تحيا حين تفنى
ضمن مشروعي التواصليّ مع أسرى يكتبون، التقيت ثائر ناجح توفيق حنيني ظهر الثلاثاء 23 شباط 2021 في سجن ريمون الصحراوي، كان اللقاء الأوّل بيننا، وجهًا لوجه، عرفني بإحساسه، فالسجّان لم يخبره بهويّة المحامي، أزال الكمّامة الكورونيّة وأمطرني بوابل من الأسئلة عن حيفا، اشتغل فيها قُبيل الانتفاضة الثانية وما زالت عالقة بذهنه، بأزقّتها وبحرها وكرملها.
حدّثني ثائر بحِرقة عن حرمانه من الزيارات، فمنذ اعتقاله في الأوّل من تموز 2004 حظي بزيارات من الأهل لا يصل عددها أصابع اليد الواحدة، أحيانًا هو الممنوع أمنيًا وأحيانًا أهله، ليفقد والدته عام 2011 دون وداع، ولم تتمكن من زيارته في العامين الأخيرين من حياتها، وما زال مواظبًا على مراسلتها ومراسلة فادي الذي استشهد قبل 18 عامًا، بين الحين والآخر.
استغرب ثائر حين سرحت قليلًا ووبّخني قائلًا: ليش ما تسألني مين فادي؟؟
عزيزي ثائر؛ لم أسألك في حينه من يكون فادي لأنّي بتواصل دائم معه ومع روحه؛ عرفته من صديقي كميل أبو حنيش وأحاديثه وكتاباته عنه، وحين تعاصفنا حول احتراق الجهة السابعة، الحبّ والحلم والفانتازيا وما بينهما، والانبعاث يحلّق في سماء اللقاء، ناقشنا الصوفيّة والموت والإنبعاث، فكميل عاش الموت بعض المرّات قبل أسره، صار الموت أنيسًا بشريًّا، ملازمًا كالظلّ، يعود لفقدان رفاقه فادي ويامن دون وداع، وفنجان القهوة مع صاحبه الشهيد ورجائه لتبادل الأدوار…ولَو للحظة! ومذّاك شربت القهوة مرارًا وتكرارًا مع فادي.
عزيزي ثائر؛ لم أسألك في حينه من يكون فادي لأنّي بتواصل دائم معه ومع روحه؛ عرفته من صديقي منذر مفلح، الشيبون، حين شدّتني لمسة الوفاء لجبريل عواد، أمجد مليطات، فادي حنيني ويامن فرج؛ حمل منذر في خرزته وصايا رفاق دربه الشهداء، ما بين الأزمنة والأمكنة، ليرسم خارطة وطن حلموا به، ليحتل المشهد، ويعود معهم من الهامش الذي أراده لهم الآخرون، كي يحتلّ صدر روايتهم شاء من شاء وأبى من أبى.
عزيزي ثائر؛ لم أسألك في حينه من يكون فادي لأني بتواصل دائم معه ومع روحه من أحاديث أم عسكر وأهل القصبة والياسمينة وأزقّة البلدة القديمة في نابلس.
عزيزي ثائر؛ لم أسألك في حينه من يكون فادي لأني بتواصل دائم معه ومع روحه؛ عرفته من إهداء أمجد عواد في كتابه: “دراسات من الأسر” “إلى من أدركوا أنّه عندما تنفذ حبات الرصاص تكون الشهادة أقصر الطرق إلى الوطن الجريح، إلى من طالتهم أيدي الشاباك ولم تردعهم… جبريل، فادي، يامن، وأبو وطن”.
فجاء هذا الكتاب ليحكي حكاية فادي وكلّ من فدى الوطن…
وها هي حصّة الأسد من تلك الخرطشات التي تشكّل عربون وفاء لبيت دجن، تلك البلدة التي وُلد وترعرع فيها، ولعمّه الشهيد فادي الذي أوصاه: “على ما يبدو أن نهايتنا اقتربت يا ثائر…أكمل المشوار” ترى النور، لتترك بصماتها في سماء الوطن وعشقه.
