بيرزيت: الانتخاب والانتحاب

شهد النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي (1992-1993) انتصار مدوياً للكتلة الإسلامية (بتحالف مع جبهة العمل الطلابي-“القطب” اليوم) على حركة الشبيبة الطلابية (بتحالف غير/معلن مع كتلة حزب الشعب-“الاتحاد” اليوم). حينها، كنا طلبة في جامعة بيرزيت، وكان حسين البرغوثي أستاذاً، وكانت الدراسات الثقافية أربعة مساقات، وكان أولها “الحضارات القديمة”، وكان ثالث دروسها “أوديب” لسوفوكليس. كان العرَّاف الفلسطيني البصير-حسين معجباً بالعرَّاف الإغريقي الأعمى-تريسياس لأنه كان الأجرأ في مواجهة أوديب وإبلاغه بالحقيقة المرَّة، ومفادها أن أوديب نفسه كان قاتل أبيه حمقاً، ومتزوِّج أمه جهلاً، والمنجب منها سِفاحاً أبناءَه-إخوته. في المسرحية، نجح سوفوكليس باقتدار في تحريضنا ضد أهل أوديب، الذين ربطوا قدميه، وأسلموه للغريب، وهجروه، وخذلوه خشية أن يقتل الملك…. لكنه، لم يستطع امتصاص نقمتنا على أوديب-المجرم/الضحية حتى اللحظة.

هذه التراجيديا العائلية تتصادى مع ما حلَّ بالحركة الوطنية الفلسطينية حين أسلمت منظمة التحرير الفلسطينية للسلطة الفلسطينية، وحين أسلمت السلطة نفسها لأمريكا وإسرائيل لئلا يموت الملك. لكن هذه التراجيديا تتصادى بصورة أكبر مع ما حلَّ بحركة فتح حين أسلمت خيرة ما فيها ومن فيها للسلطة، وحين سلَّمت بوجود البقية، وهم “الأفضلون [الذين] يحملون السلاح” في سجون العدو، أو في المنافي، أو تحت التراب. وهذا كلام، بالتأكيد، لا يحبه الأخوة والرفاق من مثقفي فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية الذين يرفضون “قراءة الكتابة التي على الجدار”، وتحديداً من لا يميزون في نقدهم الناقم على ما يدعونه “الإسلام السياسي” بين بنيته التحتية، بغض النظر عن علتها الأولى سواء كانت قطر أو إيران أو تركيا… وبنيته الفوقية، التي لا يعرفونها ولا يريدون معرفتها، والتي باتت ماكينة وطنية تهندس النصر تلو الآخر في الساحة الفلسطينية. وإلى أن يمتثل هؤلاء الأخوة والرفاق لعهد محمود درويش الشعري الذي قطعه في بداية التسعينيات بضمير المتكلم الجمعي-“سنختار سوفوكليس”، فإن نقد الآخر الإسلامي دون أي نقد للذات، في ظل هذا العمى الإيديولوجي، سيظل طحناً للماء، واتهاماً للساقي بأنه “دسَّ في خمري سموم المعرفة”. كما لن يسعف هذا الكلام لا منظمة التحرير الفلسطينية ولا حركة فتح، التي لم تطلق النار بنفسها على قدمها وحسب، بل وعلى رأسها أيضاً. أما مكان الحركات الإسلامية ومكانتها في حركة التحرر الوطني الفلسطيني، ومعايير الأصالة والجدارة، واستيهامات “الأحقية بالنصر وقلوب الجماهير”، وما الذي سيحدث حين سيتولى وكيل جديد قمع المقموعين في فلسطين بين غزة ورام الله… فموضوع آخر يمكن نقاشه بالتأكيد مع أي ليبرالي، شريطة أن يحكَّ جلده أولاً، فلا يخرج الفاشي الذي فيه بالسيف على الثوري الذي فيك.

…هذه محض ذكرى، وليست تمريناً في التحليل النفسي ولا في توبيخ الذات التي لا تستحق التهنئة

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *