تبادلية الألم أو تبادلية الحياة، الخيار بين أيدينا

جوهر الموضوع هو العلاقة التبادلية . هناك التبادل الإيجابي، عندما يتبادل الناس المنافع ، وهناك أيضًا التبادل السلبي، حيث يتبادلون الضربات والألام . هذه آلية اجتماعية أساسية، وهناك قاعدة قديمة بسيطة تقول : “ما تكرهه ، لا تفعله مع صديقك”.
ليس من الضروري أن تكون حكيماً عظيماً لتعرف أن الانتهاكات الممنهجة والتجويع والتعذيب للسجناء الفلسطينيين تعرض حياة وسلامة الأسرى والمخطوفين الإسرائيليين للخطر. فهذا يحدث حتى في الحرب “العادية”، التي تجري وفق القواعد، حيث تكون سلامة أسرى حرب أحد الطرفين مستندة على سلامة أسرى الطرف الآخر ومرتبطة بها ، ولكن هذا الأمر أكيد في مواجهة عسكرية بدأت بارتكاب جرائم حرب، واختطاف مدنيين ومدنيات ، بعد عقود من التعذيب المستمر والانتهاكات وإساءة معاملة جميع السكان المدنيين في قطاع غزة. ولا تقولوا فقط “بن غفبر” ، وذلك لأن كل الأجهزة الأمنية في إسرائيل كانت مشاركة في التنكيل بالسجناء والأسرى الفلسطينيين في المعتقلات والسجون. وأولئك الذين وقفوا في الشوارع وطالبوا منذ البداية بصفقة تبادل اسرى ومخطوفين فهموا هذا بالضبط : الحياة مرتبطة بالحياة.
إذا كيف يعقل أن لايجري الناس المقارنة البسيطة – إن تشديد التنكيل بالفلسطينيين يعرض حياة الأسرى والمخطوفين للخطر – ومع ذلك لم يجروها ؟ ربما لأنه منذ عقود، يسيطر في إسرائيل مفهوم ينفي تماما مبدأ التبادلية في العلاقات الاجتماعية والسياسية. “عش لوحدك ولايهمك الأخرين ” : هنا سيكون بإمكانك أن تأكل حتى تشبع وفي الجانب الثاني من الجدار ستصل كمية المعكرونة التي تم تحديدها لسكان غزة وليس أكثر . هنا سيكون هناك كهرباء ومياه متدفقة ، وهناك يأمل الآباء اجتياز الشتاء بدون كهرباء وبدون مياه غير صالحة للشرب . هنا يعيشون بأمن نسبي، وما وراء الجدار – رعب من القصف والغارات الليلية .

على أساس الإنكار الكامل للمعاملة التبادلية السلبية ، نشأ الوهم الكبير بأنه بالإمكان الضرب دون دفع الثمن ، وبأنه بالإمكان التسبب بمعاناة هائلة بدون عواقب ، وبأنه بالإمكان الضرب والبقاء محصنا وأمنا . احتلال ديلوكس . سياسة أحادية الجانب . لدينا المناعة، لديهم الضعف والهشاشة . أوهام السيادة الأخطر هي أن السادة غير مرتبطين بالعبيد، وأن العبيد ليسوا بشراً مثلهم. نعم، لقد جعلنا الاحتلال، كما قال يشعياهو ليبوبتش ، شعب أسياد. وبالتأكيد يوجد ثمن للتعالي .
أحدثت الحرب شرخا بالشعور بالحصانة والسيادة. هل كان واقعيا أن نتوقع أن نتعافى من العيمنة بعد الصدمة الرهيبة، وأن نعترف بالمعاملة التبادلية كشرط أساسي للحياة، خيرا أو شرا — حياة ؟ لست متأكدا . جرائم الحرب التي وقعت في 7 أكتوبر ارعبت القلوب، الصدمة أخرجت الناس عن طورهم . لكن هذه لم تكن مجرد صدمة، بل هي نمط حياة عميق طويل الأمد: رد الفعل السائد لدى الجمهور الإسرائيلي كان ولا يزال الشوق الكبير لاستعادة السيادة وترميم وهم الحصانة .

وللحظات خلال الحرب، كان بالإمكان تمييز ومضات من الاعتراف بوجود صلة – اعتراف بالتبادلية الفظيعة ، المؤلمة بين مصائر الناس في كلا الجانبين . الاعتراف بالعلاقة ، على سبيل المثال، بين نزوح الإسرائيليين الذين يعيشون في الجليل الأعلى وبين التهجير المتكرر لسكان جنوب لبنان . ففي نهاية الأمر فإنه منذ نهاية السبعينيات، نزح مئات الآلاف من السكان في لبنان من منازلهم مرة تلو الأخرى، وبعضهم لم يعود إليها إلا بعد سنوات طويلة . هناك أيضًا علاقة بين الحياة في غزة والحياة في سديروت. كان يمكن أن تكون علاقة شراكة، تبادل إيجابي. ولكن لعقود من الزمن كانت هناك علاقة المعاناة المتبادلة .
صحيح أنه لا يوجد أي تماثل: فأي ضرر يلحق بالسكان المدنيين ـ القصف والاختطاف والتهجير والقتل والإضرار والتجويع والنفي ـ هو أمر مرفوض جوهريا . لكن قدرة دولة إسرائيل على التسبب في المعاناة – تدمير مدن بأكملها بعمليات القصف ، والتسبب بتهجير مئات الآلاف من الأشخاص، والقتل والتجويع والطرد – هي أكبر بشكل لا يقارن مع قدرة المنظمات المسلحة الفلسطينية واللبنانية على التسبب في المعاناة المضادة . والقاعدة المتبعة في إسرائيل كانت دائماً أن الثمن الذي تجبيه على أعمال العنف أعلى بما لا يقاس، ومن دون أي تناسب، مع المعاناة والألم الناجمين عن أعمال العنف على الجانب الآخر.
وهكذا فإنه بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كان رد الفعل الشعبي السائد توقع تجديد السيادة والتعالي بواسطة الانتقام المخفي في تعبير المعاملة بالمثل: ” فعلوا بنا وسوف نفعل بهم”. قام السياسيون بإذكاء هذا الشعور وركب الجنرالات عليه في المعركة وزودوه بالقنابل العشوائية. والأكثر من ذلك. الضربة المضادة، كما اتضح في وقت مبكر جدًا، لم تكن ضربة أخرى في منظومة العلاقة الدموية، بل كانت شيئًا مختلفًا تمامًا : حرب تهدف إلى تصفية الخصم، واختراق دائرة المعاملة بالمثل، مهما كانت فظيعة، نحو أفق جديد – أفق النفي والإبادة .
تدار هذه الحرب بواسطة مزيج فظيع من منطق الإنتقام التبادلي وفانتازيا ال ” ضربة الأخيرة ” التي تضع حدا للتبادل بالمثل . وهذه هي الرؤية : بيوت ينبعث منها الدخان ومدن مدمرة وهدوء من الأفق إلى الأفق . هدوء المقابر . وكما قيل :” عش لوحدك ولايهمك الأخرون ” . ولذلك فإنه لايوجد نهاية لهذه الحرب .
لا مفر من التبادلية أي المعاملة بالمثل، حتى بين غير المتساوين ، ومن يريد الخروج منها يخرق نسيج الحياة الإنسانية . وإذا لم يكن ذلك كافيا، فإن الحرب، التي هذه هي هي آلية عملها ، ترفع إلى المناصب القيادية أولئك الذين يؤمنون حقا بإمكانية خرق الدوائر الإنسانية – الماسيحانيون والمجانين، أتباع الوصية القديمة التي تدعو إلى ” إبادة وقتل كل شيء ” . لكن الفلسطينيين لن يختفوا. لا هنا، ولا في غزة، ولا في الضفة الغربية، ولا في الشتات . والشرق الأوسط لن يختفي .
وهكذا فإن نفي التبادلية يهيئ للكارثة القادمة . الانتقام هو الضربة التالية في دائرة الموت، لأن حياتنا كلنا، شئنا أم أبينا مستندة ومرتبطة ببعضنا البعض وكل من قال وما زال يقول “لا يوجد أبرياء في غزة” عليه أن يرى أن هذه العبارة تمهد أيضاً لمقولة “لا يوجد أبرياء في إسرائيل” . وأنا أصر – على أنه يوجد . من قال أنه لا يوجد “غير متورطين” في غزة مدعو لينظر حوله ويفكر في العواقب الوخيمة التي قد تترتب على قبول مبدأ عدم وجود أبرياء على الناس العاديين، التواقين للحياة . ومن يقول إن جرائم الفلسطينيين تبرر كل شيء، فهو ببساطة ينسى (وربما لم يعرف قط) الجرائم التي ارتكبتها دولة إسرائيل، بناء على أوامر حكومات تم انتخابها بانتخابات حرة نسبيا.
لا شيء يمكن أن يلغي التبادلية في المعاملة . وإذا لم نعزز التبادلية الإيجابية ، فإننا سنجد أنفسنا غدا محاصرين في الدائرة الدموية للتبادلية السلبية . قد لا يكون الخاضعون للإحتلال والمسروقون قادرين على الوقوف عسكريا في وجه القوة المتفوقة للجيش، الذي ينتظر بالفعل وصول قنابل يوم القيامة الجديدة إلى هنا لتحل محل القنابل السابقة التي تمت تجربتها بالفعل في غزة في الماضي. ولكن ربما من المهم أن نتذكر ما ذكره الخبراء في بداية الحرب: إن جزءاً كبيراً من ذخيرة حماس تم إنتاجه من بقايا الذخيرة الإسرائيلية، من بقايا القنابل التي ألقيت على غزة.
والأهم من ذلك أن حرب الإبادة تزرع بذور كراهية الموت . فحتى نحن مواطني دولة الأسياد لن تكون لنا حصانة . سنبقى عرضة للأذى ، فنحن بشر. قد يدفع الثمن كل واحد وواحد ولكن على وجه الخصوص سيدفع الثمن من يفتقرون للحماية ، الضعفاء ، والفقراء . لأن ” من يزرع الريح يحصد العاصفة ” .

المصدر: هآرتس

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *