائيليين، لم تستطع «القبة الحديدية» أن تزيله، رغم فعاليتها التي ظهر منها حوالي تسعين في المئة وحسب، وتلك نسبة مخيبة ومحبطة. أكدت الإدارة الأمريكية عند وقف إطلاق النار التزامها بترميم تلك القبة، وإصلاح ثغراتها التي عبرت نسبة منها إلى المدن الإسرائيلية. وإسرائيل في الصراع مع إيران ليست وكيلة وحسب بالطبع، بل هي طرف أصيل وقريب له سماته الخاصة به، وشريكة للولايات المتحدة في شعار «الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل». وقد حققت من طرفها نجاحات استخباراتية مهمة في تعطيل مشروع إيران، بالتفجيرات والاغتيالات في نقاط حساسة. فليس غريباً أن يرى أولئك الباحثون عن الغرابة في حرب غزة، رداً إيرانياً على تلك النجاحات، يكيل الصاع صاعين، مع حمولة أيديولوجية مميزة، تضيف للجبهات الأربع في العراق وسوريا ولبنان واليمن جبهة خامسة.

من منظور مختلف قليلاً، هنالك انتخابات إسرائيلية متكررة، وأخرى إيرانية حرجة قريبة، وثالثة فلسطينية لها أهمية بحجمها، ولا يمكن تجاهل أثر ذلك على درجة التوتر الذي يحيق بالأطراف المعنية، وينقلها إلى دائرة العنف. ذلك في الحقيقة استطراد جانبي، ولكن لا بدّ منه عند تقليب الأمور بظاهرها وباطنها، قريبها وبعيدها. وسؤال آخر يتعلّق بمن هو الطرف المبادر للحرب، هل هو إسرائيل التي ضغطت كعادتها بالسلوك العدواني العنصري على عصب القدس في قضية الشيخ جراح، حتى اضطرت حماس لإطلاق صواريخها الأولى التي أجبرت إسرائيل على الالتزام بقواعد الاشتباك لديها، وأولّها الغطرسة والاحتفاظ باليد العليا دائماً؟ أم أنها حماس التي تعلم جيداً تلك القواعد؛ كما كان يعرفها حزب الله حين اختطف الجنود الإسرائيليين في عام 2006؛ وأجرت حساباتها الداخلية والخارجية من كلّ الجوانب، وأقدمت على ما أقدمت عليه، مخاطرة بما نتج من ضحايا ودمار على غزة وأهلها؟ إضافة إلى الحرب الاستخباراتية التي تتفوق فيها إسرائيل، والحرب الملاحية التي تتفوق فيها إيران غالباً، هنالك حرب صواريخ تستطيع إيران ولوج طريقها، ولكنها لا تستطيع تطبيقها بنفسها، لأنها تعرف أن الثمن قد يكون كبيراً لا تحتمله، في حين يمكن للبنان أو سوريا أو غزة أن تفعل.
كانت هنالك أصوات فلسطينية مشهود لها بالعقل والوطنية، قد حذّرت من الصواريخ الأولى قبل إطلاقها وبعده بقليل، وأكّدت على الاستمرار بسلوك طريق الانتفاضة الأولى مع تحديثه بما يلزم. وبعد ما حدث، لا بدّ من تكرار التساؤل حول ما إذا كان من الممكن استبدال المبادرة إلى العنف بالتحركات السلمية وتنويعها وتدعيمها بأشكال من الوحدة والتحريض والدعوة، حتى تصبح إحراجاً كافياً لإسرائيل. لقد فتح نجاح الإضراب الكبير يوم الأربعاء الماضي، الذي ضمّ كل الأراضي الفلسطينية التاريخية للمرة الأولى منذ يوم الأرض، باباً للأمل بالتحرير والحرية، ربّما كان واحداً من أسباب قبول إسرائيل بوقف إطلاق النار، إن صحّ أنه قد سبق أوانه