بايدن وتعزيز الإنقسام الفلسطيني
هزيمة ترامب وخروجه من المشهد السياسي الأمريكي والعالمي والشرق اوسطي هو افضل تحول حملته هذه السنة الكئيبة 2020، التي ظلت تنهال علينا بكوارث لا متناهية بدأها ترامب نفسه ب “خدعة القرن”. ترامب يترك الأمريكيين منقسمين بعدما عزز الكراهية بين عشرات الملايين من المؤيدين له وعشرات الملايين من معارضيه. داخلياً، تعهد جو بايدن في خطاب الفوز بأن يعمل على انهاء ذلك الشرخ الرأسي الذي يراه الجميع في أمريكا. خارجياً وفلسطينيا، هناك تخوف حقيقي بأن قدوم بايدن قد يُغري فريق السلطة الفلسطينية بمعاودة المتاجرة في الوهم، والتخلي عن جهود المصالحة الوطنية وإبقاء الانقسام. اذا حصل ذلك فسوف نكون امام مفارقة مريرة وساخرة: يعملون على لملمة انقساماتهم وإعادة انتاج توافقات وطنية، ونحن نعمل على إعادة انتاج الوهم وإبقاء انقساماتنا.
خلال سنوات اربع في البيت الأبيض جلب ترامب دماراً على فلسطين والفلسطينيين ربما عادل أربعين سنة من الدمار والكوارث. مع ذلك ثمة جانب مهم ومفيد رافق سياسته وتمثل في إنهاء الوهم الفلسطيني الرسمي بدور امريكي ضاغط على إسرائيل، او حتى مجرد القيام بدور نزيه، وهو ما اعتاشت عليه الرسمية الفلسطينية في حقبة ما بعد أوسلو. الخشية تكمن الآن في احتمالات عودة الوهم ليحتل قلب العمل السياسي الفلسطيني ومعاودة الدوران حوله لمدة ثماني سنوات قادمة، هي رئاسة بايدن (وكامالا هاريس نائبته)، عبر نفس الأدوات والسياسات والأشخاص والآليات. سوف يقدم بايدن بعض “الجَزر” للسلطة الفلسطينية، منها استئناف الدعم المالي هنا وهناك، وربما إعادة فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وسوى ذلك، مما ألغاه ترامب، بما يقدم شريان بقاء ضروري للسلطة، التي سوف تقوم بدورها بإستئناف التنسيق الأمني والعودة إلى سياسات ما قبل ترامب. ومن غير المُستبعد ان يدعو بايدن بل ان يبادر الى عودة المفاوضات والشروع في جولات جديدة. اذا وقعت السلطة في هذا الشَرَك فإنها مسؤولة منذ الآن عن إضاعة سنوات إضافية قادمة على الفلسطينيين ترسخ من الوضع القائم الذي جوهره توسع المستعمرات والضم التدريجي على الأرض وتهجير الفلسطينيين بهدوء. وسوف تكون الضحية المباشرة هي المصالحة الوطنية والتوافق الوطني.
سوف تعترض إسرائيل وربما أمريكا بايدن على مصالحة فلسطينية بزعم انها ستتضمن حماس مع سلاحها. وهنا يجب ان يكون الموقف الفلسطيني صلبا وواضحا، فحماس لا تمتلك واحد في المائة من الأسلحة التي يمتلكها عشرات الملايين من مؤيدي ترامب ومع ذلك تتم “المصالحة الامريكية” والكل يباركها ويؤيدها ويدعو لها. في اقل التقديرات، هناك اربعمائة مليون قطعة سلاح متوفرة بين ايدي الأمريكيين، وخاصة في جانب البيض المحافظين.
في ضرورة تقويض الوهم الذي قد يعود الينا من النافذة، علينا ان نستذكر ما تركه لنا الراحل نصير عاروري في كتابه المهم عن غياب اي “دور نزيه” للولايات المتحدة من خلال تنقيبه وتحليله مواقف كل الإدارات المتتالية منذ تأسيس إسرائيل ووصولا إلى إدارة بوش الإبن:”الوسيط الخادع: دور الولايات المتحدة في فلسطين وإسرائيل” Dishonest Broker: The Role of the United States in Palestine and Israel (2003). ومن التراجيديات الكوميدية في كتاب عاروري نقله لإعجاب وانبهار جورج بوش الابن برئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون قائلاً: “كلما اقابل هذا الرجل اتعلم شئياً جديداً”. أضاف رشيد الخالدي كتاباً بالغ الأهمية في نفس السياق أضاف فيه مواقف الإدارات وصولا الى الفترة الأولى لباراك أوباما “وسطاء الخداع: كيف قوضت أمريكا السلام في الشرق الأوسط”: Brokers of Deceit: How the U.S. Has Undermined Peace in the Middle East (2014). ويوسع خالدي نطاق التحليل الوارد في الكتاب ويستعرض الدور والسياسة الأمريكيين ليس فقط إزاء فلسطين وإسرائيل بل في وإزاء السياق الإقليمي الاعرض.
استدعاء هذه القراءات الاكاديمية الرصينة في هذه اللحظة الخادعة امر مهم، بل ومهم جدا لمواجهة الوهم المُحتمل. ومن الضروري في هذه الوقت التأكيد على تفكيك هذا المنظور، أي تفكيك الوهم، في بداية تسلم جو بايدن للرئاسة الامريكية، حتى لا تعيد السياسة الفلسطينية اجترار ما تم تجربته والفشل فيه، وحتى لا تكون المصالحة الوطنية التي بالكاد تحركت وقامت على قدميها ضحية التشبث بسراب خادع. صحيح ان هذه المصالحة ما زال ينقصها الكثير وانها تطورت بعدما حُشر الطرفان الفلسطينيان الأقوى، فتح وحماس، في الزاوية، إثر صفقة القرن ومخططات الضم وإندفاعة موجة التطبيع، وانها اتسمت بتوجه “براغماتي” ظرفي اكثر من كونها تطوراً عميقا في فكر وسياسة الطرفين. لكن مع ذلك يجب التشبث بها ودعم بداياتها وتوسيعها، والتخلي عن المقاربة المُتعبة والمُملة نحو المصالحة الداخلية حيث ينشط التوجه نحوها كلما حصل إنسداد خارجي، ثم يتم التخلي عنها كلما يعود الوهم إلى الساحة في حلة زائفة متجددة او تحت رئاسة أمريكية جديدة. التوافق الوطني وبناء بيت فلسطيني داخلي هو شرط شارط للإنقاذ الوطني وبعيدا عن أي شروط وظروف متغيرة.