بايدن وأوباما وكلنتون: فلسفة «رفاه» غزّة؟
شهدت مدينة نيويورك مؤخراً حفلاً غير عادي احتضنته قاعة «راديو المدينة» الأيقونية، وكان مكرساً لمساندة الرئيس الأمريكي/ المرشح الرئاسي الديمقراطي جو بايدن وجمع التبرعات لصالح حملته الانتخابية. الجانب الأوّل الاستثنائي في الحفل أنّ بايدن حضر إليه صحبة اثنين من أسلافه رؤساء أمريكا، باراك بوما وبيل كلنتون؛ والجانب الآخر أنّ بطاقات الدخول إلى القاعة تراوحت بين 250 إلى 500.000 دولار أمريكي (ولا خطأ في الرقم الثاني: نصف مليون دولار!)؛ الأمر الذي أسفر عن قيمة إجمالية للتبرعات بلغت 25 مليون دولار.
وقد تقاسم الرؤساء الثلاثة الأدوار في مخاطبة الحضور، فتولى بايدن سرد نكات ثقيلة الظلّ عن كلبه الذي عضّ عدداً من كوادر مجلس الأمن القومي الأمريكي، فتوجّب إبعاده عن البيت الأبيض. كلنتون اختار الدفاع عن سياسات بايدن الاقتصادية، فقارن عدداً من معطياتها مع الحال خلال عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، ورجّح الكفة لصالح الرئيس الحالي. وأمّا أوباما فقد عُهدت إليه المهمة الأصعب: إقناع الضيوف، ومن ورائهم غالبية متزايدة في صفوف الحزب الديمقراطي، بأنّ سياسة بايدن حول الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزّة متوازنة بين مساندة دولة الاحتلال والدفاع عن حقّ الفلسطينيين في الغذاء والدواء ودولة في المستقبل.
ولأنّ القاعة شهدت، مراراً، هتافات ضدّ هذه السياسة التي اعتُبرت بمثابة «عارٍ عليه»، وتكررت مفردة الإبادة هنا وهناك من جانب بعض الحضور، وتصادت مع أصوات احتجاج أعلى احتشدت خارج القاعة وفي الشوارع الموصلة إليها؛ فقد انساق أوباما إلى طراز من «التفلسف»، اشتُهر به أيضاً بصدد نزاعات بالغة الحساسية (الانتفاضة السورية، وأضاليل «الخطّ الأحمر» إزاء استخدام الأسلحة الكيميائية من جانب النظام السوري، على سبيل المثال فقط).
وقال أوباما إنّ منصب رئيس الولايات المتحدة «كرسيّ أعزل»، وأنّ «أولى حقائق الرئاسة تكمن في أنّ العالم ينطوي على الكثير من البهجة والجمال، ولكنه أيضاً يتضمن الكثير من المأساة والقسوة». ومن المفهوم، تابع الرئيس الأسبق المتفلسف، أنّ «الناس غالباً يرغبون في الإحساس بدرجة من الطهارة بصدد كيفية اتخاذ القرارات، ولكنّ الرئيس لا يملك ذلك الرفاه».
فأيّ رفاه هذا الذي يجعل بايدن يغلق البصر والبصيرة على فظائع حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة، منذ ستة أشهر، ضدّ الفلسطينيين المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة؛ والاكتفاء بحثّ مجرمي حرب أمثال بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت على تأمين الزاد للضحية قبيل الإجهاز عليها؟ وأيّ رفاه في الامتناع عن التصويت، أخيراً، على قرار من مجلس الأمن الدولي يطالب بوقف إطلاق النار، من جهة أولى؛ والمبادرة، من جهة ثانية، إلى تزويد دولة الاحتلال بصفقة تسليح جديدة تتضمن 1.800 قنبلة من عيار 2.000 باوند، و5.00 قنبلة أخرى من عيار 5.00، و25 مقاتلة من طراز F-35s؟
وأيّ رفاه، على جانب آخر داخلي وحزبي أمريكي هذه المرّة، إزاء أحدث استطلاعات الرأي التي تشير إلى أنّ مساندة حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة تتراجع باضطراد ملحوظ، وأنّ غالبية ضمن صفوف الحزب الديمقراطي لم تعد توافق الرئيس الأمريكي على خياراته القصوى في مساندة دولة الاحتلال؟ ففي استطلاع «غالوب» لشهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي كانت أغلبية 55% من الأمريكيين تؤيد الحملة العسكرية الإسرائيلية، وهي اليوم انخفضت إلى 36%؛ وثمة الكثير من الدلالات في أنّ الشرائح العُمرية والاجتماعية والإثنية التي صنعت انتصار بايدن في انتخابات 2020 هي، في معظمها، الشرائح ذاتها التي تنصرف عنه اليوم بسبب سياسات بصدد غزّة.
لا عجب، في المقابل، أنّ غالبية من ناخبي الحزب الجمهوري تواصل تأييد جرائم الحرب الإسرائيلية، فالمعادلات هنا تتكامل بدل أن تتعارض؛ وثمة تغييب لـ«رفاه» تسمية الحقّ، لصالح الركوع أمام الباطل.
عن القدس العربي