تجاهل التجاهل الذي أدى إلى الانفجار
نقطة الاتفاق بين أقطاب الصراع هو أن 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 خرق المألوف الإسرائيلي والمسلم به عربياً وعالمياً، من تفوق إسرائيلي تقني وعسكري ومن قدرة هائلة على الردع والاستخبار وفي مجالات أخرى يمكن أن يطلق عليها عقيدة «الجيش الذي لا يقهر». عقيدة تعززت بعد أن هزم الجيش الإسرائيلي جيوش الدول العربية في حربَي 48، 67، وقلب هزيمته في الأيام الأولى لحرب أكتوبر 73 إلى إعادة فرض قرار 242 وهو قرار هزيمة 67 وهزم سورية و»م.ت.ف» في حرب 82، وتوج انتصاراته باتفاقات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة والاتفاقات الإبراهيمية والاتفاق مع السودان والمغرب وصولاً إلى الاتفاق السعودي الإسرائيلي الذي كان وشيك التوقيع.
هجوم حماس يوم 7 أكتوبر مثل إهانة عظمى للجيش الذي هو جوهر إسرائيل.
هجوم لا يضاهيه إلا «هجوم الأسطول الياباني على الأسطول الأميركي وتحطيمه بشكل مفاجئ في ميناء بيرل هاربر الأميركي متسبباً في إهانة عظمى لأميركا ما دفعها إلى دخول الحرب العالمية وقيامها بضرب مدينتَي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين بقنبلتين نوويتين راح ضحيتهما أكثر من 200 ألف مدني ياباني».
على مدى ثلاثة أيام اهتزت ثقة الإسرائيليين بجيشهم ودولتهم، واهتزت ثقة الغرب بقاعدتهم، وربما اعتقدت الدول العربية وجيوشها أو بعضها أن الخنوع لهذا الجيش ليس قدراً.
ما حدث في لحظة عابرة كانت دلالته رمزية أكثر من كونها تغييراً في الواقع، دلالة دفعت الأمور إلى مخيالين؛ مخيال معسكر الممانعة والمقاومة الداعي إلى تعميم اللحظة والمضي بها إلى النهاية، وعلى الأقل ليّ ذراع الدولة المتغطرسة وحلفها المهيمن.
ومخيال الدولة المتغطرسة في استمرار استباحة حقوق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وتحويله إلى أمر واقع ومسلّم به.
وإذا كانت موازين القوى لا تسمح بتحويل الرمزية إلى واقع، بالعكس فإن الدولة المتغطرسة وحلفها يسعون إلى محو وإزالة تلك اللحظة وأدواتها كما فعل الأميركيون بعد بيرل هاربر. وهي الآن تقدم في خطابها السياسي والإعلامي أنها تخوض حرباً على الإرهاب وتحاول أن تحدث استقطاباً عالمياً بين داعم للإرهاب أو محارب للإرهاب، عوضاً عن معادلة داعم للاحتلال ومناهض للاحتلال، قافزة عن جوهر الصراع وهو احتلال وطن وسيطرة على شعب وشطب حقوقه المشروعة، وقافزة عن دورها في دفع الأمور إلى الانفجار.
والأنكى تتجاهل جبهة الحرب ضد الإرهاب القانون الدولي واتفاقات جنيف الرابعة وبروتوكولاتها الخاصة بحماية المدنيين، واضعة 2.3 مليون فلسطيني في شروط غير إنسانية نادرة.
يحدث ذلك في الوقت الذي فتحت فيه أوروبا كل أبوابها لملايين الأوكرانيين مع بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا وما بعده، وفتحت أرمينيا كل أبوابها لكل المواطنين في إقليم ناغورنو كاراباخ.
أما قطاع غزة فيتم قطع الكهرباء والوقود والأدوية والطعام والماء وتنعدم كل سبل الحماية من القصف الجوي والتدمير المنهجي الذي طال حتى المستشفيات، وأوقع خسائر فادحة في الأبرياء.
ولا يتوفر ممر ولا مكان آمن واحد للمدنيين والجرحى والأطفال والنساء الحوامل داخل القطاع وخارجه، وتتم الاستعاضة عن توفير الحماية واحترام القانون الدولي بأقوال وبعض فُتات مشروط لا يسمن ولا يغني من جوع.
المصلحة الوطنية والمدنية الفلسطينية تستدعي طرح قضية الاحتلال والسيطرة المزمنة على الشعب الفلسطيني من قبل نظام أبارتهايد كولونيالي على الطاولة، وقبل ذلك طرح حماية 2.3 مليون فلسطيني يتعرضون لتطهير عرقي باستخدام قوة التدمير وأبشع أشكال الترهيب.
هل يمكن قطع الطريق على نتيجة مماثلة لما حدث في اليابان وأفغانستان والعراق وسورية من رد غطرسة القوة؟
إنها معركة الرأي العام العالمي والعربي وحراكاته السياسية والثقافية والحقوقية والأكاديمية، التي بدأت تشق الطريق وتمارس الضغوط على صانعي القرار، أولاً لمنع شن الحرب المجنونة التي تهدد مصير 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة، وتهدد القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في التحرر وتقرير المصير.
يجدر النظر للخطر الداهم والنتائج المترتبة عليه أولاً وقبل كل شيء وبمعزل عن إسقاط الرغبات. فالاعتقاد بحسم المعركة لمصلحة المقاومة وحلفها محض خيال وحلم، في ظل ميزان قوى مختل بشكل فادح لصالح إسرائيل المدعومة بشكل غير مسبوق من أميركا والغرب، حيث «تقف أوروبا للمرة الأولى في تأييد مطلق لإسرائيل، موقفاً تجاوز كل التقاليد الأوروبية السابقة في علاقاتها مع فرقاء المنطقة وقد خرجت عن التقاليد الديمقراطية» كما يقول سمير عطا الله في الشرق الأوسط.
وحتى لو دخل محور إيران – حزب الله – سورية إلى جانب المقاومة، فهذا لن يغير ميزان القوى، كما لا يغير إيقاع خسائر فادحة بإسرائيل من جنون غطرسة القوة بل سيزيدها شراسة.
مصلحة الشعب الفلسطيني تكمن في قطع الطريق على الحرب وعلى الكارثة التي ستحل به.
شعار وقف الحرب والحيلولة دون الاجتياح البري لقطاع غزة مطلوب أكثر من أي وقت مضى، لكنه لا يستقيم دون إعادة طرح الاحتلال والسيطرة الإسرائيلية على الأجندات الدولية والإقليمية والعربية، إنه الشعار البديل لشعار «الحرب على الإرهاب»، والذي يرفعه الآن الأصدقاء الحقيقيون الداعمون للشعب الفلسطيني.
يكتسب شعار وقف الحرب وقطع الطريق على اجتياح قطاع غزة ووقف نزيف الدم والتدمير المنهجي الوحشي للقطاع أهمية استثنائية. فالحرب على الإرهاب لا تنطبق على فلسطين وقضيتها بما هي قضية تحرر من الاحتلال وتقرير مصير مهما حدث من أخطاء فلسطينية.
لقد رفعت غطرسة القوة الإسرائيلية ملف القضية الفلسطينية عن الطاولة، بتوقيع بايدن الذي أحال تطبيق القرارات الدولية للسيد المسيح في إشارة إلى استحالة تطبيقها وتنصله منها، وبتعايش الاتحاد الأوروبي مع تهميش فلسطين وقضيتها.
هؤلاء أقاموا «السلام» مع البلدان البعيدة عن الصراع واستثنوا الشعب الفلسطيني الغارق حتى أذنيه في الصراع.
سمح النظام الدولي لدولة الاحتلال باستباحة الأرض والرموز الدينية ومارسوا التطهير العرقي وفتحوا كل الأبواب للاستيطان وإرهاب جماعات كاهانا، ونكلوا وقمعوا، ونجحوا في إقناع أكثرية الشعب الفلسطيني بأن خيار التفاوض خيار فاشل ومذل ومسيء للكرامة الإنسانية، ودفعوه نحو خيارات أخرى ما عدا خيار السلام.
تلك نتيجة متوقعة بعد تجاهلهم الحل السياسي الذي يقبل به الشعب الفلسطيني، واستبداله باحتلال دائم وأبارتهايد وترانسفير.
وبدلاً من استخلاص العبر والتوقف عند الأسباب والمسؤوليات عن التحولات والانفجار، نجدهم يعيدون الكَرّة فيَصِمون المقاومة بالإرهاب، والبعض يَصِمُ الشعب بالإرهاب لتبرير حرب الإبادة الحالية في قطاع غزة.
هذا ما استخلصه الإسرائيليون، وحلفاؤهم من تجاهل الحل الدولي للصراع من منظار الشرعية الدولية التي تتبنى ضرورة إنهاء الاحتلال، وهم الآن يتجاهلون التجاهل السابق، فيعطون دولة محتلة ونظام أبارتهايد استعمارياً حق الدفاع عن النفس بشكل متناقض مع القانون الدولي الذي ينص على حق الشعب تحت الاحتلال بالدفاع عن نفسه، وفقط ليس من حقه الهجوم على أهداف مدنية.