الحقيقي لديها. أمّا في ما يخصّ قضية حي الشيخ جراح، فربّما ينبغي الانتظار قليلاً حتى يكون التأكّد من نجاح الصواريخ في إجبار الإسرائيليين على التراجع، حيث لم يُذكر شيء من ذلك في اتفاق وقف إطلاق النار، الذي أكّد الجميع؛ وعلى رأسهم حماس؛ إنه» من دون أي شروط». النجاح الظاهر- الظاهري – حتى الآن هو في الوحدة الفلسطينية التي تجلّت أيام الحرب، والتي بعثت آمالاً عريضة لدى الفلسطينيين وأشقائهم وأصدقائهم باحتمال تحقيقها أخيراً، بحيث تعود المنطقتان منطقة واحدة، تحت سلطة واحدة ديمقراطية ووطنية… هذا احتمال موجود، تتحمّل القوى كلّها مسؤولية الاستجابة له؛ من حماس والجهاد وارتهانهما أو استعدادهما للتنقّل بين الأصولية والتطرف، إلى السلطة التي تستمرّ منذ زمن بالتفسّخ والانحلال؛ ومن المحزن أن يكون ذلك الأمل ضعيفاً أو ربما معدوماً، لا سمح الله.
يلفت الانتباه كلام السيد إسماعيل هنية في خطاب النصر، بقوله إن المقاومة وحدها هي الطريق إلى تحصيل الحقوق، لا التفاوض ولا غيره من الأدوات غير المسلحة. ذلك ينسجم تماماً مع أفكار على الجانب الآخر لا ترى حلولاً إلّا من خلال الحرب المستمرة. ولا يمكن لنا – نحن السوريين مثلاً- أن نهضم شكره لإيران على المال والسلاح، الذي يدعم بكلّ أسف فكرة الحرب بالوكالة. لا يمكن أيضاً على الإطلاق هضم شكر أحد مساعديه للطاغية الأسد. ليس من مقياس عملي لمكسب من تلك الحرب، إلّا تبلور مشروع صحوة جديدة، يقابل نجاح الإضراب العام بما يستحقه، حتى لا يذهب – بفعل الفاعلين- هباءً ويتحوّل إلى حدث يذكره التاريخ في متونه أو هوامشه. على الرغم من الألم والحماسة التي اجتاحتنا، إلّا أن بعضنا لم يعد أسيراً كما كان خلال أكثر من نصف قرن للقضية «المركزية» التي تشبه بمركزيتها طلب المنوِّم المغناطيسي لمن يجلس أمامه، تركيز بصره على نقطة تنوس لتلهيه عن العالم، وتودي به للخدَر والنوم والاستلاب. هذا دأب أنظمة الاستبداد العربية كلّها، وأيديولوجيات الشمولية كلّها. قضية فلسطين في العين والقلب والعقل، قضية كبيرة مشتركة وبمنتهى الأهمية وجزء مكوِّن لا ينفصل عن قضية التحرر والحرية والتقدّم. ويبدو أن اعتبارها مركزية على تلك الطريقة خاطئ، لأن الاستبداد والتأخر عن الحضارة العالمية هو القضية المركزية، كما ينبغي أن تكون. ويمكن بالطبع تفهّم الأسى الذي يثيره مثل هذا الحديث في أكثر من مكان.
قلنا يوم تحرير جنوب لبنان في ربيع عام 2000، إنه يحقّ لنا الابتهاج قليلاً، رغم كلّ ما ظهر من مقدّمات آنذاك لما سوف يحدث لاحقاً، في استعراض حزب الله للقوة الغاشمة التي تثير الرعب – الأيديولوجي، المذهبي، الطائفي – في الصديق قبل العدوّ، أو من دونه. واليوم، ومع الغصة الكبيرة أمام دماء غزة ودمارها، لا نستطيع أن نبتهج حتى بتعاسة المعتدي الإسرائيلي، لأن لدينا مثلها، وأكثر…

عن القدس العربي

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *