لا بد من التأكيد في البداية على ضرورة التعامل مع ما يحصل في الشيخ جراح باعتباره جزءً من عملية التطهير العرقي الذي بدأ بالنكبة عام 1948، ولم يتوقف تنفيذه منذ ذلك الحين. وعليه ما يجري في الشيخ جراح اليوم لا يمثل “حركة شاذة” في مسار عملية الاستيطان الإحلالي، وإنما تجسيداً صغيراً لما يحصل في القدس منذ عام 1967، وتذكيراً بما قامت وتقوم به الحركة الصهيونية ومؤسساتها في عكا وحيفا ويافا واللد والرملة منذ عام 1948، وتواصلا مع ما قامت به في أكثر من 500 بلدة فلسطينية قامت بتهجير أهلها والاستيلاء على بيوتها وأراضيها، ومرتبطاً مع عمليات الإخلاء القسري والتهجير الذي يمثل جريمة حرب، والمستمر ضد أهلنا في النقب منذ النكبة!!
ولا بد من الانتباه الى التناغم والتكامل بين مؤسسات الحكم والسيطرة داخل المنظومة الصهيونية التي لا تمثل دولة اسرائيل الا واحدة منها. فكافة الجرائم المركزية، تجاه شعبنا الفلسطيني تتم بمشاركة مؤسسات المشروع الصهيوني الرسمية، بما في ذلك مؤسسات الحكم التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتحظى بدعم ومساهمة من “المنظمات الشبه حكومية” التي اقامها مجتمع الاستيطان قبل النكبة وطور مكانتها القانونية والتنفيذية بعد النكبة من خلال قرارات المحاكم والاجهزة القضائية والقوانين التي سنتها الكنيست بهذا الهدف. مروراً “بالصندوق القومي اليهودي” والمؤسسات الاستيطانية التي اسست المستعمرات الاسرائيلية بعد تهجير القرى والبلدات الفلسطينية منذ عام 1948، وصولاً لمؤسسات الاستيطان والمنظمات الدينية الفاعلة اليوم في المناطق المحتلة عام 1967 والمدعومة من مؤسسات الحركة الصهيونية العالمية ومؤسسات دولة اسرائيل الرسمية.
ان ما نراه من فاشية تمارسها قوات الاحتلال على انواعها – ما ظهر منها وما بطن – بما في ذلك العنف والحقد والكراهية هو عملياً الطرف النهائي لعملية التخطيط الطويل والعقلية والأيديولوجيا التي تقوم على التفوق العرقي لليهود واحقيتهم في الوجود. وبالتالي فإن التركيز على هذه المظاهر قد يفقد النضال عنصراً هاماً بفضح القواعد المُؤَسِّسَة والجذور العنصرية التي تنبت عليها مظاهر عنف الشرطة والجيش وانظمة القمع المختلفة.
أن ما تمر به اسرائيل حالياً من أزمة في تشكيل الحكومة، هو بالواقع أحد المظاهر لإتمام سيطرة التيارات الدينية الاستيطانية على مفاتيح الحكم في اسرائيل، بعد ترسيخ قواعدها في الكنيست ونجاحها بتمرير القوانين التي تديم سيطرتها وتفرض اجنداتها العنصرية، ونجاحها بإحداث تغييرات جوهرية في التركيبة البشرية للنظام القضائي من خلال تعيين القضاة والموظفين في مختلف المناصب ومواقع القرار حتى رأس الهرم في “المحكمة العليا”. هذا بالإضافة لتغلغلها في المجتمع وسيادة أيديولوجيتها العنصرية في “الرأي العام” والمؤسسات الاعلامية المجندة لخدمتها.
إذا لا بد أن يكون النقاش حول جدوى استعمال “نظام القضاء الاسرائيلي” – بما في ذلك “محكمة العدل العليا”- خاضعاً لتعريف هذا الجهاز باعتباره السلطة القضائية التي أقامها نظام الاستيطان الاستعماري لتثبيت سلطته وتبرير جرائمه ضد الشعب الفلسطيني، والمُعرَّفة كجرائم حرب في القانون الدولي، وبرأسها جريمة الإحلال والاستعمار والأبرتهايد !!. وبالتالي فيجب ان لا تعقد الآمال على نجاعة هذا الجهاز في وقف العدوان ووقف الظلم، أو إعادة الحق لأصحابه، فبرغم “النجاحات” التكتيكية القليلة، الا ان التجربة اثبتت ان هذا الجهاز لا يعمل الا ضمن المنظومة العامة التي تأسست عليها اسرائيل وانها تحاول اصلاح كل ما يتعارض مع قيم الدولة اليهودية (العنصرية بجوهرها)، وان الخوض في بعض القضايا لم يكن الا لإيجاد المعادلة المناسبة لخدمة “القيم الديمقراطية” بهدف حماية سمعة الدولة وضمان انتظام عملها، بما يضمن الاستمرار بتحقيق يهوديتها ودوام السيادة الاسرائيلية والتفوق العرقي- الذي طالما وجدت المحكمة سبيلها لتبريره، كما حصل في قبولها “القوانين الاساسية للدولة” وقائمة القوانين العنصرية من قانون النهب الاكبر لحقوق اللاجئين “املاك الغائبين” لقانون الهدم والتهجير الجديد “كمينتس”، والاعتماد عليها منذ عام 1948 وحتى اليوم، وهي في مجملها قوانين تحقق التفوق العرقي لليهود على كل من هو “ليس يهوديا”، دون المساس بصورة الدولة أمام شعبها أولاً والمجتمع الدولي ثانياً.
ان التوجه للقضاء الاسرائيلي، قضاء الدولة الاستيطانية بجوهرها- التي تشرع الاستيطان وتدعم دوامه وتوسعه على حساب الارض والشعب الفلسطيني في الخليل والقدس كما في الجليل والنقب- (ورغم تفهم المنطلقات التي تتأسس عليها غالبية هذه التوجهات، باعتبارها محاولة لأصحاب البيوت البحث عن حلول- وحتى في سراب الحلول – التي قد تضمن عودتهم لبيوتهم وانهاء معاناتهم الفردية) – فإنه (التوجه للمحاكم الاسرائيلية)- يمثل قضية هامة، من الظلم تركها بعد 73 عاماً، لكل حالة فردية وإلقاء ثقلها في كل مرة، على كاهل أصحاب البيوت المهددة في كل قضية وقضية عينية. والقصد أنه آن الأوان لوضع استراتيجية وطنية لا تترك هذه الامور لقرارات محلية او مصالح لجمعيات ومؤسسات تمثل اجندات محددة (بدون علاقة مع نواياها او التشكيك بأجنداتها)، وتحديد البوصلة نحو اعادة تعريف الصراع بجوهره، ووضع برنامج النضال لحماية حقوق للشعب الفلسطيني بكل مركباته، دون إعطاء شرعية لأدوات وضعها الاحتلال لتبرير عنصريته ونظامه الإحلالي، والعودة للتركيز على التعبئة الجماهيرية والتثقيف على الموقف الداعم للنضال الجماهيري، وتعزيز عملية اشراك الجماهير في كل النضالات، كما أثبتته شوارع القدس وارادة الناس التي تحركت على طول الوطن.
وأخيراً فإن نموذج الاستيطان في الشيخ جراح يمثل سيناريو من المنطق والحكمة ان نتعامل معه باعتباره يمثل سيناريو مرتقب ومرشح للتوسع في تطبيقه في غالبية احياء القدس وباقي المدن الفلسطينية التي تحيط بها المستوطنات، وأنشأت فيها بؤراً استيطانية كما هو الحال في الخليل ونابلس وغيرها من القرى والبلدات الفلسطينية، وبالتالي سيكون للردود والتفاعل مع قرار المحكمة الصادر بالغد (هذا اذا لم تتدخل الحكومة لتأجيله مرة اخرى لإطالة امده والابتعاد عن نقطة الشحن التي احدثها- وبالتالي محاولة تفادي غضب الناس وتحركهم) هذا الرد الشعبي، سيكون له أكبر الاثر على تعامل حركة الاستيطان الصهيونية الدينية مع بؤر التوتر الكثيرة المرشحة للانفجار القادم.!!
- محمد زيدان – ناشط حقوقي – الناصرة