بين أبوعمار وأبومازن
في هذه الأيام، وبعد 16 عاما على قيادته للكيانات الفلسطينية الرئيسية، يستحق محمود عباس (أبومازن) مراجعة لمسيرته في السياسة والقيادة، بعد أن خلف ياسر عرفات الذي طبع العمل الوطني الفلسطيني بطابعه، طوال مسيرة قدرها 35 عاما (2004ـ1969).
وكان أبومازن طوال 56 عاما، من عمر الحركة الوطنية الفلسطينية، يعد أحد القادة التاريخيين المؤسسين لحركة فتح، حيث تبوأ فيها عضوية اللجنة المركزية (وهي اللجنة القيادية للحركة)، كما شغل موقع أمين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة، وشغل في العام 2003 موقع رئيس الحكومة في السلطة، ثم أقيل بعدها في ظروف شهدت تجاذبات حادة بينه وبين الرئيس الراحل عرفات، وبعدها بات رئيسا للمنظمة والسلطة عام 2005.
بيد أن تفحّص سيرة أبومازن في القيادة والسلطة، يبيّن أن طريق هذا الرجل لم تكن سهلة أو واضحة. فعلى الصعيد الشخصي مثلا، لم يكن أحد ولا أبومازن نفسه، يتوقع صعوده إلى تلك المناصب، أو حتى إلى أحدها، إذ لم يُعرف عنه طموح إلى ذلك، وهو بشخصيته العادية يفتقد لحس التواصل مع الشعب، كما يفتقد لروح الزعامة، وهي كلها صفات مطلوبة في حركات التحرر الوطني. فوق ذلك لم يكن أبومازن لا الرجل الثاني ولا الثالث ولا العاشر في حركة فتح، بالرغم من أنه كان من القادة المؤسسين، ولم يعرف عنه أنه كان صاحب تيار أو قائد جماعة كغيره من “الأبوات”.
وبالرغم من ذلك، فإن الأقدار شاءت أن يؤول الأمر إليه، إذ شهدت حركة فتح خسارة الصف الأول من قيادييها، كشهداء وهم أبوعمار، أبوجهاد، أبوإياد، أبويوسف النجار، كمال عدوان، ماجد أبوشرار، أبوالوليد، أبوعلي إياد، أبوالهول، أو بسبب المرض، خالد الحسن، أبوصبري، ولم يبق من القادة المؤسسين سوى بضعة أشخاص هم: محمد راتب غنيم (أبوماهر)، وفاروق القدومي (أبواللطف)، وسليم الزعنون (أبوالأديب).
أما الشرط الآخر الذي توفر لأبومازن، أو مهد له الصعود إلى سدة القيادة والسلطة، فهو ملازمته للرئيس الفلسطيني عرفات في تونس ثم في مناطق السلطة. ففي المرحلة “التونسية” اقترب أبومازن كثيرا من عرفات، وأصبح أحد أهم معاونيه.
وفي تلك الفترة تم فتح قناة التفاوض في أوسلو، بمعرفة ثلاثة من قادة فتح هم أبوعمار وأبومازن وأبوعلاء، وكان معهم ياسر عبدربه من اللجنة التنفيذية، وبمعزل عن الأعضاء الآخرين في قيادة فتح واللجنة التنفيذية والوفد المفاوض. وقد وقع أبومازن في أوسلو وفي البيت الأبيض سبتمبر 1993، باسم منظمة التحرير على الاتفاق، ما جعل منه شخصية سياسية مقبولة على الصعيد الدولي.
بعد إقامة السلطة، تعزز موقع أبومازن إزاء أعضاء اللجنة المركزية الآخرين في حركة فتح، وخصوصا إزاء أبوماهر وأبواللطف، اللذين رفضا الإقامة في مناطق السلطة، ورفضا الانخراط في المسار السياسي الجديد، خصوصا أن باقي أعضاء اللجنة المركزية هم أعضاء جدد بالقياس لأبومازن، وغيره من الأعضاء المؤسسين.
وقد استمرت علاقة أبومازن بأبوعمار على خير ما يرام حتى اندلاع الانتفاضة الثانية (أواخر العام 2000)، بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد (2 يوليو 2000)، ولاسيما بعد تحول فتح نحو تطبيع الانتفاضة بعمليات المقاومة المسلحة، إذ ناهض أبومازن هذا الخط، ورأى فيه مغامرة، في حين احتضن أبوعمار الظاهرة المسلحة، لتحقيق التزاوج بين المفاوضة والمقاومة، بعد أن رأى عقم خيار المفاوضة لوحده.
هكذا ظهرت مقولة أن أبوعمار لم يعد شريكا، وطالبت إدارة بوش بإحداث منصب رئيس الحكومة، وحينها شعر الزعيم الراحل ياسر عرفات بأن ثمة ضغوطا تمارس عليه، للإتيان بمحمود عباس رئيسا للحكومة، وهكذا كان، فقد تم تعيين أبومازن رئيسا للحكومة عام 2003، في هذه الظروف الصعبة والمصيرية، وفي ظل حصار عرفات في مقره في رام الله (2002 – 2004). هكذا شعر عرفات بأن رفيقه القديم أبومازن بات بعيدا عنه، ما جعله يتحين الظروف لإقالته، ولم يتأخر في ذلك، بل وتعمد إقالة أبومازن بطريقة فجة، بعد أن أصدر إيحاءات تحريضية ضده باعتباره بمثابة “كارازاي” فلسطين.
بيد أن الأقدار لعبت دورها، إذ عاد أبومازن إلى صدارة المشهد قبيل مغادرة عرفات في رحلته الأخيرة إلى باريس للعلاج في أواخر العام 2004، حيث أوصى به كمرجعية قيادية في غيابه، وهكذا كان.
في كل الأحوال، فقد وجد أبومازن نفسه في مواجهة تركة جد ثقيلة، وبالغة التعقيد، ذلك أن عرفات لم يكن مجرد قائد لفصيل أو رئيس لمنظمة أو لسلطة، بل إنه كان طوال ما يقارب أربعة عقود بمثابة زعيم للشعب الفلسطيني. وبديهي أنه إذا كان بالإمكان الاستحواذ على المكانة الرسمية للرئيس الراحل، فإنه من الصعوبة بمكان الاستحواذ على المكانة الشعبية، أو على شرعية الزعامة، التي كان يحظى بها أبوعمار.
وما فاقم من هذه الإشكالية بالذات، أن عرفات وخلال العقود الماضية استطاع أن يماهي بين شخصه وبين المؤسسات والأطر التي يقودها، فهو السلطة والمنظمة وفتح، وهو الشعب والقضية، ما أدى إلى تهميش المؤسسات والأطر ومصادرة الحياة السياسية. ونتيجة لكل ذلك فقد ظل عرفات المتحكم بكل كبيرة وصغيرة في الساحة الفلسطينية، فهو الذي يتحكم بمفاتيح السياسة والعسكر والمال والرجال.
إضافة إلى ما تقدم، وكما هو معروف، فثمة جانب شخصي في أبوعمار يختلف تماما عن أبومازن، فكل منهما صاحب طريقة مختلفة، في العمل والإدارة وصياغة العلاقات واتخاذ المواقف. عرفات مثلا، يميل للرموز وطرح الالتباسات وإطلاق الشعارات، في حين أن عباس رجل واقعي وواضح ويميل لتسمية الأشياء بأسمائها.
وبينما يحبذ أبوعمار العمل من فوق الطاولة ومن تحتها، وبشكل صاخب، يميل أبومازن للعمل على المكشوف، وإن كان من دون ضجيج. ولكن ما صعّب المشكلة على أبومازن، فوق كل ما تقدم، الشبهات التي أحاطت بمسيرته السياسية، خصوصا أن اتفاق أوسلو عام 1993، بكل إجحافه، ارتبط باسمه تماما، أكثر مما ارتبط بأي شخصية قيادية أخرى، في حين أن هذا الاتفاق وغيره، لم يكن بالإمكان تمريره لولا موافقة ياسر عرفات عليه.
إضافة إلى كل ما تقدم، فقد وجد أبومازن نفسه بعد عام من القيادة في مواجهة تحدي حركة حماس، وصعودها إلى الشرعية والسلطة، بعد فوزها في انتخابات المجلس التشريعي في 2006. وكما بات معروفا فقد أدى ذلك، بين أسباب أخرى، إلى خسارة فتح قطاع غزة، بعد أن انهارت قواها، وذلك بهيمنة حركة حماس على القطاع عام 2007، الأمر الذي أدى إلى انقسام الكيان الفلسطيني.
وفي عهده فإن منظمة التحرير غدت في موقع هامشي جدا، وافتقدت الساحة الفلسطينية إلى مرجعية قيادية، وازدادت الفجوة بين مجتمعات الفلسطينيين لاسيما في الخارج، وحركتهم السياسية. أما في ما يخصّ فتح، فعدا عن تعدد مراكز القوى فيها، وضعف بناها وخطاباتها، وغياب هويتها الوطنية الجامعة، فقد غدت كأنها بمثابة حزب للسلطة، وبالأحرى كحزب للرئيس، وهو ما نشهد تداعياته في شعارات: مثل فوضناك وبايعناك، ورئيسنا قدوتنا، وأنه المرشح الوحيد لحركة فتح، بدل أن تعكف على مراجعة مسيرتها، بطريقة نقدية ومسؤولة، لنفض التكلس في أحوالها، أو لتجديد شبابها بعد عمر قدره 56 عاما.
- “العرب” اللندنية