عرفت البشرية أنواعا وأشكالا متعددة من الجرائم عبر حقب التاريخ القديمة والحديثة وكانت ولا زالت أساليب القمع الوحشية من أهم الأدوات التي تستخدمها قوى الظلم والشر والاستبداد، وذلك بهدف تحقيق مجموعة من الأهداف السوسيولوجية في نفوس الشعب الواقع تحت الظلم والاستبداد ومن أهم هذه الأهداف البعيدة المدى ردع الشخصية الوطنية عن التفكير بحقها الأساس في الخلاص من هذا الظلم والانتقال للاكتفاء بمحاولة تحقيق الشروط الأدنى من الاحتياجات الإنسانية للحياة وإن كانت تحت هذا الظلم المتراكم والمتعدد الأوجه والأشكال، ومع تراكم صور التوحش في العنف والاستفزاز تبرز في الواقع المعاش أشكالا جديدة مبتكرة يتم توجيهها بعناية باتجاه الضحية حتى يصل لمرحلة المراجعة الفكرية عن مغزى وجوده أصلا ليصل في مرحلة ما للنتيجة القائلة بضرورة ترك المكان والبحث عن فضاء أكثر رحابة واتساعا وقدرة على تلبية متطلباته الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبهذا يحدث الانفصال النفسي والارتباط المعنوي لكل ما كان يشكل لهذا الشعب نوعا من الغذاء الروحي الذي يمده بالتمسك في حقه بأرضه ووطنه وما يحدث في الأرض الفلسطينية من قتل وهدم واعتداءات وحشية ليل نهار بلا توقف أو تباطؤ يصب في هذه الإستراتيجية التي تشترك فيها عناصر الدولة المحتلة من قوى أمن وشرطة ومستوطنين، وهذه الأشكال من العنف تزداد ضراوة يوما بعد يوم وفي كل يوم يصبح الأمر أكثر قسوة، ففي المدن التي تحوز على أغلبية دينية أصبح مجرد الدخول بالخطأ لإحداها من قبل أحد الفلسطينيين يعني أنه سيفقد حياته، وهذا بالفعل ما حدث مع سائق الحافلة المقدسي إبراهيم حامد الذي نجا بأعجوبة بعدما تعرض لمحاولة قتل من قبل المئات من اليهود المتطرفين الذين قاموا بالهجوم على حافلته مجرد سماع صوت أحدهم يقول هذا عربي، هذه الكلمة لوحدها كانت كافية لأن يفقد إبراهيم حياته ويخسر شبابه وتتعرض العائلة بأكملها لصدمة نفسية قد لا تخرج منها، ولم تمضِ أيام حتى قامت مجموعة من المتطرفين بالهجوم على شاب آخر وهو الشاب محمد أبو الحمص من قرية العيسوية في القدس وضربه وإصابته بإصابات بالغة دون أي سبب فقط لأنهم عرفوا بأنه عربي.
هذه الأشكال من العنصرية والتطرف والعنف التي تضرب كل من يختلف معها في نموذج بني براك والأحياء المتدينة في القدس المحتلة لا تفرق بين عربي مسالم أو غير ذلك، وعربي لوحدها بالنسبة لهم تشكل خطرا وجوديا على حياتهم وهم بذلك يظهرون الوجه الحقيقي للحضارة الجديدة المتوحشة، هذه الحضارة التي حاولت لأكثر من سبعة قرون الإدعاء بتعرضها لمجزرة بشعة وأقامت حجتها على هذا الأساس تمارس في الشكل والمضمون نفس الممارسات التي استمرت لعشرات السنوات تدعي بحدوثها في حقها وها هو الشعب الفلسطيني يتعرض من قبلها لأبشع الممارسات اللاإنسانية واللاأخلاقية والتي تحدث في كل لحظة على مرأى ومسمع العالم أجمع، على أمل أن يجد هذا الشعب من ينقذه من هذه الحضارة التي تحترف الإجرام يوما بعد يوم.
عن جريدة الدستور الأردنية