بداية الغزوة الحالية: “انتقلنا من الدفاع الى الهجوم”

قبل اسابيع قليلة وقف نفتالي بنيت على تلة مشرفة على راهط في النقب وصرّح بأن الدولة سوف تنتقل الى الهجوم. والهجوم باللغة الاسرائيلية يعني العدوان المتجدد وغزو ما تبقى من وجود عربي في هذه المنطقة من فلسطين والتي باتت ذات اهمية استراتيجية في المخططات الاسرائيلية الامنية والاقتصادية وفي مجال التجارة العالمية، مستندة الى شبكة العلاقات الاقليمية وبالذات الاماراتية واعتمادا على ولي العهد السعودي الواعد لها حين يرث أبيه.

لقد سعت اسرائيل على مدى السنين الطويلة الى إنهاك أهل النقب بالاقتلاع والطرد وهدم البيوت والبلدات وإبادة المحاصيل وبالذات زراعة القمح بالطائرات الرشاشة للمبيدات الكيماوية، ثم انتقلت الى ابادة الزراعة بتجريفها سنويا ومصادرة قطعان الغنم والإبل، ثم أغرقت المنطقة بالجريمة والسلاح، واستنزفت طاقات هائلة من أهلها عسى أن يكون ذلك ميسّرا لمخططاتهم. كما سعت الى استمالة مجموعة من جماعة “أبو يائير”، مستعينا بالميراث الاستعماري الأشمل تاريخيا والذي مارسه حزب المباي (العمل لاحقا). إلا أن نفتالي بنيت صاحب النظرية والممارسة الاستعمارية الاستيطانية الأعنف، والمنطلق من أن المستوطنين هم “طلائع الصهيونية الراهنة”، والمسؤول السابق في مجلس المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، بدأ عدوانه الحالي بالتهديد والوعيد من على التلة المذكورة، فالاستيطان بالنسبة له كما لتاريخ الصهيونية يبدأ من التلال، واذا لم يكن كذلك فيستعيض عن التلّة بما درجت تسميته “البرج والسور” او بإقامة معسكر جيش بمحاذاة المكان المسلوب، ليحمي ما سلبوا من أصحاب الحق.

جاء بنيت مسلحا بائتلافه الذي يضم القائمة العربية الموحدة وميرتس بعربها ويهودها، الحزبان اللذان أعلنا الولاء للائتلاف الحاكم ويلتزمان به، ولن تسعف أحد تلك البدعة لسياسية التي تتردد مؤخرا بأن “التواجد في الائتلاف أصعب بألف مرة من التواجد في المعارضة”، وأن “المسؤولية تجاه المجتمع تحتّم ذلك”، وكأن الانضمام الطوعي للائتلاف الاسرائيلي الحاكم وعلى حساب الاخلاقيات الوطنية هو تضحية، وكأنه يمنح عرب الائتلاف قدرة تأثير على أداء الدولة. إنه شراكة في الائتلاف الحاكم لكنه ليس ولم ولن يكون شراكة في الحكم، وهي أصلا مرفوضة وطنيا ايضا.

سعت الحكومة الى ان تظهر بأنها لا تنفذ تهديدات رئيسها مباشرة، بل أحالت المهمة على إحدى اهم الادوات الاستعمارية للمشروع الصهيوني في فلسطين، ألا وهي الكيرن كييمت ليسرائل (الصندوق القومي اليهودي)، مسنودة بفتوى حاخامية وسياسية بأن “عام الشميتا” الذي يحلّ مرة كل سبع سنوات وفي هذا العام، والذي تمنع فيه الشريعة اليهودية من زراعة الارض او قطف ثمارها في “البلاد المقدسة”، لا يسري على ممارسات الكيرن كييمت في النقب بصفتها ضرورة قصوى “لصالح الشعب اليهودي”، لتقوم بتشجير عشرات ملايين الغرسات في المكان، بينما دور الدولة هو حمايتها وتجريف 55 الف دونم من اراضي العرب الفلسطينيين، وبناء التلال الاصطناعية والسدود ثم التسييج لتحول دون دخول اصحابها اليها. ثم تحميها قوانين الارض والاحراش والزراعة. الا ان هذا الاسلوب ليس بجديد فهو مصاغ في جوهر الصهيونية وفي الجريمة الكبرى اي نكبة العام 1948 المتأصّلة في روح الدولة، وبالذات بروح الحكم العسكري بعد الاحتلال الاول، حين دأبت الدولة الى استخدام منظومة “المناطق المغلقة” كي لا تعود الناس الى بلداتها وبيوتها وممتلكاتها، قبل ان يصبحوا لاجئين في الشتات وجزء منهم في الوطن.

وللتذكير فإنه وإن كانت اسرائيل تستغل حالات الحرب لتقوم بأعمال طرد او مصادرة او نهب، وذلك منذ مجزرة كفر قاسم وحتى اليوم، ففي النقب استغلت كل اتفاق “سلام” مع أية دولة عربية لتصادر وتنهب، فعلى خلفية اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر قبل اربعة عقود ونيّف صادرت اسرائيل مليون دونم من الاراضي العربية في النقب، والان تبني مشاريع استراتيجية مع الامارات في نقل الغاز المسيّل عبر اراضي النقب الى اوروبا وكذلك ضمن مخططات السيطرة في البحر الاحمر وشرق افريقيا. هذا كله ناهيك عن الاقتلاع والتطهير العرقي وتهجير البلدات العربية الفلسطينية في شمال النقب وهي المنطقة الافضل للزراعة والاكثر خصوبة.

أن الغزو الحالي للاراضي العربية في النقب وحملة القمع التي ترافق آلة العدوان هو بحجم جريمة حرب وجريمة ضد الانسانية كونه يشكل عملية تطهيرعرقي وإرهاب دولة، وهذا ما ينبغي ان يصل الى لجنة التحقيق المنبقة عن مجلس حقوق الانسان في الامم المتحدة المعنية بجرائم اسرائيل ضد الفلسطينيين كما ان يصل الى كل المحافل، الا ان ما يردع حكومة الغزو هو ليس التغيّب عن جلسات الكنيست وإنما إسقاطها، التغيّب عن جلسة كنيست اسرائيلي ليس نضالا. لكن لا يغرّنّ أحد بأنّ ما يجري هو سياسة حكومة فحسب، بل إنه سياسة الدولة العميقة بروحها الاستعمارية العدوانية من بن غوريون وحتى بنيت، وما يردع هذا هو قوة النضال الشعبي والصمود العربي الفلسطيني في النقب وليس فقط في النقب. فالنقب هو ارض المواجهة الحالية، لكن النقب هو لأهله المباشرين، وكلنا أهل النقب كما الجليل والساحل والمثلث وكما هو حال فلسطين. اكثر ما يثلج القلب هو الحضور القوي والفعال والمؤثر للأجيال الصاعدة في النقب، التي تحمل راية الكفاح وهي الضمانة بأن الطريق الكفاحي الطويل سيتواصل، وهو ما من شأنه ان يردع المشروع التصفوي الاستعماري. الحرية والكرامة الوطنية هما بقدر ما نناضل من أجلهما.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *