تراجيديا الكفاح الفلسطيني: من التوريط الواعي إلى التطبيع اللاواعي
تصدمنا هذه الأيام الذكرى 27 لتوقيع اتفاق أوسلو في البيت الأبيض الأمريكي (13/9/1993). تتزامن الذكرى مع خطوات انفتاح أنظمة عربية على التطبيع مع إسرائيل.
كان ذلك الاتفاق عقد بحلم، أو بوهم، إمكان قيام دولة فلسطينية مستقلة في 22 بالمئة من أرض فلسطين، بناء على رضى إسرائيلي وأمريكي، أي بناء على وهم أكبر، لذا فربما تلك هي أنسب مناسبة لعرض المآلات التراجيدية لمسيرة الكفاح الفلسطينية، التي بدأت بفكرة التحرير، والانتهاء من إسرائيل، وإذا بها تنتهي عند واقع التطبيع العربي مع إسرائيل، وتاليا تحرر النظم العربية من قضية فلسطين.
أبوعمار وتحولات القضية
في الحقيقة، لولا الزعيم الفلسطيني أبو عمار بالتحديد، بحكم مكانته في الزعامة ورمزيته للقضية والكفاح الوطني، ما كان يمكن أن يمر اتفاق أوسلو، المجحف والناقص والمهين، على الشعب الفلسطيني. ساعده في ذلك طبقة من المثقفين من المحسوبين على الطبقة السياسية الفلسطينية السائدة، فهو الذي نقل معنى الكفاح الفلسطيني من الصراع على فلسطين إلى الصراع على جزء من فلسطين، ونقل الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر إلى سلطة.
المعضلة لم تكن في ذلك الخيار فقط، بالغبن المتضمن فيه، وإنما كانت بطريقة إدارته، وأيضا في العطب البنيوي في الحركة الوطنية الفلسطينية (القيادة الفردية، غياب الحراكات الداخلية والمساءلة والتداول، والافتقاد لعقلية نقدية، والتحول إلى سلطة)، فلو توفر للفلسطينيين قيادة وبنية أفضل لربما كان يمكن مراجعة وتصويب هذا المسار أو ذلك الخيار.
السؤال المطروح هو، هل كان ثمة بديل؟
نعم لم يكن ذلك اضطراراً، ذلك أن اتفاق أوسلو نجم عن مفاوضات سرية، ومن وراء الشعب وإطاراته القيادية والشرعية، أما البديل حينها فكان يتمثل في ترك الأمر للوفد الفلسطيني إلى مفاوضات مدريد، الذي كان يترأسه حيدر عبد الشافي، والذي كان يعلن دائما أن منظمة التحرير مرجعية الوفد المفاوض، كما ثمة بديل بعد ذلك في عدم التماهي بين السلطة والمنظمة لصالح المنظمة، وعدم الجمع في شخص بين قيادة المنظمة والسلطة وفتح، علما أن أبو مازن انتقد سلفه أبو عمار على ذلك، لكنه عندما وصل الأمر إليه، تناسى انتقاداته تلك، التي كان اختلف بها مع أبي عمار.
القضية والصراع العربي
من مفارقات الحركة الوطنية الفلسطينية أنها انطلقت على أساس استعادة القضية من الأنظمة العربية، إلا إنها عادت واستندت إلى تلك الأنظمة في كفاحها المسلح، وفق فرضيتها عن “التوريط الواعي”، الذاتي والرغبوي والخاطئ، وبالنتيجة فإن تلك الحركة هي التي تورطت في الصراعات العربية (لبنان مثلا)، ثم ها هي تلك الأنظمة وقد وصلت إلى “التورط” اللاواعي والمجاني في التطبيع مع إسرائيل، بدل “التطور” الواعي في الصراع مع إسرائيل! هذا الأمر نمّ عن سذاجة في التفكير السياسي، إلى حد اعتقاد أصحاب تلك الفكرة وكأنهم أوصياء على الأنظمة العربية.
بيد أن المسكوت عنه في الفكر السياسي للفلسطينيين أن حركتهم الوطنية كانت وصلت إلى سقفها في منتصف السبعينيات، أي بعد 15 عاما على انطلاقتها، ففي تلك الفترة تحققت الإنجازات الوطنية الفلسطينية المتمثلة، باستنهاض الشعب الفلسطيني من النكبة، وصيانة وتطوير هويته كشعب، وفرض حضوره في المعادلات السياسية، وإنشاء كيانه الموحد، منظمة التحرير الفلسطينية، وفرض الاعتراف العربي بها في مؤتمر قمة الرباط، والدولي في خطاب الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات من على منبر الأمم المتحدة.
اللافت أن الحركة الوطنية الفلسطينية، ورغم طول تاريخها، والأثمان الباهظة التي دفعتها، وتجربتها المريرة والغنية، لم تقم ولا مرة بمراجعة طريقها، أو مفاهيمها، أو أشكال كفاحها، كما لم تشتغل على تطوير بناها (المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية)، ولم تدرس تجاربها بطريقة نقدية ومسؤولة، سواء في الأردن، أو لبنان، أو الضفة أو غزة، أو 48 (التي استبعدت تماما مع استبعاد فلسطينيي 48)، كما لم تدرس تجربة الكفاح المسلح أو الانتفاضة او المفاوضة، لاستنتاج العبر المرجوة من كل ما تقدم.
مبكّرا استُدرجت الحركة الوطنية الفلسطينية إلى خطأ، أو شرك، كبير، فهي استبعدت فلسطينيي 48 من معادلاتها، على صعيدي الرؤى والكيانات (وها هي اليوم استبعدت حتى اللاجئين)، وهذا يتناقض مع اعتبار منظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا لشعب فلسطين؛ هذا من ناحية. من ناحية ثانية، فقد استدرجت تلك الحركة إلى مربع تجزئة قضيتها، وبالتالي تجزئة رؤيتها لإسرائيل.
وفي الواقع لا يمكن النظر إلى إسرائيل بوصفها دولة احتلال أو دولة استيطان فقط في الضفة وغزة فقط، ودولة عنصرية فقط إزاء الفلسطينيين من مواطنيها في 48، كأن ذلك بدأ مع احتلال 1967 فقط، إذ إنها هي ذاتها، دولة استعمارية واستيطانية وعنصرية إزاء الشعب الفلسطيني، في أي مكان كانت، قبل احتلال الـ67 وبعده. والفكرة أن إسرائيل تلك تتعامل مع الفلسطينيين كشعب عدو وفق استراتيجية واحدة، قائمة على الاستعمار والاقتلاع والاستيطان والتمييز العنصري، ولكن وفق سياسات ونظم قانونية مختلفة، لتجزئتهم وتفكيك قضيتهم وتذويب حقوقهم، وللأسف فقد انطلى ذلك على حركتهم الوطنية، التي باتت تتصرف وفقا لذلك، وبحسب أوهامها، عن إمكان قيام دولة لها في الضفة وغزة.
السؤال الآن، هل كانت حال الفلسطينيين وحركتهم الوطنية أفضل في حال تمت إدارتها على نحو أصوب؟
الجواب على ذلك، ليس معقداً، لكن مع فوارق مهمة. هكذا، فإنه وفق الإمكانيات الذاتية قد لا يكون للفلسطينيين، على الأرجح، القدرة على هزيمة إسرائيل، ولا على مستوى دحر الاحتلال من الضفة وغزة، ربما، لكن مع إدارة أصوب، أو إدارة رشيدة ومسؤولة، للعمل الوطني الفلسطيني فربما كانت أحوال الفلسطينيين أفضل من ثلاثة نواحي: أولا، لجهة تخفيف الأكلاف والتضحيات، وهي كانت باهظة جدا في الداخل والخارج، ومن دون أي توازن ولو نسبي بين الكلفة والمردود، ثانيا، لجهة توفر بني كيانية سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، في مختلف أماكن وجود الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية، وفي مجتمعات اللجوء والشتات، وذلك بالقياس لحال التفكك والتدهور والتهميش للفلسطينيين وكياناتهم اليوم، على مختلف الأصعدة. وثالثًا، من جهة الحفاظ على المكانة السياسية والأخلاقية لقضية فلسطين العادلة والمشروعة عربياً ودولياً.