ترمب وإسرائيل… تعاطف واضح وغير محدود
من المثير للاهتمام تتبع السياسة الخارجية التي سينتهجها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، في السنوات الأربع القادمة إزاء إسرائيل، وفيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية، وذلك بالمقارنة مع السياسة الخارجية التي انتهجها في عهده الأول (2016-2020).
بيد أن ما يجب ملاحظته أن المسرح السياسي في الشرق الأوسط بات يختلف اليوم عما كان عليه بالأمس، تبعا للتداعيات الناجمة عن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين منذ حوالي 14 شهرا، والتي باتت تشمل لبنان، وربما تصل، بهذا المستوى أو ذاك، إلى سوريا والعراق، وربما إيران، أيضا.
القصد من ذلك أن أية مقارنة بين فترتي رئاسة ترمب يجب أن تأخذ في الاعتبار الجوانب المهمة الآتية: أولا، أن تلك الحرب، التي تتوخى منها إسرائيل إحداث تغيرات في الخريطة الجغرافية والبشرية والسياسية والأمنية في المنطقة، تأتي على هوى ترمب، والسياسات التي اتبعها إبان رئاسته الأولى. ثانيا، إن الولايات المتحدة هي بمثابة شريك فعلي، ومقرر في سياسات إسرائيل، وضمن ذلك في تلك الحرب، من خلال الدعم الكبير وغير المحدود الذي قدمته لها، في ظل إدارة الرئيس بايدن، في مختلف المجالات، الأمر الذي سيحدث أكثر منه في ظل إدارة ترمب، الذي تربطه علاقة أوثق ببنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة. ثالثا، يفترض أيضا إدراك أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة إزاء إسرائيل تتسم بالاستمرارية، في أغلب الأحوال، بغض النظر عن الرئيس أو الحزب الفائز في الانتخابات، علما أن مبدأ الاستمرارية يتمتع بثقل كبير في السياسة الأميركية المتبعة إزاء إسرائيل، كما بينت التجربة، وبغض النظر عن علاقة الرئيس الأميركي برئيس الحكومة الإسرائيلية.
سياسة ترمب فلسطينيا
منذ مجيئه إلى رئاسة البيت الأبيض، في عهده الأول، أبدى دونالد ترمب تعاطفاً واضحاً وغير محدود مع إسرائيل، خاصة في ثلاث مسائل. الأولى تنصّله من خيار الدولة الفلسطينية المستقلة، لصالح أي حل آخر، يهبط بسقف الفلسطينيين وحقوقهم. والثانية تغطيته مواقف إسرائيل المتعلقة بمواصلة أنشطتها الاستيطانية في الضفة، وفي القدس كعاصمة موحدة لإسرائيل. والثالثة سعيه إلى ترتيب علاقات إسرائيل في الإقليم، وفقا لما سمي “صفقة القرن”، باعتبارها هدفا بحد ذاته، بمعزل عن استجابتها لحقوق الفلسطينيين، ومع تغييب أي بعد كياني فلسطيني.
وكما شهدنا فقد قام ترمب في عهده الأول بخطوات تقطع تماما، من الناحية العملية والنظرية، مع قضية الفلسطينيين، ومع النهج الذي اتبعه الرؤساء الأميركيون قبله، ضمنها: قطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية، وإغلاق مكتب “منظمة التحرير الفلسطينية” في واشنطن، والاعتراف بالقدس الموحدة كعاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، وقطع التمويل عن وكالة الأمم المتحدة (الأونروا)، والإعلان بأن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة لا تنتهك القانون الدولي، والاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان.
ومعلوم أن رؤساء الولايات المتحدة، منذ مؤتمر مدريد (1991) في عهد الرئيس جورج بوش، وعقد اتفاق أوسلو (1993)، ومفاوضات “كامب ديفيد-2” (2000) في عهد الرئيس بيل كلينتون، وطرح خطة خارطة الطريق (2002)، ومؤتمر أنابوليس (2007) إبان عهد الرئيس جورج بوش الابن، والمفاوضات في عهد الرئيس باراك أوباما (2013ـ2014)، ظلوا محافظين على صورة الولايات المتحدة (ولو شكليا)، باعتبارها راعيا للمفاوضات وكوسيط “محايد”، بين إسرائيل والفلسطينيين، مع تمسّكها بعملية التسوية، وضمانها استقرار السلطة الفلسطينية، بيد أن إدارة ترمب أطاحت بكل ذلك.
ومع ذلك يفيد بأن نلاحظ هنا أن ما قام به ترمب لا يتناقض مع من سبقه من الرؤساء الأميركيين، لأن كل ما فعله أنه أماط اللثام عن حقيقة السياسة الأميركية المعادية لحقوق الفلسطينيين، وضمن ذلك حقهم في تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة لهم، مع دعمهم اللامحدود للسياسات التي تنتهجها إسرائيل.
ويمكن أن ندلل على تلك الحقيقة بواقع أن الرئيس جو بايدن لم ينقض خطوات ترمب، باستثناء استئناف الدعم المالي للسلطة ومنظمة “الأونروا”، مع خطاب أكثر تسامحا، أو مرونة، في الموضوع الفلسطيني، لكن مع دعم، بكل الأشكال، حرب الإبادة التي شنها نتنياهو في غزة وفي لبنان.
على ذلك، من البديهي أن الفلسطينيين الذين لم يتمكنوا من إقامة دولة مستقلة لهم في ظل رؤساء أميركيين سابقين، مثل كارتر أو كلينتون أو أوباما أو بايدن لن يتمكنوا من ذلك في ظل رئيس مثل ترمب، وفي ظل رئيس حكومة مثل بنيامين نتنياهو، أو أي من أمثاله.
قوة التأثير الأميركي
يفيد المثال الفلسطيني كمدخل لفهم محركات السياسة في الولايات المتحدة الأميركية، التي تلقى كل ذلك الاهتمام العالمي بها، وبانتخاباتها، من كونها الدولة الأقوى، والأكثر تأثيرا في العالم، من النواحي الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية والإعلامية والعسكرية والسياسية، وبحكم قوتها الناجمة عن الفجوة الكبيرة، من النواحي التكنولوجية والعلمية، بينها وبين سائر دول العالم، كونها بمثابة القاطرة للتطورات العالمية في هذين المجالين.
ويتأتى ذلك أيضا من قوة الاقتصاد الأميركي الذي يبلغ ربع الاقتصاد العالمي، مع ناتج محلي سنوي قدره 29 تريليون دولار، في حين يبلغ في الصين 19 تريليون دولار، وفي روسيا تريليونا دولار، مع فارق كبير لصالح الولايات المتحدة إزاء الصين، وفارق هائل لصالحها إزاء روسيا، نسبة لعدد السكان، إذ إن حصة الفرد من الناتج المحلي السنوي في الولايات المتحدة 76 ألف دولار، أما في الصين فحوالي 13 ألف دولار، وفي روسيا حوالي 15 ألف دولار.
من جهة أخرى، فإن للولايات المتحدة مجالا حيويا بحجم العالم، أكثر من أي دولة أخرى، فعدا كونها الدولة المستقبلة لأكبر عدد من المهاجرين، كدولة مهاجرين-مواطنين، فهي الأكثر تأثيرا في العالم بقوتها الناعمة، بقوة الدولار، ومسارات العولمة الاقتصادية والتكنولوجية، التي تمتلك، أو تحتكر، معظم أدواتها، وبقوة إعلامها وجامعاتها ومراكز الأبحاث فيها.
وتستمد الولايات المتحدة فائض قوة أيضا من نمط علاقتها مع أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان وأستراليا وكندا، التي تشكل معظم الاقتصاد العالمي، والتي تطبع العالم بطابعها أكثر من أي دولة أو تجمع آخر. لذا، فإن مجرد تغريدة من رئيسها يمكن أن ترفع أو تنزل قيمة اليوان الصيني، أو الروبل الروسي، أو الين الياباني، أو اليورو الأوروبي.
وفي ذلك، فإن نتائج الانتخابات أوضحت أن السياسات التي انتهجها ترمب، في عهده الأول (2016-2020)، بغض النظر عن تقييمنا لها أو رأينا فيها، تتمتع أو تحظى بقدر مهم من الشعبية في المجتمع الأميركي، وهذا هو تفسير هذا العدد من الناخبين الذين أعطوا أصواتهم له، طبعا مع ميزة لترمب وهي أن انتخابه يمثل توجها عاما بميل الناخبين للتغيير، وبإزاحة الحزب الذي يمسك بالسلطة، الذي يحملونه مسؤولية السياسات التي انتهجها.
ولعل أهم ما يفترض ملاحظته أنه يكاد لا يوجد لدى الناخب الأميركي اهتمام بالقضايا الخارجية، إلا بقدر تأثيرها عليه مباشرة، لذا فإن القضايا الداخلية هي التي تشكل اهتمامه وقناته بالمرشحين. وفي الحالة الراهنة فإن العامل الاقتصادي كان هو الأساس في خيارات الناخبين، إذ ثمة تدنٍ في القدرة الشرائية للأميركيين، وثمة شركات تصرف نسبة من العاملين فيها، لذا كان الهم الأساسي للمواطن الأميركي ينصب على اختيار المرشح الذي يرى أنه يمكن أن يحسن دخله، ويخفف الاقتطاعات الضريبية عليه، ويوسع التوظيف، ويحسن الخدمات التعليمية والصحية والبلدية والإسكان، ويخفض سعر بنزين سيارته، أكثر من أية قضايا أخرى.
آليات النظام السياسي الأميركي
في الغضون وفي إدراكاتنا للنظام السياسي الأميركي يجدر لفت الانتباه إلى النواحي الآتية:
أولا، هذه دولة تديرها الشركات الكبرى، لكننا لا نقصد هنا شركات ذات طبيعة أهلية، أو عائلية، حتى لو بدا بعضها كذلك، إذ هي بمثابة مؤسسات بمعنى الكلمة، أي تشتغل، في أغلب الأحوال، وفق قواعد الإنتاج والربحية والأهلية والكفاءة وإتاحة الفرص في الوقت ذاته.
ثانيا، الشركات والمؤسسات الاقتصادية الكبرى، ووسائل الإعلام، ومراكز الأبحاث والجامعات، وجماعات الضغط، هي التي تصوغ الرأي العام وتوجهات الناخبين، بمعنى أن معادلات السباق الديمقراطي في الولايات المتحدة، أيضا، تتحدد بناء على امتلاك وسائل القوة والهيمنة (المال والتحكم في الفضاء العام) مع تأكيد أننا نتحدث عن دولة تقدس الحريات الفردية.
ثالثا، الرئيس في الولايات المتحدة بمثابة موظف، ورغم أنه يتمتع بصلاحيات واسعة كرئيس للبلاد والحكومة الفيدرالية والقائد الأعلى للجيش، إلا أنه محكوم في كثير من القرارات بتوجهات الكونغرس بمجلسيه (النواب والشيوخ)، كما لا بد له أن يأخذ في الاعتبار مواقف المؤسسة، أي مراكز صنع القرار، وهي هنا- إضافة إلى الكونغرس- وزارتا الدفاع والخارجية، ومراكز الأبحاث ذات الصلة، وجماعات الضغط. وبهذا المعنى فإن للرئيس رأيا رئيسا ومقررا في إدارة الشؤون الداخلية، بينما في قضايا السياسة الخارجية ودور الولايات المتحدة في الخارج، فهنا دوره أو حصته في القرار تبدو أقل منها في الشؤون الداخلية، فهنا يأتي دور مراكز صنع القرار أي مؤسسات البنتاغون والخارجية ومراكز الأبحاث والكونغرس بالطبع.
رابعا، بينت التجربة أن السياسة الأميركية الخارجية تخضع لثوابت، ضمنها أولوية العلاقة مع أوروبا واليابان، والحؤول دون هيمنة قطب آخر على الشرق الأوسط، وضمان أمن إسرائيل، وهي في الشرق الأوسط تحدث وفقا لاعتبارات إسرائيل، التي نجحت طوال العقود الماضية في التموضع في قلب السياسة الأميركية. لذا فبغض النظر عن اسم وحزب ساكن البيت الأبيض، للسنوات الأربع القادمة، فإن ذلك لا يغير كثيرا في السياسة الخارجية الأميركية، من الناحية العملية، فقط ربما تتغير اللهجة، أو الأسلوب.
قصارى القول، في هذه المرحلة ثمة محاولة دؤوبة من قبل الولايات المتحدة، بمعزل عن اسم الرئيس الأميركي أو حزبه، لتغيير مبنى القضية الفلسطينية، على مختلف الأصعدة، وفي مختلف الجوانب (القدس، اللاجئين، الحدود، المستوطنات)، وتغيير شكل التعامل العربي والدولي مع الشعب الفلسطيني وقيادته وقضيته، بما يخدم سياسات إسرائيل في واقعها، حيث باتت تعرف في العالم كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية، وأيضا كدولة تمارس الإبادة الجماعية.
هكذا ثمة أربع سنوات عجاف قادمة، والمشكلة أن المدخل إليها نكبة فلسطينية غير مسبوقة بأهوالها وتداعياتها الكارثية على الفلسطينيين وربما على عموم المشرق العربي.
عن المجلة