شدّني اختياره لاسم سلوى، “بطلة” للرواية، ملازمة لفادي وعشقه للوطن الذي استشهد من أجله، تلك المرأة التي سلّت عنه الكرْب والهموم والأحزان في سنوات الأسر الطويلة، رافقه طيفها رحلة العذاب، لتنسيه جروحه وتكون عزائه الجميل في عزلته عن فقده لفادي.
يسلّط ثائر الضوء على بطولات رفاق دربه ليفيهم بعضًا من حقّهم، ويخصّ فادي وأمجد ويامن، مركّزًا على سيرة فادي البطوليّة، شهداء رسموا خارطة الوطن بدمائهم الزكيّة، وآن الأوان لكتابة سيرة كلّ من شهداء فلسطين، فهم يستحقّونها دون أدنى شك.
حين قرأت كتاب “حسن الّلاوعي سروج خالية” للأسير المحرّر إسماعيل رمضان؛ ابن الدهيشة، وجدته يسلّط الضوء على بطولات رفاق دربه ليفيهم بعضًا من حقّهم، وكتبت: حبّذا لو يكتب، رمضان أو غيره، سيرة ومسيرة كلّ من أسرانا، الشهداء والأحياء منهم، فهم يستحقّونها دون أدنى شك.
باتت الكتابة عند أسرانا متنفّس يخترق جدران الزنازين، دواءه وسلاح يمتشقه دفاعًا عن كينونته، لواء يرفعه في ميادين الثقافة العربية الشامخة وكلمات حرة ينثرها في الحقول الوعرة.
تُعتبر الكتابة متنفّسًا للأسير،تجعله يحلم ويتنفّس حريّة، تعبر قضبان السجن وزنازينه، تشقّ طريقها عبر نفق من الحريّة لتحلّق في سماء الحريّة المنشودة.
نحن بلد المليون أسير، ورغم ذلك نسمع عن أسرانا هنا وهناك، فزعات عرب موسميّة حين يُضرب أسير عن الطعام أو حين يستشهد أو حين نحتفل بتحرّره!!
من الضرورة أنسنة قضيّة أسرانا، وتحييد محاولات الأسطرة والشيطنة في آن واحد، فلكلّ أسير وأسيرة اسم وحكاية علينا حفظها عن ظهر قلب.
يثلج الصدر أن تضحيات فادي ورفاقه في جنّات النعيم، وروح كميل ومنذر وثائر ورفاقهم في زنازين الاحتلال كانت نُصب أعين أهالي بيت دجن يوم السبت الفائت ولم تذهب سدى وهناك من يذكرهم ويتذكّرهم.
مبارك لك وشكرًا لك ثائر على هذا المولود، آملين أن يتبعه أسرى آخرون ليكتبوا باقي الحكاية.
جئتك من أعالي الكرمل، لأبارك(باسمي وباسم زوجتي سميرة) لنا ولك هذا المولود، وبين أهلك وفي بلدك الذي يشكّل شوكة في حلق المحتلّ؛
حاملًا تحيّات وتبريكات الأصدقاء الأسرى بمناسبة إصدار الكتاب.
وكذلك تحيّات الزملاء في التحالف الأوروبي لمناصرة أسرى فلسطين،
والزملاء في مبادرة أسرى يكتبون مع رابطة الكتّاب الأردنيّين وستكون لنا ندوة قريبة مع الرواية في عمان.
وأخيرًا؛
الاهتمام بأسرانا أقلّ الواجب تجاه تضحياتهم، وفي محادثتي الأخيرة مع ثائر قلت له: “أنت غير مدان لأحدٍ بشيء لتشكره، دفعت وما زلت تدفع دَينك وثمن نضالك منذ 2002، نحن المدانون لك ولزملائك في الأسر، واجبنا أن نشكركم على منحنا فرصة للعطاء من أجلكم”!
نعم؛ الحريّة خير علاج للأسير.
الحريّة للعزيز ثائر، لكميل أبو حنيش، لمنذر مفلح ولكلّ أسرى الحريّة.
***مداخلتي في حفل إطلاق وإشهار الرواية في بيت دجن يوم السبت 18.12.2021 تزامنًا مع ذكرى استشهاد فادي حنيني وجبريل عواد (ألغي الحفل في اللحظة الأخيرة بقدرة قادر)