بـــعـــد 54 عـــامـــاً رأيـــتُ فـــلـــســـطـــيـــن!

ها أنا أكتب عن زيارة الحلم والحنين لوطني فلسطين.

خلال ما يزيد عن شهر (10-5-2023 / 14-6-2023)، لم يكن الوقت وقت كتابة، كنت منشغلاً في مشاهدة المدن والشوارع والأزقة والمحلات والوجوه والملامح والناس والأسواق والباعة والسماء والجبال والوديان وحقول الزيتون وكروم العنب، أتشرب الأصوات والألوان، وأختزن في رأسي وقلبي كل شيء.

بعد أن أقلني بسيارته صديقي الوفي ابن البلاد ابن الناصرة مروان مشرقي من مطار اللد إلى مدينتي خليل الرحمن، أول ما قمت به هو زيارة قبريْ أمي وأبي وأضرحة الشهداء، وقرأت الفاتحة على أرواحهم.

وفود كثيرة أتت لتهنئتي والسلام عليَّ، من آل جابر ومن عائلات أخرى في الخليل، وكذلك وفد من أهالي دورا الكرام، بلدة الشهيد باجس أبو عطوان والشهيد ماجد أبو شرار.

أقيمت على شرفي ولائم عديدة، وأكلت “القدرة الخليلية” التي كنت نسيتها.

رأيت الصغار الذين كبروا، وتأملتُ الكبار الذي هرموا وشاخوا.

وجدت أن لقب “عدنان السيخ” سبق وصولي إلى فلسطين.

كثيراً ما تعرضت لهذا لسؤال:

– هل أنت عدنان جابر بطل “عملية الدَّبويا”؟

وكنت أجيب: لا، أنا عدنان جابر آخر.

وحين يسألني أحدهم: هل أنت “عدنان السيخ” ؟

أجيبه: نعم، هذا صحيح، أنا “عدنان السيخ”، ولكن سيخ فلسطين، وليس سيخ الهند!

هناك ثلاثة أسرى أسماؤهم “عدنان جابر”، كاتب هذه السطور واثنان آخران، هما:

1- عدنان جابر محمود جابر من قرية تياسير قرب طوباس في محافظة نابلس، أحد أبطال عملية الدبويا (“بيت هداسا”) الشهيرة في الخليل التي حدثت في 2 أيار مايو عام 1980 وأسفرت عن مقتل 6 صهاينة وجرح 20 آخرين، وكان معه في المجموعة التابعة لحركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح التي قامت بالعملية، ثلاثة مناضلين هم:

– ياسر حسين محمد زيادات من بلدة بني نعيم قضاء الخليل.

– تيسير محمود طه أبو سنينه من مدينة الخليل.

– محمد عبد الرحمن صالح الشوبكي من بلدة إذنا قضاء الخليل.

2- عدنان مثقال جابر (أبو مثقال)، قريب لي من العائلة، مواليد القدس وسكان بيت لحم، مناضل قديم من الرعيل الأول في حركة القوميين العرب وعضو اللجنة المركزية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عشتُ معه في سجن الخليل عام 1974 وفي سجن نابلس عام 1975، وكان الأسرى يميزون بيننا بـ “عدنان الكبير” و “عدنان الصغير”.

يوم الأربعاء 17 كانون أول ديسمبر 2014 توفي عدنان جابر أبو مثقال عن عمر 72 عاماً (القدس عام 1942 / بيت لحم 2014)، في ذلك اليوم كنت مع أسرتي في بلغاريا، أصيب كثير من الأهل والأصدقاء في فلسطين والشتات بالصدمة حين انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي خبر “رحيل المناضل عدنان جابر” ظانين أنني المتوفي.

لم أمت بعد. المهم أن نعيش بكرامة، وأن نترك بصمة جميلة في الحياة.

من بيت شقيقي جهاد في البلدة القديمة في الخليل، حارة بني دار، ذهبت مشياً على الأقدام برفقة ابنه صالح لصلاة الجمعة في الحرم الإبراهيمي الشريف.

أمام الحرم، من جهة اليمين، تأملت البقعة التي اشتبكت فيها مع جنود الاحتلال قبل 54 عام، في 5 حزيران يونيو 1969، حين كان عمري 17 عاما.

يومذاك، كان جنود العدو بكامل أسلحتهم وأنا بـ “سيخ كباب” صنعته في مدرسة الأمير محمد الإعدادية المهنية في الخليل عند الأستاذ ناصر السلايمة رحمه الله. بهذا السيخ طعنت 3 جنود مدفوعاً بقهر عظيم، خصوصاً ما رأيته في ملعب الإبراهيمية في حزيران عام 1967:

كنت بائع شاي متجول، شاهدت جندياً ينادي على طفل صغير عمره حوالي 5 سنوات، خاف الطفل من الجندي وهرب، فما كان من الجندي الوغد إلا أن جلس على ركبة ونصف كأنه في حقل رماية وصوب بندقيته على الطفل وأطلق النار. “تفعفل” الطفل مثل عصفور وصعدت روحه إلى السماء لتخبر الله بكل شيء.

انتقمت لهذا الطفل بعد سنتين.

منذ ذلك اليوم وحتى الآن، خلال أكثر من نصف قرن، حين أتحدث عن هذا الجندي ـــ الوغد وعن هذا الطفل ـــ العصفور مع عرب أو أجانب، في محاضراتي في دول عديدة عن الاحتلال والأسرى وتجربتي الخاصة ، وفي ندواتي التي عقدتها في الخليل ونابلس مؤخراً، وكذلك الآن، في هذه اللحظة التي أكتب لكم فيها، لا أتمالك نفسي، وأجهش بالبكاء.

لا أندم. ولا أعتذر عما فعلت.

طعني لثلاثة جنود إسرائيليين بسيخ كباب ثأراً لذاك الطفل هو الذي منحني لقب “عدنان السيخ”، وهو أهم عمل قمت به في حياتي. هو عندي أهم من شهادة الدكتوراة في الفلسفة التي أحملها، أهم من المقالات العديدة التي نشرتها والعديد من المحاضرات التي ألقيتها، وأهم من الكتب الأربعة التي ألفتها.

طعني لثلاثة جنود إسرائيليين هو مساهمتي الصغيرة في حب فلسطين، وهو رصيدي الأهم عند الله.

سافرت إلى القدس برفقة ابن خالي مروان. صليت في الأقصى وجلبت تراباً من هناك.

في رام الله، برفقة الصديقين المهندس إيهاب الفلاح والشاعر خالد جمعة، زرت ضريح الشاعر محمود درويش وضريح الرئيس ياسر عرفات، وفي كوبر زرنا ضريح الشاعر المفكر حسين البرغوثي.

زرت كنيسة المهد في بيت لحم برفقة زميل الأسر الصديق محمد مناصرة.

وفي الناصرة، برفقة زميليْ الدراسة في بلغاريا الصديقين العزيزين مروان مشرقي والدليل السياحي الرائع رائد نصر الله زرت”كنيسة البشارة” و “جبل القفزة”، زرنا ضريح القائد الشعبي الشاعر توفيق زياد صاحب قصيدة “أناديكم” التي غناها أحمد قعبور، وضريح الشهيد الشاعر عبد الرحيم محمود صاحب قصيدة “سأحمل روحي على راحتي”.

على شاطئ عكا، قرب الموج تماماً، احتسيت القهوة رفقة الصديقة الفنانة المسرحية سامية قزموز بكري والصديق العزيز زميل الدراسة في بلغاريا ابن حيفا ماجد خمرة.

أقلني ماجد بسيارته إلى المقبرة وزرنا ضريح “الباقي في حيفا” المناضل الكبير والأديب الفذ إميل حبيبي وقرأتُ الفاتحة على روحه.

لا أنسى فرحتي حين نشر لي إميل حبيبي قصيدة عن حصار بيروت بعنوان “كان ذلك في بيروت” على ثلاثة أعمدة كاملة في صحيفة “الاتحاد” (3 كانون الأول 1982).

في فلسطين، كل شيء كان جديداً عليَّ بعد أكثر من 54 عاماً من الغياب، 7 سنوات ونصف من الأسر و47 عاماً من الإبعاد والتشرد والتنقل والإقامة في المنافي والمستشفيات والجامعات وأماكن العمل والانشغال بالصراع بين الوجود والمعنى.

في فلسطين، رأيت الاشتباك الجغرافي بين فلسطين وسرطان الاستيطان، مستوطنات تمتد وتلتف كأفعى كبيرة على السفوح وفي أعالي الجبال.

جدار الفصل العنصري طويل وعالٍ، يخترق مدناً ومناطق عديدة، والمستوطنون يعيشون في شقق فارهة وبنايات عالية، وينظرون إلينا من عَلٍ.

لن تقدروا علينا

نحن وإياكم والزمن، قصير أو طويل

قالها الطفل فارس عودة لدبابتكم، وهكذا تقول لكم نابلس وجنين وعشاق فلسطين.

في فلسطين، أينما تجولت ويممت وجهك ترى صور الشهداء.

في نابلس، أخذني الصديق الدمث عاشق التاريخ المهندس زياد عميرة مسؤول قسم المساحة في بلدية نابلس في جولة بسيارته ليريني نابلس الحديثة، رفيديا وغيرها من المناطق، أما رؤيتي لنابلس القديمة فقد تكفلت بها أربع صبايا هن: فاطمة عبده، شذا عبده، رولان عبده ولينا حداد ابنة الشهيد ربحي حداد الذي علمني الفلسفة في سجن عسقلان عام 1970 قبل أن أنال شهادة الدكتوراة في الفلسفة من بلغاريا عام 1991.

هؤلاء الوردات النابلسيات كُنَّ لي خير رفيقات وخير دليلات.

قلتُ لهن: أريد الذهاب إلى البلدة القديمة في نابلس وإلى حارة “الياسمينة” معقل عرين الأسود، حتى لو استشهدت.

في أزقة البلدة القديمة رأيت أقمار الشهداء، تجولت في أماكن الاشتباك بين المقاتلين الفلسطينيين النبلاء وبين الصهاينة العنصريين الذين يصرون على أن “العربي الجيد هو العربي الميت”..

رأيت المكان الذي استشهد فيه معلمي ربحي حداد خلال اجتياح عام 2002.

مشينا في حارة الياسمينة إلى نقطة محددة. عدنا دون أن يحدث لنا سوء.

في اليوم التالي اقتحمت قوات الاحتلال حارة الياسمينة.

أنا عدنان جابر، “عدنان السيخ”

الحالم الذي يعشق الحرية ويمقت الطغاة

ما زلتُ مسجَّلاً في كتاب الحياة.

وفي فلسطين، رأيت القهر خارجاً من أفواه الناس، وقائع وقصص كثيرة، عن فساد السلطة وعن تكالب مسؤولين وضباط كبار على المال والنهب والثراء بأي ثمن.

في كل مكان في فلسطين، يتحدث المواطنون عن أبناء الرئيس، ثلاثيِّ الفساد الذين يهيمنون على سجائر الشعب، ووقود الشعب، ودواء الشعب، واتصالات الشعب…

في فلسطين، في ناس بشموا هوا، وفي ناس بياكلوا هوا!

في فلسطين ناس بيحكوا بالملايين، وفي ناس بالكاد يجمعوا ملاليم!

وفي فلسطين الفرق كبير بين القابضين على الجمر، والقابضين على الدولار.

الفساد الفلسطيني أسوأ من الفساد العربي، لأننا ما زلنا شعباً تحت الاحتلال ولم تقم لنا دولة بعد، بل لدينا سلطة خاضعة وخادمة للاحتلال، سلطة ليست لنا بل علينا.

الفساد الفلسطيني هو الاحتلال الثاني!

في فلسطين، أينما تجولتُ، حين يتعلق الحديث بالعدو الصهيوني، والعمليات التي يقوم الشبان الأبطال، كنت أرى الثقة بالنصر في عيون وكلمات الناس، وأسمع “الله كبير، آخرتها بتفرج”

في الوقت ذاته، حين يتعلق الحديث بالوضع لفلسطيني، والسلطة، وعلاقتها بالاحتلال وبشعبها، كنت أرى الغضب والمرارة.

الظلم لا يدوم، ودوام الحال من المحال، وزيادة الضغط تولد الانفجار.

الصهاينة العنصريون المتعجرفون لن يقدروا على شعبنا

هم وعارنا، طحالب الفساد، إلى زوال.

لا يمكن الهروب من الوطن. إذا هربت من الوطن لن يهرب الوطن منك. ستحمل هاجسه ويؤرقك الحنين أينما ذهبت. وسترافقك الذكريات، كما تقول إيزابيل إللندي، حتى القبر.

ها أنا الآن في فرنسا. بغصة وحزن أندرج في المنفى من جديد.

في زمن مضى، هزتني عبارة في إحدى الروايات:

“ما نفع المواهب، إذا كان الإنسان دون وطن”

وهنا، والآن، وفي كل وقت، توجعني عبارة ناظم حكمت المحيِّرة والمريرة:

” أن تكون سجيناً في وطنك، خيرٌ من أن تكون إمبراطوراً في المنفى”

أنا ابنكِ يا فلسطينُ

أنا العاقلُ المجنونْ

من جرَّبَ ضيقَ الدنيا

وسِعَةَ السجونْ

قدري أن أعيشَ في هذا الزمن

مِن منفى لمنفى

وكل حضن منفى

بعد حضن الوطن

حين خرجت من السجن، كان في رأسي معادلة وبوصلة: الحياة صراع + كل مشكلة ولها حل.

سأفعل مثلما اعتدت أن أفعل، سأذهب إلى وصفتي المفضلة:

عليك بالغناء..

لا تحمل الحياة على محمل الجد، وحَوِّل الحزن إلى كتابة.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *