بين الناصرة ومخيم خان الشيح
بين الناصرة ومخيم خان الشيح انطفأت شاهدة ٌُعلى العصر ، و أكبر المعمرات تغيب بهدوء:
الحاجة أم محمود رحمها الله ليست مجرد امراة معمرة وحسب …وليست اسم ٌ عابراً لجأ من سفح جبل طور الناصرة إلى مخيم خان الشيح … سارة تاريخ حافل وتأريخ دقيق … سارة راوية فذة عميقة و ممتعة الحديث .. سارة قوة الشخصية وكبر الشأن والمقام .. إنها ” قرنة ” .. كما يقولون ..
سارة ذاكرة الجيل المنكوب الشفوية والمليئة شهادات … إنها المسكونة بمئات الأحاديث والحوادث، الروايات والقصص ..سارة سيدة الأمثال الشعبية وأغاني البلاد والعباد .. سارة وطن لجأ برمته إلى بلد هو كذا غربة مستمرة في نكبة متجددة لما تنتهِ بعد ..
من يصغي لحديث سارة العميق سيغرق في الإصغاء صاغراً بلا جدال ، ولسوف يغمره الصمت بوابل دهشة الرويِ وصدق الحديث بل ودقة التفاصيل ..مع “سوالف” سارة أنت كمستمع لن تصدق انك في حضرة حاجة لا تفك الحرف ، بل و تجهل القراءة والكتابة … يا الله من أين لها كل هذا إذاً؟ .
في سارة مهارة الوصف و براعة السرد للأحداث بالدقة المتناهية .. وهذا ما يسمها بسبق التميز والإختلاف.
رحلت الحجة و هي تقبض على ملكات القدرة في تذكر كل الذين حضروا عرساً ما لفلان مثلاً .. بل وتسميهم واحدا واحداً مع اسماء عائلاتهم و درجة العلاقات فيما بينهم..
سارة أيقونة المخيم الحديدية الصلبة بل الذهبية إن شئت .. وأكاد القول إنها سيدته الأولى ، سارة ابراهيم قاسم الحاجة المرحومة جدة الجدات ، هي اللاعجوز التي طرقت أبواب المائة عام بكامل سنديانها .. ولن تموت .. ستظل بوجدان المخيم وأهله حية .
قبل أيام وفي وضح سوق الخضروات بالمخيم تعثرت المسكينة على أهون سبب وسقطت ..
كسرها الموت خلسة عندما كسر عظم الحرقفة .. (هذا ما يسمونه كسر الموت ).. لتكون منيتها.. فأسعفوها.. حتى في الصحة هي استثناء .. قال المجبر الطبيب : عظم هذه الحجة مر وقاس، لم أرَ مثله عند هذا السن منذ أن امتهنت الطب ..
سارة وعلى مدى المئة من العمر المليء معدن عتيق لم يعرف الصدأ .. ولا الانحناء ..
ها هي الآن تتركنا نفرك الماضي وحوادثه ،تتركنا نحيا بسوالفها متأملين ، متسائلين عن قرىً تتلاشى أمام أعيننا .. الحجة سارة أم البنات الآن تحزم حكاياتها المشتهاة المشوقة و يطوف بها الموت مودعاً خان الشيح حاملاً أبطال ماضيها ليحط بها مع آخر نفس شرق النهر .. هناك في جلجلة العالم الآخر عالم الغياب الحزين .. “سلمي عليهم يا حجة” ..
سارة تغيب بكامل هيبتها ، هكذا بغتةً وبكل ما اوتيت من صحة ، همة ، ذكاء واتقاد حملها بهدوء و دعة تحت ظل آلام المنكوبين.. خسرنا مع رحيلها الاغاني والقصص والامثال الشعبية التي تختزن و حُرِمت الحقيقة أيضاً من فصل النقاش والجدال … أجل لقد كانت سيدة الأجوبة والحقائق ومصححة التواريخ و الحوادث ..
مسكينة أم محمود عاشت و رحمة الله على روحها الطاهرة و كلها شوق للبلاد وتوق ، فهي المحرومة أصلاً ، و لم يتسنَ لها رؤية أي من بناتها الثلاث هناك منذ الهجيج إلا بعد ستين سنة إثر زيارة يتيمة بفضل جهود عزمي بشارة عندما كان صديق ..
الحجة أم محمود لا أولاد لهاو بالمجاز هي ام البنات ..
ليس غريباً ان ترحل محبوبة محترمة وبكامل الوقار ..
ليس مستهجناً ان يصمت المئات في حضرة حديثها الموجع عام ٢٠٠٨ ذات مقابلة على شاشة ضخمة في ساحة واسعة بالمخيم ….يومها أصغت المئات لروايتها بالتفصيل طريق اللجوء المرير..
هنا ..
ام محمود رحمك الله والعزاء للمخيم ولفلسطين ثم لاهلك والأحبة والاحفاد
السويد
2021/04/23