ترامب والدعوة الرسمية لجريمة التطهير العرقي


خرج علينا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، باقتراح أن يهجّر أهالي غزة إلى الأردن ومصر بسبب أن قطاع غزة أصبح مدمراً ويحتاج إلى إصلاح. ويتجرأ ترامب على طرح فكرته على القيادتين الأردنية والمصرية، من دون تردد أو تحفظ، وكأنه يقترح بناء ألواح لتوليد الطاقة الشمسية. ويبدو الأمر له وكأنه لا يتعلق بحياة بشر من رجال ونساء وأطفال وشيوخ ومرضى وذوي احتياجات خاصة، ولهم محيطهم وأماكن سكناهم وتراثهم وقراهم ومدنهم ومزارعهم وأعمالهم وعلاقاتهم الإنسانية، إنه يمثل حضارة، قال عنها نزار قباني، حضارة «الإسمنت والخشب»، وأضيف لها «والاستعمار».
من الواضح أن اقتراح ترامب لا يقوم على تعاطفه مع أهالي غزة بسبب حرب الإبادة الوحشية التي شنها عليهم «الجيش الأكثر إجراماً في العالم»، حسب تعبير الأسترالي كريس سودوتي عضو اللجنة الأممية المستقلة، إذ لو كان الأمر كذلك، لكان أولى أن يعرض عليهم اللجوء إلى ولاية فلوريدا، حيث مقر سكنه القانوني، وفي مقاطعة «مارا لوجو» بالتحديد، حيث قصره الفخم، وهو يقيم هناك عادة قبل انتقاله إلى البيت الأبيض، لكي يتحاشى دفع ضريبة للولاية، ولا شك أن جوّ فلوريدا قريب من جو غزة، وبالتالي سوف لا يشعر الغزيون بالغربة. طبعاً، لم يذكر ترامب أن الدمار الذي لحق بأهل غزة سببه الطائرات الأمريكية والقنابل الأمريكية والغطاء الأمريكي.
والظن عندي أن اقتراحه هو تمهيد لفكرة صهره جاريد كوشنر، الذي زار غزة أثناء حرب الإبادة وابتهج بالمنظر، واقترح تطوير واجهة غزة البحرية لكي تكون منتجعاً سياحياً تدرّ الكثير من المال. ومثل عمه، ترامب، لم يشاهد كوشنر آثار الإبادة ولا عذابات الناس الذين هم ـ في نظره – «مش ناس» وبالتالي يمكن اقتلاعهم وتهجيرهم. ويجب أن نشير إلى عبقرية كوشنر الذي بعد أن قرأ (25) كتاباً عن القضية الفلسطينية، انتهى به الحال إلى تلخيص هذه القضية بقوله إنها «قضية عقارية».
لم يخطر على بال الرئيس ترامب أنه يورط نفسه في جريمه دولية اسمها «جريمة التطهير العرقي»، ذلك أن أول من رحّب باقتراحه أيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وهما صهيونيان ومن أكثر الصهاينة مراهقة سياسية وإجراماً.
الحركة الصهيونية تقوم على مبدأ اقتلاع الفلسطيني؛ وهي لا تريد من الفلسطيني أن يفسح لها في المجال، بل تريد اقتلاعه والقذف به خلف الحدود ويتم ذلك طوعاً أو إرهاباً
التهجير، جريمة تقع على حدود جريمة الإبادة، لأن التطهير العرقي هو التدمير الكلي او الجزئي لجماعة إثنية، وهي جريمة، حتى لو كانت طوعية، ذلك أن أدوات التهجير الطوعي استخدمتها إسرائيل في حرب الإبادة في غزة، باستخدام التجويع وتدمير المنشآت الطبية وقطع المياه لحمل الناس على الهرب، واللجوء إلى مناطق خارج غزة، ومع ذلك لم تنجح إسرائيل في تهجير أهل غزة. ولعلم الرئيس ترامب أن اقتراحه بالتهجير يقع تحت تعريف الإبادة التي فشلت إسرائيل في إنجازها. وقرار المحكمة الدولية في قضية تهجير الروهينجا من ميانمار إلى بنغلادش، يقدم نموذجاً للرئيس ترامب حول جريمة التهجير، وتحمل مسؤوليتها وتبعاتها، ذلك أن المحكمة اعتبرت تهجير الروهينجا جريمة إبادة. وليس من قبيل التزيّد القول، إن هذه الدعوة إلى الترحيل هي غير أخلاقية ابتداءً. وقانوناً، يمكن ملاحقة ترامب أمام محكمة الجنائية الدولية بتهمة التحريض على التهجير والإبادة، ولا حصانة له في قانون المحكمة.
إن الطريقه التي تحدث بها ترامب عن تهجير أهالي غزة، وبتلك الخفة والرعونة، تذكرنا بطريقة الرئيس الأمريكي جيمس مونرو، وهو الرئيس الأمريكي الخامس، الذي قام بترحيل «الزنوج الأحرار» من أمريكا، ذلك أنه في منتصف القرن التاسع عشر، نشأت طبقه في أمريكا من الزنوج الذين هم ليسوا من العبيد، ولم يحصلوا في الوقت ذاته على كامل حقوقهم الإنسانية، وصاروا يسمون «الزنوج الأحرار».
ضاقت طبقة الإقطاع الزراعي والرأسمالية الأمريكية الناشئة من نمو هذه الفئة من الزنوج، التي أصبحت تنشط في أوساط العبيد الذين كانوا يعملون في مزارع الولايات الجنوبية، وذهبوا يشتكون للرئيس مونرو ويعبّرون عن مخاوفهم من أن يصبح الزنوج العبيد، الذين يعملون في الحقول والمزارع بالمطالبة بأن يصبحوا من «الزنوج الأحرار». قام الرئيس بإصدار أوامره إلى سلاح البحرية الأمريكية بالبحث عن أرض في افريقيا لترحيل الزنوج الأحرار اليها. فوجدوا قطعة أرض سموها «ليبيريا» (أي أرض الحرية) ودفعوا للقبائل الافريقية بعض المال لإغرائهم، وبدأوا بشحن الزنوج الأحرار إليها على بواخر البحرية الأمريكية، وأقاموا فيها وأطلقوا على العاصمة اسم «منروفيا»، تيمناً بالرئيس مونرو، وأصبحت هذه الدولة الافريقية أقرب إلى فكرة إسرائيل، حيث ينص قانونها على حق كل زنجي في العالم الهجرة إليها حيث يكتسب جنسيتها. وهكذا تخلص الأمريكيون البيض من أصحاب الرساميل والإقطاعيات الزراعية من كابوس «الزنوج الأحرار».
وأتصور أن الرئيس ترامب، بإغراء وتوجيه من الصهاينة المسيحيين، والصهاينة اليهود، يحاول تكرار التجربة بتهجير أهل غزة، وذلك مقدمة لتهجير فلسطينيي الضفة الغربية لإراحة المستوطنين اليهود من الكابوس الفلسطيني. ونعلم أن هذه الفكرة فكرة التهجير، ليست فكرة طارئة، بل هي من المخزون الاستراتيجي للفكر الصهيوني، ولعل البعض يذكر أن فكرة تهجير أهالي غزة طرحت في بداية جريمة حرب الإبادة الإسرائيلية في اكتوبر 2023، والتي حملها الصهيوني اليهودي وزير الخارجية الأمريكي السابق، انطوني بلينكن، في أول زيارة له للمنطقة مع اندلاع المحرقة، وقد قوبلت آنئذٍ بالرفض من الجانب الأردني والمصري، ثم جاء في الزيارة التالية يحمل معه قائمة بأثمان التهجير، فمثلاً، إذا قبل الأردن ألفا من أهل غزة، فالثمن يكون مبلغاً محدداً، وإذا زاد عدد المهجّرين ترتفع التسعيرة وهكذا. وحين وجد رداً حاسماً من مصر والأردن مرة أخرى، أغلق ملفه وبدأ يلعب على نغمة «قرب الوصول إلى حلّ» الذي غادر منصبه وهو ما زال يرددها كالببغاء.
ان فكرة تهجير الفلسطينيين ولدت مع الحركة الصهيونية، وقد قام المؤرخ الفلسطيني نور مصالحة، في توثيق هذه الفكرة الصهيونية في كتابه القيم «طرد الفلسطينيين- مفهوم التهجير في الفكر السياسي الصهيوني 1882-1948» (بالإنكليزي) وهي فكرة استعمارية بامتياز، مع فارق كبير، ذلك أن الحركات الأوروبية الاستعمارية، لا تنظر إلى الشعوب الأصلية، إلاّ نظرة دونية، بحيث يمكن نقلها إلى أراضٍ أخرى لكي تفسح للمستوطنين الأوروبيين في المجال، بحيث يعيش المستوطن في أمان وسلام، ويقوم الرجل الافريقي على خدمة الرجل الأبيض.
أما الحركة الصهيونية فهي تقوم على مبدأ اقتلاع الفلسطيني؛ هي لا تريد من الفلسطيني أن يفسح لها في المجال، بل تريد اقتلاعه والقذف به خلف الحدود ويتم ذلك طوعاً أو إرهاباً، لأن دولة «الشعب اليهودي» يجب أن تكون «نظيفة» من الأغيار، ومن هنا الخطورة الاستثنائية للحركة الصهيونية، وعلى المطبعين العرب دراسة الصهيونية جيداً والاستفاده من تجارب من سبقهم في التطبيع. لكن عودة أهالي غزة إلى بيوتهم المهدمة في الشمال أكبر لطمة لهذا المشروع الصهيوني الدموي، وللصهاينة المسلمين والمسيحيين واليهود على حدٍّ سواء.
عن القدس العربي