بين العبريّة كلغة سُلطة والعبريّة كلغة مُنتقديها
عقّبت أمس عند أحد أصدقاء الفيس من أبناء اللغة العربيّة على حقيقة أن النقاش الذي دار هناك دار بالعبريّة. وقُلت للمتناقشين أن الوضع سيتغيّر عندما يتحدثون بلغتهم وليس بالعبريّة. مثل هذه الملاحظات لا تمرّ بسلام في العادة. اتصل بي متناقشان ليوضّحا. واجتهدت في التوضيح الذي أسوقه هنا بإيجاز.
الواقعة هي مناقشة الخارطة الهيكليّة الكارثيّة التي أعدّها رئيس المجلس، رفيق قاسم حلبي، وأودعها وصدّقت عليها اللجنة اللوائيّة. دار النقاش بين المعترضين على أضرار الخارطة الحالية والمستقبليّة وبين المدافعين عن “ضرورة التنظيم” وما أشبه ذلك من ادّعاءات.
كان واضحًا أن المتناقشين يستعملون لغة الدولة والمؤسّسة في توصيف الوضع وتصوّر الخروج منه. وبدا واضحًا أن الجميع في مأزق لأن سياسات احصار الدالية وسواها من بلداتنا ومدننا تتمّ بالعبريّة. لأن لغة التخطيط في هذه البلاد هي لغة مُستعمِر يعتمد سياسات عنصريّة واضحة تجاه دالية الكرمل وسواها. فكيف يُمكن الفكاك من سطوة اللغة العبريّة في موضوع هو في صلب السياسات العنصرية ومشاريع الاستحواذ على الأرض وتحويل كل بلدة درزية وسواها إلى جيتو؟ فالمصطلحات التي استخدمها غالبيّة المتناقشين كان سلطويّة بامتياز صكّتها المؤسّسة ليست لتنظّم الحيّز بل لتستولي عليه. لا لتسهّل على الناس وتفتح أفق التطوير الطبيعيّ لرفاهيتهم بل من أجل رسم حدود تطوّرهم وملكيتهم على المكان والحيّز. وهي عمليّة تحصل شكل “طبيعيّ” جدًا دون أن يشعر بها واحدنا. لأن غالبية المتناقشين ومنهم موظفو خدمات عامة ومجبولون على أخبار بالعبريّة ووسائل إعلام المؤسّسة لا يُمكنهم مَفهَمة الموضوع بدون “لغة السلطة”. وهي لغة مكرّسة لخدمة مشاريع السلطة وليس مشاريع أهلنا. أي دون أن يشعر المتناقش سيجد نفسه يتحدث لغة الذين سنّوا قانون القومية وقانون كمينتس ووضعوا سياسات الاستيلاء على الحيّز والمكان من أصحابه الموجودين هنا قبل قبل قبل قيام هذه الدولة وقوانينها العنصريّة. مثل هذه الحقيقة مثلا لم يذكرها أي متناقش. ليس صدفة بل لأن لغة السلطة تُخفيها تماما وتطمسها!
صحيح هناك لغة عبريّة نقدية تفكيكية تفكك سياسات السلطة وتنقدها وتتحدّاها. وهي لغة مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان والتنظيم ولغة أقسام العلوم الاجتماعية والإنسانيّة في الجامعات، ولغة أقسام الآداب والفنون. بيد أن هذه اللغة التفكيكية عادة ما تكون مقموعة أو محدودة الحضور في الحيّز العام وغير متداولة في لغة الإعلام العبري المقصور على السلطة وممثّليها. بمعنى أن غالبية أهلنا ـ وليس في الدالية وحدها ـ غير منكشفين على لغة النقد والتحدّي أو اللغة العبريّة المضادة والبديلة للغة السلطة وسياساتها. من هنا فرضيّتي أن الميل عند المتناقشين باللغة العبريّة هو اعتماد لغة السلطة العنصريّة ولغة حالة الاستعمار الأمر الذي يجعلهم مغتربين عن أنفسهم ومصالحهم ووجودهم كلّما أرادوا الحديث عن موضوع حتى الخارطة الهيكليّة التي تشكّل محنتهم الوجودية.
التحرّر من أسر اللغة العبريّة يتمّ بالانتقال إلى اللغة الأم. ساعتها سنسمّي الخارطة الهيكليّة بأسمائها ونسمّي المسؤولين عن المحنة بأسمائهم ولا نغيب وتغيب حقوقنا وراء مفردات لغة أنتجت حالة استعمار نحن فيها “غرباء” و”ضحايا” فعليين وإن كان واحدنا ضابطًا في الجيش أو ابن وزارة.