ترشيحا الحكاية


اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

زيارتي الى ترشيحا غير عادية، لأنها تحمل في جنباتها عبق الذكريات الجميلة والراسخة في الذاكرة كجذور الزيتون في هذا الوطن الغالي. حيث قمت في نهاية الأسبوع الماضي بزيارتها، وكانت لي عدة لقاءات مع أهال واصدقاء ومعارف واقارب.

زرت في بداية رحلتي هذه الصديق العريق الياس شاهين – أبو نصرات للاطمئنان على صحته بعد أن تعرّض لوعكة صحية عرقلت حركته وتواصله المعروف مع مجتمعه في ترشيحا والمنطقة. اللقاء مع أبو نصرات يعني “قعدة جدية” بأن نفتح معا سجلات الماضي سواء تاريخ ترشيحا او حيفا، حيث عاش فيها ردحا من الزمن قبل سقوطها في العام 1948 وتشويهها وتبديل كثير من معالمها.

استعراض التاريخ الفلسطيني من ذاكرة أبناء هذا الوطن هي خطوة في غاية الأهمية لأنها ليست فقط رواية الحكاية، إنما شهادة حيّة ممن عاش تلك الفترة وما فيها من ألم وقسوة وجرح. من جهة أخرى عملية الربط بين الشخصي/العائلي والمحلي على مستوى القرية والعام على مستوى الوطن صفة ملازمة لأبي نصرات. فهو يرى بالأحداث التي عصفت بترشيحا ومنطقتها ذات ارتباط وثيق بما كان يحصل في حيفا على وجه الخصوص. فالقرية ارتبطت بقوة العمل والحياة الاجتماعية والثقافية التي وفرتها المدينة. بعد ذلك التقيت مع الفنان والممثل القدير اشرف برهوم في مقهى بروشكتا في الجزء القديم من قرية ترشيحا. وشارك شقيقا زوجتي نزار ووسيم وعديلي شارلي في اللقاء. اعرف اشرف منذ عقدين من الزمن، وقد شارك في تمثيل ادوار بطولية في عدد من الافلام العالمية والعربية. كان آخرها قيامه بتمثيل دور “أبو فرحة” في فيلم “فرحة” للمخرجة دارين سلام والذي – أي الفيلم – قد أثار موجة من ردود الفعل الايجابية وتلك السلبية كالاحتجاج الاسرائيلي لأن الفيلم يحكي الرواية الفلسطينية، ولأن أعداد مشاهديه تجاوزت عدة ملايين في العالمين العربي والغربي. تحاورنا طويلا حول هذا العمل السينمائي ودلالاته. وتبادلنا الحديث حول الفرص المستقبلية لافلام في ميادين متنوعة تخصُّ الوطن ومواطنيه. وبعد مغادرتنا للمقهى الذي يشغل مبنى قديم العهد، سرنا في أزقة القرية القديمة والتي كانت فيها محلات اصحاب الحرف اليدوية كالحدادين والنحاسين والنجارين والصاغة. وقد تحولت هذه الدكاكين الحرفية مع الزمن واختفاء العمل اليدوي إلى مطاعم ومخابز ومحلات تجارية، مع إصرار اصحابها على الحفاظ على طابعها الخارجي وتصميمها الداخلي قدر المستطاع. وبعد مسير دقائق في السوق وصلت إلى المحل الذي يعني الكثير بالنسبة لي، وأمضيت سنوات طويلة في زيارته وتمضية بعض الوقت فيه، إنه محل عمي والد زوجتي المرحوم فخري بشارة. كان عمي من أبرز الصيّاغ في المنطقة وفي فترته حين كان شغل اليدين له قيمة كبيرة. كم من أشغال في الذهب أبدعها وقدمها لجمهور مرتادي محله الخاص في سوق البلدة القديمة. وكم من فكرة محدثة اوجدها ونفذها ارضاء لعروسين مزمعين على الارتباط بينهما بحكمة ونجابة وفن ابداعي. وكم من ازمة بين عروسين وجد لها مخرجا. عاد بي شريط الماضي إلى الساعات التي كنت أمضيها في محله مستمعا الى احاديثه عن الماضي وخبرته وتجربته والمه بما حل به وبأهل بلدته في العام 1948، حيث ان طائرات الجيش الاسرائيلي قصفت القرية والحقت بها اصابات بالغة في الارواح والممتلكات. وكذلك اعتبر محله ملتقى اجتماعي لعدد من اهالي القرية والجوار. وحديثهم كان متمحورا حول الزمن الجميل الذي عاشوه في حقبة من حياتهم، وما تعرضت له حياتهم من تغييرات غير متوقعة بالمرة. لكن عمي فخري، بالرغم من بعض سواد الماضي، كان مليئا بفرح الحياة وبالأمل ان القادم أفضل وسيعوضنا عما فقدناه في أرضنا ووطنا ومواطنينا. وجرى تكريمه بلوحة ثبتت عند مدخل محله، تحمل وصفًا لحرفته وصورة له أثناء عمله.

وأثناء عودتنا لاستقلال السيارة المركونة في موقف قريب من كنيسة مار جريس التقيت بالصدفة بالصديق العريق الدكتور ناصر أبو فرحة. كانت مفاجأة طيبة ومميزة في هذا النهار الجميل. تعانقنا والفرحة تغمرنا. الدكتور ناصر والذي تعرّفت إليه منذ فترة طويلة، هو متخصص في علم الانسان (الانثروبولجيا) ومبادر لإقامة مشروع مميّز وخاص في أرضه في قرية الجلمة المجاورة لمدينة جنين. مشروعه يحمل اسم “كنعان” بالاعتماد على الزراعة العضوية للزيتون والخضروات والحبوب بعيدًا عن استعمال المبيدات والاسمدة الكيماوية. وقد زرته في مصنع ومكاتب شركته وانبهرت من التنظيم ودقة العمل وربطه بالموروث الحضاري والثقافي الكنعاني. فالرزاعة بمفهومه ليست محصورة فقط على ما تنتجه الارض من حاجات للانسان، إنما سلالات المزروعات ذات الاصول المرتبطة بتاريخ الارض، وليست دخيلة عليه. بعد هذا اللقاء العفوي، اتجهنا إلى بيت الخال وليد نحاس لنحتفل معه بعيد ميلاده الـ 75، فهو قد ولد قبل سقوط فلسطين بعدة شهور. متمنين له العمر المديد.

مجمل هذه الرحلة الخليط بين الماضي والحاضر، فلا افتراق بينهما، مهما غرقنا أو أغرقونا، في هموم وشواغل الحياة اليومية. فالماضي ما زال حاضرا بيننا، ونحن مسكونين به شئنا أم أبينا.

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

Author: جوني منصور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *