ترتيب البيت الفلسطيني مهمة عاجلة لمواجهة محاولات التصفية

بقلم : عبد الحميد صيام

في مواجهة الأخطار الداهمة التي تواجه المشروع الوطني الفلسطيني، لا بد أولا أن نحدد مجموعة مسلمات يكاد لا يختلف عليها اثنان في الساحتين الفلسطينية والعربية، في ما يتعلق بمواجهة المشروع الاستيطاني الإحلالي التفريغي، الذي تمثله الحركة الصهيونية وقاعدتها المتقدمة إسرائيل، التي لم تكن يوما لتشكل خطرا على فلسطين فحسب، بل على مجمل الأمة العربية ومواردها وثقافتها وتاريخها ومستقبلها، وإمكانية وحدتها.
فمنذ أقر المؤتمر الصهيوني الأول في مؤتمر بازل 1897 فكرة إنشاء دولة لليهود أولا، ثم أقر أن تكون تلك الدولة في فلسطين في المؤتمر السادس عام 1903، والمشروع الكولونيالي هذا في حالة تقدم، والمشروع الوطني الفلسطيني في حالة تراجع، ويكاد الآن يصل خط النهاية، هشاشة الوضع الفلسطيني الداخلي إضافة للعوامل الخارجية فلسطينيا وعربيا ودوليا.
لنتفق على أن القضية الفلسطينية قضية مركزية للأمة العربية، وأن حركة التحرر الوطني وهي تدافع عن فلسطين إنما تدافع عن كرامة وشرف الأمة العربية قاطبة، وتعطي جرعة كرامة حتى للمطبعين والمهرولين إن أرادوا ذلك. ولنتفق كذلك على أن حركة التحرر الفلسطينية الهادفة إلى مواجهة ومقاومة المشروع الصهيوني ومنعه من الانتصار، تمر الآن في مرحلة تحد وجودي، بمعنى أن الحركة الصهيونية ممثلة في قاعدتها إسرائيل تكاد تحقق انتصارا شاملا بالاستيلاء على كل فلسطين، وتفرض قبول هذا الاستيلاء على عدد من الدول العربية المهمة والفاعلة، ثم يأتي احتضان تلك الدولة دوليا، باعتبارها جزءا من نسيج المنطقة، ودولة عادية بدون الإشارة إلى أنها دولة مارقة تحتل أرضا ليست لها بالقوة، في حالة انتهاك صارخ للقانون الدولي.
ولنتفق أيضا على أن مقاومة هذا المشروع السرطاني، المدعوم من المركز الأقوى للهيمنة في العالم، تبدو عاجزة في ظل موازين القوى الحالية المختلة لصالح الكيان. ولكي تستمر المقاومة بمعناها الشامل لابد من توفر شروط لدى الشعب المنوط به مسؤولية المقاومة، سواء بالاشتباك الميداني على الأرض، أو الاشتباك غير المباشر على الساحة الدولية. فالمشتبكون على الأرض لا يمكنهم تحقيق الانتصار بقدراتهم الذاتية فقط، ويحتاجون دعما متواصلا من محيطهم العربي ثم الاسلامي ثم العالمي، من أنصار الحرية والعدالة والمساواة وقوة الحق. ولكن قبل أن يأتي الدعم الخارجي لابد من إعادة تمتين الوضع الفلسطيني الداخلي، بالعودة إلى كل الشعب الفلسطيني في كل مكان، بدون تهميش أو إقصاء أو احتواء.
الوضع الفلسطيني، كما يبدو الآن، في حالة أقرب إلى الانهيار، خاصة بعد وقف المساعدات الأمريكية، وتجفيف بعض المصادر الأوروبية، وزيادة أعباء الأونروا، واقتطاع إسرائيل أموال الأسرى والشهداء، وزيادة الأعباء على المواطن في ظل تزايد القمع الإسرائيلي، وهدم البيوت والاستيلاء على الأرض، والتهويد المتواصل للقدس، والتوسع في بناء المستوطنات، والتغول في القمع والاعتقال والقتل، بدعم لا محدود من الإدارة الأمريكية، ووسط تواطؤ من بعض الدول العربية بطريقة وقحة، وبداية تراجع التأييد الدولي للقضية الفلسطينية، بسبب الضغوطات الأمريكية. في ظل هذا الوضع تأتي الدعوة للانتخابات الفلسطينية نوعا من الهروب إلى الأمام، وخوفا من اتخاذ قرارات مصيرية لا تريد القيادة أن تتخذها، بل لا تستطيع ذلك لارتفاع الثمن الذي سيدفعه رموز القيادة من امتيازاتهم.
فصمود الشعب المشتبك مع المشروع الصهيوني ميدانيا، والاستمرار في مقاومته، شرط مسبق لاستمرار الدعم الخارجي عربيا ودوليا، لوقف أو هزيمة أو رفع تكاليف المشروع الصهيوني الاستيطاني التفريغي، ولو توقف الاشتباك معه من قبل أصحاب القضية أولا، لتبعثر الدعم الخارجي وتبدد وانتهى. وكلما زادت حدة الاشتباك مع المشروع الصهيوني ميدانيا، تعاظم الدعم وتراجعت فكرة التطبيع معه وتكييف المنطقة لقبوله. فمقاومة المشروع تبدأ من الذاتي وتنتقل إلى الخارجي، وليس العكس. فالتعاطف والدعم والإسناد الذي حصل عليه الشعب الفلسطيني المشتبك كليا مع المشروع الصهيوني أيام الانتفاضة الأولى (1987- 1993) ارتقى إلى مستوى دعم نضال شعب جنوب افريقيا ضد نظام الأبرثايد. هذا الدعم تبدد أو كاد بعد توقيع اتفاقية أوسلو الكارثية، التي غيرت المعادلة من حركة تحرر وطني إلى حركة استقلال، أي من مشروع لهزيمة المشروع الصهيوني، إلى التكيف معه وقبوله والدخول معه في مساومات تحت شعار تحقيق حل الدولتين، ليتبين أنه مفاوضات على شروط الهزيمة فقط. فأوسلو قسم الشعب، وقسم الأرض، وقسم الحقوق، وأي محاولة لإعادة الاعتبار للمشروع التحرري لابد من الأخذ بعين الاعتبار قضية أساسية ومركزية هي وحدة الشعب ووحدة الأرض ووحدة القضية، باعتبارها قضية تحرر وطني لا تنقسم إلا على واحد وهو الاستقلال الناجز والسيادة على الأرض والموارد.
في هذا المقال سأركز على إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، كشرط مسبق لهزيمة المشروع الكولونيالي الذي يقوم على الاستيلاء على كل الأرض وهزيمة كل الشعب وإنكار كل الحقوق وتسويق ذلك عربيا ودوليا كأنه أمر عادي وطبيعي. وسنقسم موضوع إعادة ترتيب البيت الفلسطيني إلى ثلاثة أقسام: إعادة الاعتبار لكل الشعب الفلسطيني، وإعادة بناء أو هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية، لتصبح الخيمة الكبرى التي يستظل تحتها كل أبناء الشعب الفلسطيني الواحد، والخطوة الثالثة إعادة الاعتبار للحقوق الوطنية الفلسطينية الكاملة غير القابلة للتصرف.
يصل عدد الشعب الفلسطيني في أقل التقديرات إلى نحو 14 مليونا، مشتتين وموزعين في أنحاء العالم، لكن الغالبية الساحقة منهم تعيش على أرض فلسطين التاريخية ودول الطوق الأربع الأردن وسوريا ولبنان ومصر، ثم دول الخليج العربي. وتحتل الولايات المتحدة المركز الأول في عدد الفلسطينيين خارج الدول العربية، حيث يصل العدد نحو ستمئة ألف بين مهاجر ومن ولدوا في المهجر الأمريكي. وتحتل دولة تشيلي في قارة أمريكا الجنوبية ثاني أكبر تجمع للفلسطينيين في العالم خارج الدول العربية، حيث يقترب العدد من نصف مليون فلسطيني، بعضهم جيل رابع، ولكنهم يقرون بفلسطينيتهم ويزورون الوطن ويسمون ناديهم الرياضي النادي الفلسطيني، وفريق كرة القدم الفريق الفلسطيني..
في عملية الاشتباك مع المشروع الصهيوني على الأرض تبقى الأهمية القصوى لأربعة تجمعات فلسطينية على أرض فلسطين التاريخية، تشكل الحجم الأكبر من الشعب الفلسطيني، يصل عددها إلى نحو سبعة ملايين فلسطيني، قطع الكيان الصهيوني بينها وتعامل مع كل تجمع بطريقة مختلفة من حيث القوانين والمعاملة التمييزية، وأنواع العنف والإهانة، وكل الإجراءات في المحصلة تعزز الانقسام والتباعد والتذويب والتهجير والاقتلاع والمعاملة المهينة. في الضفة الغربية يوجد نحو ثلاثة ملايين يخضعون لاحتلال مباشر، ووجود سلطة فلسطينية اثر اتفاق اوسلو لا تستطيع منع الاقتحامات اليومية والقتل، وهدم البيوت وإغلاق الطرقات.ا. والتجمع الثاني هم سكان القدس الشرقية وضواحيها ويصل عدددهم نحو 350 ألفا ويحملون هوية مقدسية لا ترقى بهم إلى درجة المواطن، ولا تنزل بهم إلى المعاملة الدونية مثل سكان الضفة. والتجمع الثالث سكان غزة ويصل عددهم إلى مليونين، يخضعون من الداخل إلى سلطة حماس، ومن الخارج يعانون من حصار محكم ومزدوج منذ 12 سنة. إسرائيل تعاقبهم بالحصار والقتل والتجويع والإغلاق والحروب المتواصلة، والسلطة تقطع عنهم الرواتب والكهرباء والمساعدات، ومصر حولت معبر رفح إلى معبر إذلال وإهانة وابتزاز وجمع ملايين الدو لارات، وحماس وبقية شركائها من الفصائل الأخرى تـثقل على الناس، فتحولت حماس إلى سلطة مكروهة مثل سلطة رام الله.
وعندما انطلقت مظاهرات عفوية تحت شعار «بدنا نعيش» قمعت بالقوة. أما الفئة الرابعة فهي التي تحمل الجنسية الإسرائيلية، ويصل عددهم إلى مليونين يتمتعون ببعض الامتيازات، خاصة العامل ولكنهم يعاملون بطريقة تمييزية، حيث يوجد على الأقل 55 قانونا يميز ضد العرب، أو يحابي الذين يخدمون في الجيش من أجل استثناء العرب.
ما قام به اتفاق أوسلو هو إلغاء أو تهميش قاطع لكل فلسطينيي الخارج. والمطلوب الآن إعادة الاعتبار لكل تجمعات الشعب الفلسطيني وإشراكهم في العملية النضالية، وتشجيع انتخاب ممثليهم حقيقة، حيث يمكن الانتخاب أو التوافق على ممثلي الجاليات والتجمعات الفلسطينية، حيث يتعذر الانتخاب بدون استفزاز للدول المضيفة بل يجب مراعاة أوضاعها الداخلية. إن إعادة الاعتبار لكل فئات الشعب الفلسطيني يتطلب رافعة وطنية جامعة تلم الموجودين على الأرض مع بقية الشعب الفلسطيني أينما كان، عبر ممثلين حقيقيين لتشكيل مجلس وطني حقيقي يعكس هذه الحالة، بعيدا عن المحاصصة والمحسوبيات والتعيينات العشائرية والقبلية، على اعتبار أنه مؤشر الولاء. ثم تأتي الخطوة التالية وهي إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، الهوية الرمزية للشعب الفلسطيني، على أسس جديدة تمثل الهم الوطني وسبل مواجهة تحدي الكيان الذي يعمل على إلغاء وجود الشعب الفلسطيني. وهذا موضوع مقالنا اللاحق.

محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *