الْأَدَبُ الْفِلَسْطِيْنِيُّ بَيْنَ تَحْفِيْزِ المُقَاوَمَةِ، وتَحَدِّيَاتِ التَّطْبِيْعِ، ومُغْرَيَاتِ الْحَدَاثَةْ

صِراعُ سَرْدِيَّتَيْنِ وأَحْيَازُ أَزْمِنَةٍ لَامَكَانِيَّةْ

“سَيَلْتَقطُ الأَدَبُ الْفِلسْطينيُّ “رِسَالةَ الْوُجُودِ” الَّتِى أَصْغَى الأعَمُّ الأَغْلَبُ مِنْ مُبْدِعِيْهِ إِلَيهَا، وسَيَقُولُهَا بَكيْفِيَّاتٍ جَمَالِيَّةٍ عَدِيْدةٍ ومُتَنَوِّعِة، وسيَكُونُ لِلْحَفَاظِ عَلَى السَّرْدِيَّةِ الْفلسطينيَّةِ وتَعزيزِ حُضُورِهَا فِي الْوعيِّ الإنْسَانيِّ وفي شَتَّى مَدَاراتِ الْوجُودِ الْحَيَوِيِّ أَنْ يُعْدِمَ السَّرْدِيَّةَ الصُّهُونيَّةَ إِمكانِيَّةَ الاسْتِمْرارِ فَي الْوجُودِ، حَتَّى وإنْ أَمعَنَ هَذا الْغَازي الصُّهْيُونِيُّ فِي تَكْريْسِ تَجَلِّيَاتٍ حَقيْقِيَّةٍ قَابِلَةٍ لِلْبَقَاءِ والتَّنَامِي فَوقَ أيِّ بُقْعَةٍ مِنَ الأَرضِ الْفِلَسْطِيْنِيَّةِ، وعَلَى نَحْوٍ سَيَبْدُو، لِمَن لا يُحْسِنُونَ قراءةَ المستقبلِ، أَنَّهُ يُحَقِّقُ مُسْتَحِيلاً يَتَجَسَّدُ في جَعْلِ الأُسْطُورةِ الزَّائِفَةِ واقِعَاً يَتَجَلَّى في مَدَارٍ وُجُوديٍّ حَقِيْقِيٍّ هُوَ “فِلَسْطِيْنُ” الْمَسْرُوْقَةُ، والمُعَادةُ تَسْمِيَتُهَا، زُوْرَاً، بِاسْمٍ غَرِيْبٍ يَعْجَزُ عَنْ قَوْلِ ذَرَّةٍ ذَاتِ شَأْنٍ مِنْ حَقِيْقَتِهَا!”

عبد الرحمن بسيسو

لَمْ يَكُنِ الْوُجُودُ الْفلَسْطِينيُّ فِي “زَمَكَانِ الْحَقْلِ” مُوحَّدَاً فَحَسْبُ، بَلْ كَانَ واحِدَاً مُلْتَحِمَاً؛ فَمَا كَانَ هَذَا الزَّمَكَانُ، فِي حِقِيْقَتِهِ الْجَوْهَرِيَّةِ المُتَبَدِّيَّةِ في رُسُوخِ عَلاقَةِ طَرفَيْهِ بِبَعْضِهِمَا بَعْضَاً، وبالإنْسَانِ الفِلَسْطينْيِّ السَّاكِنِ أَرْضَاً عَمَّرَهَا بِعَطَاءاتِ عُمْرِهِ الْحيَّةِ فَأَحْيَاهَا، ومِنْ ثَمَّ امْتِلَكَهَا، فأَسَمَاهَا، نَاسِبَاً، في كَتَابِ الْوجُودِ الْحَقِّ، إِلَى نَفْسِهِ إِيَّاهَا، فَأَوْجَدَهَا فِي الْوجُودِ لِتَكُونَ هِي: “فِلَسْطِيْنَهُ” إِلَى أَبَدٍ هُو الْأَبَدُ؛ لَمْ يَكُنْ هَذَا الزَّمَكَانُ الْمَفْتُوحُ عَلَى الأبَدِ إلَّا زَمَكَانُ الْوَطِنِ الْحُرِّ الْجَامِعِ، والْمجْتَمَعِ الْحَيَوِيِّ الْمُتَمَاسِكِ، والإنْسْانِ الْحُرِّ الْكَرِيْم الْفَاعَلِ؛ طَلِيْقِ الْمُخَيَّلَةِ، وقَّادِ الْعَقْلِ، وضَّاءِ الْوِجْدانِ، مَشْحُوذِ الإرادةِ المُوجِّهَةِ، بِالْوعيِّ الإنْسَانيِّ النَّبِيْلِ ونِدَاءَاتِ الْوُجُودِ، فَاعِلِيَّةَ الْقُلُوبِ والأَعْيُنِ والْأذْرُعِ والْخُطَى، وهِمَّةَ الْيَدَيْن.

وإلَى ذَلِك، لَمْ يَكُنْ هَذَا “الزَّمَكَانُ الْحَضَاريُّ الْفِلَسْطِينِيُّ الإنْسَانِيُّ” إِلَّا مَجَالاً حَيَوِيَّاً اتَّسَمَ بَتَواصِلِ الْوجُودِ مُنْذُ مَا قَبْلَ بُزوغِ فَجْرِ الْحَضَارةِ الإنْسَانيِّةِ، وعَلى امْتِدادِ عُصُورِهَا، وعَلَى مَدَى تَحَوُّلاتِ التَّاريخِ السِّيَاسيِّ الْبَشَرِيِّ الْمَوسُومِ، فِيْمَا يَخُصُّ فِلَسْطِينَ” وَأَهْلِهَا، بِتَوالِي الْمَطَامِعِ والغَزَواتِ، وتَعَاقُبِ الإمْبراطُورِيَّاتِ والاحْتِلَالَاتِ، وتَغَايُرِ أسْمَاءِ الأَحقَابِ التَّاريْخِيَّةِ وأَحُوَالِهَا، وتَبَايُنِ أَوجِهِ جَدَلِيَّةِ الْحُرِّيَّةِ والضَّرورة فِي صَيرورةِ أَزْمِنَتِهَا وتَحَوُّلَاتِهَا، وتَبَدُّلِ شُروطِ الْوُجُودِ الْفِلَسْطِينيِّ الإنْسَانيِّ الْفَاعِلِ فِي شَتَّى أَحْيَازِ الْحَيَاةِ، وفِي مَدَاراتِ الْوُجُودِ الْحَضَاريِّ الْحَيَويِّ الْمُتَجَلِّيَةِ، أَبَداً، فِي جَمِيْعِ أَرْجَائِهَا، وفِي صَفَحَاتِ تَاريْخِهَا الْحَيِّ الْمَكْتُوبِ بِأصَابِعِ الْوُجُودِ الْحَقِّ، مُجَسَّداً فِي الإنْسَانِ الْفِلَسْطِينيِّ الإنْسَانِ، عَلَى جَبْهَتِهَا.

غَيْرَ أنَّ الْوجُودَ الْفِلَسْطِينيَّ فِي هَذَا الزَّمَكَانِ الُمُفْعَمِ بالدَّلالاتِ الإنْسَانِيَّةِ والأَبْعَادِ الْحَضَارِيَّةِ التَّارِيخِيّةِ الْوُجُودِيَّةِ، الْمَبْثُوثَةِ فِي الْفَقْرَتَينِ الْمَقْرُؤَتَينِ للتَّوِّ وفي كُلِّ مَا تَنْفَتِحَانِ عَلَيْهِ مِنْ مُبَادِئَ إنْسَانيَّةٍ سَامِيَةٍ وقِيَمٍ، لَمْ يَعَدْ، مُنْذُ وُقُوعِ “النَّكْبَةِ الْفِلَسْطِيْنِيَّة الْكُبْرى”، ومَعْ تَوالي فُصُولِهَا وانْدِلَاعِ شُرُورِهَا وتَمَادي حُضُورِ عَقَابِيْلِهَا الْمَأْسَاوِيَّةِ، قَائِمَاً؛ لِأَنَّ “زَمَكَانَ الْحَقْلِ”  نَفْسَهُ، لَمْ يَعُد مَوجُوْداً، إِذْ احْتُجِزَ وُجُوُدهُ، بِالْقُوَّةِ الْقَهْرِيَّةِ الْغَاشِمَةِ، وحِيْلَ بَيْنَهُ وإِمْكَانِيَّةِ الانْطِوَاءِ عَلَى أَدْنَى إِمْكانِيَّة لمُتَابَعَةِ الوُجُودِ؛ فَالمْكَانُ الزَّمَانِيُّ الأَصْلُ؛ أَيْ الوطَنَ الْفِلَسْطِيْنِيَّ: أَرْضَاً، وإِنْسَانَاً، ومجْتَمَعاً، وشَعْباً، وصَيْرورةَ وُجُودٍ، صُيِّرَ، وإِنْ ظَاهِريَّاً، غَيْرَهُ، حِيْنَ أُحْكِمَ الْقَبْضُ عَلَيْهِ بِإتْمَامِ احْتِلَالِ أَرْضِهِ وأَسْرِهَا ومُحَاصَرتِهَا واسْتِعْمَارهَا واسْتِيْطَانِهَا فِي تَلازُمٍ حَايِثَ، ولَمْ يَزَلْ يُحَايِثُ، الجُهُودَ الاستِعْمَارِيَّةَ الاحْتِلاليَّةَ الإحْلالِيَّةَ الْمحْمُومَةَ، الْهَادِفَةَ إلى هَوْدَنَتِهِ، وأَسْرَلَتِهِ، وإسْقَاطِ الأقْنِعَةِ الصُّهْيُونِيَّةِ التَّهْوِيديَّةِ الزَّائِفَةِ، عَنَتَاً وقَسْراً، عَلَى وجْهِهِ، وذَلكِ لِلْحَيْلُولَةِ دُوْنَهُ، ودُونَ بُنَاتِهِ وصُنَّاعِ تَارِيخِهِ الْحيِّ وحَضَارَتِهِ المُنِيْرةِ، ولا سِيَّمَا مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُقْتَلَعْ بَعْدُ، ومَنْ لَمْ يَجْرِ طَرْدُهُ بِعْدُ، مِنْ رِحَابِ أَرْضِهِ الْمسْرُوقَةِ الْمُسَيَّجَةِ بِالتَّوحُشِ الْعُنْصِرِيِّ الأَقْصَى، مِنْ أَصْحَابِهِ الأَصْليينَ ومُواطِنِيْهِ الَّذِينَ بَنُوهُ، فأَوجَدُوهُ، وجَعَلُوهُ “وطَناً” نَسَبُوهُ، عَنْ حَقٍّ، إلى ذَواتِهمِ الإنْسَانِيَّةِ الْحَضَارِيَّة الْحُرَّةِ فَأَسْمُوهُ: فِلَسْطِينَ، عَنْ مُتَابِعَةِ صَيرورتِهِمَا الْوُجُودِيَّةِ الْملْتَحِمَةِ: أرْضَاً، ومُجْتَمَعَاً، وشَعْبَاً، وحَيَاةً حَيَّةً، وَحَضَارَةً مُتَجَدِّدةً، وحَاضِراً تَاريخِيَّاً مَفْتُوحَاً عَلَى سَعْيٍّ لَاهبٍ لإِدْرَاكِ مُمْكِنَاتِ مُسْتَقْبَلٍ مَفْتُوحٍ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ يَمُورُ في الْوِجْدانِ الْفِلَسْطِينيِّ الْكُلِّيِّ، وفي شَتَّى مَدَاراتِ الْوْجُودِ الإنْسَانيِّ الْحَقِيْقيِّ الْمنْشُودْ.

وإِذْ لَمْ يَكُنْ أَمامَ هَؤُلاءِ الْفِلَسْطِينننَ الْمكْبُوحِيْنَ عَنْ اغْتِنَامِ أَدْنَى إْمكانِيَّة لتَجْلِيَةِ وُجُودِهِم الْحَيَوِيِّ في وَطِنِهِم الْمُؤَسْرَلِ المَأْسُورِ؛ هَذَا الَّذي كَانَ مَجَالاً حَيَوِيَّاً مَفْتُوحَاً صَيَّرهُ السَّلْبُ الاسْتِعْماريُّ الصُّهْيُونيُّ الْعُنْصُريُّ سِجْنَاً كَبِيْراً، بَلِ “السِّجْنَ الأكْبَرَ والأعْتَى” في تَاريْخِ السُّجُونِ الْكَونِيِّ بِأَسْرهِ، إلَّا أَنْ يُسْكِنُوا وَطَنَهُمُ وِجْدَانَهُمُ الْكُلِّيَّ، فَيُتَابِعُوا سُكْنَاهُ عَلَى نَحْوِ مَا قَدْ عَرَفَهُمْ وعَرَفُوهُ، ولَكنْ فِي أَعْمَاقِ هَذا الوِجْدَانِ الَّذِي أُسْكِنُوهُ إِيَّاهُ لِيَسْكُنُوا رِحَابَهُ عَلَى نَحْوٍ وِجْدَانِيِّ فَحَسْبُ؛ أَيْ مِنْ دونِ وُجُودِ أَدْنَى إِمْكانِيَّةٍ فِعْلِيَّةٍ لإِحالَةِ مُكَوٍّنَاتِ ذَواتِهِم الفَرْدِيَّةِ الُمُمَيَّزةِ، أو ذَاتِهِمْ الْجَمْعِيَّةِ الْجَامِعَة، إِحَالَةً مَوْضُوعِيَّةً فِي أَيٍّ حَيِّزٍ مِنْ أَحْيَازهِ الْحَيَاتِيَّةِ، أَو فِي أَيِّ مَدَارٍ مِن مَدَاراتِهِ الْوُجُوْدِيَّةِ الَّتي كَانَتْ تُجَلِّي وُجُودَ هَذِه الْمُكَوِّنَاتِ، وُجُوداً حَيَوِيَّاً زَاخِراً، خَارِجَ وِجْدَانِهِم، بِقَدْرِ مَوَرانِهَا الدَّافِقِ في عُرُوقِهِ وأَنْسَاغِهِ، وَفِي وشَائِجِ مُكَوِّنَاتِهِ، وفِي أَصْلابِ كُلِّ خَلِيَّةٍ مِنْ خَلَايَاهُ!

***

وسيَكُونُ لَنا، في المَقالِ اللَّاحِقِ مِنْ مَقَالاتِ هَذا الْمَهَادِ النَّظَرِيِّ الْجَمَاليِّ، أَنْ نُتَابِعَ التَّبَصُّرَ الْمُفْضِي إلى بَلْوَرةِ الإطِارِ المَنْهجيِّ النَّقْديِّ الْمُتَكَامِلِ الَّذِي نَتَوخَّى أَنْ يُمَكِّنَنَا تَأْسِيْسُهُ عَلَى نَحْوٍ مُعَزَّزٍ بِمُعْطَياتِ الأَدَبِ الْفِلَسْطِيْنِيِّ: إبْدَاعَاً ونَقْداً، ومُؤَصَّلٍ بِخُلاصَاتِهَا الْجَوْهَرِيَّةِ، مِنْ إعادةِ قِرَاءةِ هَذَا الأَدَبِ عَلَى نَحْوٍ يَفْتُحُ نُصُوصَهُ عَلَى تَأْوِيلاتٍ عُمْقِيَّةٍ تَتَجَاوزُ دَلالاتِهِ السَّطْحيَّةِ الظَّاهِرةِ فَتُمَكِّنُنَا مِنْ إِعَادةِ مُقَارَبَتِه، عُمْقَاً وامْتِدَاداً، وتُتِيحُ لَنَا فُرَصَ إدْرَاكِهِ مِنْ جَدِيدٍ وِفْقَ الْمنْهَجِيَّةِ التَحْلِيْلِةِ الَّتِي شَرَعْنَا بِبَلْورَتِهَا، والتي نحسبُ أنها سَتُؤَهِّلُنَا لالتِقَاطِ رسَائِلِهِ الْجَلِيَّةِ والْمُضْمَرةِ، وذِلِكَ عَبْرَ الإمْعَانِ في قِراءَةِ تَجَارِبِهِ الإبْداعِيَّةِ الْمُتنَوِّعَةِ وتَعَرُّفِهَا، واعْتِمَادِ التَّفَحُّصِ الْمُتَأَنِّي فِي اسْتِنْبَاطِ الجَمَالِيَّاتِ النَّاجِمَةِ عَنْ كيفيَّاتِ قَوْلِ كُلِّ تَجْرِبَةٍ مِنْهَا، واسْتِكْشَافِ مَدَى صِلَتِهَا، كَتَجَارِبَ أَدَبِيَّةٍ إبْدَاعِيَّةٍ تَنْدَرجُ فِي نِطَاقِ الأَدَبِ الْفِلَسْطيْنِيٍّ، بِثَالُوثِ الْمعَايِيرِ القِرائِيَّةِ النَّقْدِيَّة الْمُتَمثّلِ فِي: إنْهَاضِ الوعيِّ الحَقِيْقِيِّ، وتَحْفيزِ الصُّمُودِ في مُواجَهَةِ الْغَزوِ وعَقَابِيْلِهِ، وإطْلاقِ المُقَاوَمَة الْمُتَصَاعِدَةِ ضِدَّهُ، مِنْ جِهَةٍ أوْلَى، وتَفَحُّصِ كَيْفيَّاتِ اسْتِجَابَتِهِ، كَاَدَبٍ فِلَسْطِينيٍّ جَدِيْرٍ بِاسْمِهِ وِفْقَ مَنْظُومَاتِهِ الْمِعْيَارِيَّة الرُّؤْيَويّةِ والْجَمَالِيَّةِ الْمُتَنَامِيَةِ، لـ “تَحَدِّيَاتِ التَّطْبِيْعِ” و”مُغْرَيَاتِ الْحَدَاثَةِ” الْحقيْقِيَّةِ ومقْتَضَيَاتِهَا، و”غِوَايَاتِ الْحَدَاثَوِيَّة” الزَّائِفَةِ ومَزَالِقِ إِغْرَاءَاتِهَا، مِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ.

وسَيَكونَ لَنا، فِي كُلِّ سِيَاقٍ مِنْ سِيَاقَاتِ تَفَحُّصِ هَذِه الْكيفِيَّات لِتَعَرُّفِ اتِّجاهَاتِهَا الأَسَاسِيَّةِ الْغَالِبَة، وغَيْرِ الأَسَاسِيَّةِ ذَاتِ الدَّلَالاتِ واجِبَةِ الالْتِقَاطِ والإِدْرَاكِ أَيْضَاً، أَنْ نُرَكِّزَ جُلَّ اهْتِمَامِنَا عَلَى تَبِيُّنِ كَيْفِيَّاتِ نُهُوضِ الأَدَبِ الْفِلَسْطِيْنِيِّ: شِعْراً، وقِصَّةً، ورِوايَةً، ونُصُوصَاً مَسْرحِيَّة، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَجْنَاسِ الأَدبِ وأَنْواعِهِ وأَشْكَالِهِ، بِمُوَاجَهَة السَّرديَّة الاسْتِعْمَارِيَّة الصُّهْيُونِيَّة الزَّائِفَةِ وتَفْكِيْكِهَا ودَحْضِهَا عَبْرَ بِيانِ مُكَوِّنَاتِ زِيْفِهَا الكامِنِةِ فِيْهَا، وذَلِكَ بِتحْلِيْلِ التجَلِّيَاتِ النَّصِّيَّةِ الإبْدَاعِيَّةِ ذَاتِ الصِّلَةِ بالتَّجْسِيدِ الرُّؤَيَويِّ والْجَمَاليِّ الْمُنَوَّعِ، فِي هَذَا الأَدَبِ، لِحَقِيْقةِ أَنَّ الصَّراعَ الدَّائِرَ عَلَى “فِلَسْطِينَ” فَوقَ أرضِ فِلَسْطِيْنَ، وحولها، وفي شَتَّى أَرْجَاءِ الْعَالَمِ الَّتِي قُذِفَ الْفِلَسطِيْنُيُونَ بِأَيْدي صُنَّاعِ نَكَبَاتِهِم المُتَواصِلَةِ إلِيْهَا، إِنَّمَا هُوَ صِراعٌ وُجُوديٌّ بينَ “شَعْبٍ وظِيْفِيٍّ مُخْترعٍ” مِنْ “يَهودٍ مُصَهْيَنِيْنَ” اصْطُنِعَ لَهَم “كِيَانٌ عَسْكَريٌّ مُدَجَّجٌ بآلاتِ الْفَتْكِ”، وجُعِلُوا غُزَاةً مَأْجُورِيْنَ سُلِّحُوا بِسَرْدِيَّةٍ أُسْطُوريَّة زائِفةٍ جَرَى جَعْلُهَا دِيْنَاً سِيَاسِيَّاً تَمَّتَ أَدْلَجَتُهُ و”حَوْسَلَةُ” مُعْتَنِقِيْهِ مِنَ الْيَهُودِ الْمُصَهْيَنينَ ومَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الكائِنَاتِ الْبَشَرِيَّةِ الْعَاجِزةِ عَنْ إِعْمَالِ الْعَقْلِ، لِيَجْرِي تَوظِيْفُهُ كَـ”دِيْنٍ مُسَيَّسٍ” فِي مَجْرَى تَوظِيْفِهُم كـ”شَعْبٍ وظِيْفِيٍّ مُحَوْسَلٍ”، تَوْظِيفَاً سِياسيَّاً اسْتِعْمَارِيَّاً عُنْصُرِيَّاً، يَتَوخَّى تَحْقِيْقَ غَايَاتِ اسْتِعَمارٍ رأْسِمَاليٍّ عُنْصُريٍّ تَوحُّشيٍّ، وذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ أُوْلَى أَوْجَبَتْ وُجُودَ الصِّراعِ وفَجَّرَتْهُ، وبِينَ شَعْبٍ حَقِيْقيٍّ أَصِيْلٍ مَسْكونٍ، وَأَرضِ وطَنِهِ الْمَسْرُوقِ، بِسَرْديَّةٍ حَقِيْقيَّةٍ، حَضَارِيَّةٍ تَاريخِيَّةٍ، أَصِيْلَةٍ ومُؤَصَّلةٍ مِنْ قِبَلِ كُلِّ عِلْمٍ حَقِيْقِيٍّ ذِي صِلَةٍ، ومِنْ كُلِّ جَانِبٍ مَعْرِفِيٍّ ومنهجٍ ومَنْظُورٍ وَوجْهَةٍ، وذَلِكَ مِنْ الْجِهَهِ الثَّانِيَةِ الَّتِي أَوجَبَتْ عَلَى شَعْبِ فِلَسْطينَ خَوضَ هَذَا الصِّراعِ الدَّامِي صَدَّاً لِلْغَزوِ والْغُزاةِ، ودْفَاعَاً عَنِ الإنْسَانِ الإنْسَانِ، وعَنِ الأَرْضِ والَوطَنِ، وعَنْ كُلِّ حَقٍّ تَاريخيٍّ، وحَقِيْقةٍ وُجُودِيَّةٍ، ومَبْدَأٍ حَضَاريٍّ إِنْسَانِيٍّ، وقِيْمَةٍ ذَاتِ قِيْمَةٍ تُغْنِي قِيْمَةَ الإنْسانِ الْحَقِّ، وتُثْري دلالةَ وُجُودِهِ الْحَيَوِيِّ في الْوجُودِ، وتُظْهِرُ حَقيْقَةَ حَقِيْقَتهِ، وتُجَلِّي نُبْلَ تَجَلِّيْهِ الْوُجُودِيِّ، وجَوهَرَ كَيْنُونَتِه، ومُكَوِّنَاتِ هُوِيَّتِهِ الصَّائِرةِ، ودَلَالاتِ وُجُوْدهِ فِي الْوُجُودِ، ومَغْزَى مَغْزاهُ.

***

مُذْ لَحْظَةِ اقْتِلاعِ الإنْسَانِ الفِلَسْطِينِيِّ مِنْ أَرْضِهِ لإتْمَامِ احْتِلَالِهَا مِنْ قِبَل غُزَاتِهَا الْمُسْتَوطِنينَ، ومَعْ مُتَابَعَةِ تَمْزيقِ أَنْسِجَةِ المُجْتَمِعِ الفِلَسْطِينِيِّ، وسَرِقَةِ فِلَسْطِيْنَ وتَاريْخِهَا وحَضَارَتِهَا، ومَعِ الإمْعَانِ في تَشْتِيْتِ شَعْبِهَا في “أَحْيَازٍ مَكانِيَّةٍ مَعْزُولَةٍ” سَواءٌ أَكَانَ هَذا التَّشْتِيْتُ قَدْ تَمَّ دَاخِلَ مَا قَدْ سُرِقَ مِنْ فِلَسْطِيْنَ مَعْ بَدْءِ الْغَزْوِ، أَو دَاخِلَ مَا قَدْ بِقيَ مِنْهَا لِيُسْرَقَ مِنْ قِبَلِ الْغَازِي نَفْسِه بَعدَ نَحوِ عِقْدينِ، أَمْ كَانَ قَدْ تَمَّ خَارِجَهَا لِمَنْ اقْتُلِعَ مِنْ أَهْلِهَا مِنْهَا لِيُقْذَفَ فِي أَحِيَازِ اللُّجُوءِ القَسْرِيِّ ومَنَافي الشَّتاتِ الْقَهْرِيِّ الْمُوَزَّعَةِ عَلَى أَربَعِ جِهَاتِ الأَرضِ، سَيَتركَّزُ الأَدَبُ الْفِلَسْطِيْنِيُّ، فِي جَوهَرهِ الْعَمِيْقِ وإِنْ مُبَاشَرةً أَوْ ضِمْنَاً، عَلَى تَجْلِيَّةِ جَوانِبَ أَسَاسِيَّةٍ مِمَّا قَدْ نَجَمَ عَنِ احْتِدَامِ الصِّراعِ الدَّامِي بِيْنَ سَرْدِيَّتَينِ: سَرْدِيَّةٍ فِلَسْطِيْنِيَّةٍ حَقِيْقِيَّةٍ مُؤَصَّلَةٍ وُجُوْدِيَّا: حَضَارِيَّاً، وتَارِيخِيَّاً، وإِنْسَانِيَّاً؛ وَسَرْدِيَّةٍ صُهْيُونِيَّةٍ اسْتِعْمَارِيَّةٍ، زَائِفَةٍ ومُصْطَنَعةٍ، ومُؤَدْلَجَةٍ ومُسَيَّسَةٍ ومَجْعُوْلَةٍ دِيْنَاً حَدَاثَوِيَّاً يُغْرِقُ فِي مُسْتَنقَعاتِ مَاضٍ لَمْ يُوجَدَ كَمَا قَدْ تُخِيِّلَ قَطْ، وذَلِكَ عَبْرَ الْقَدَاسَةِ الدَّنِسَةِ، والْاَسْطَرةِ السَّوْدَاءِ، والاسْتِجَابَةِ الرَّخِيْصَةِ لأَحَطِّ الْغَرَائِزِ البشريَّةِ والشَّهَواتْ.

وسَيَكُونُ لِلأَدَبِ الْفِلَسْطِينيِّ أَنْ يَتركَّزَ أَكْثَرَ فَاكْثَرَ،وبِسَعْيٍّ حَثيثٍ لَا يَنِيّ يَتَوسَّعُ لِيَشْمُلَ شَتَّى أَجْنَاسِهِ وأَنْواعِهِ وأشْكَالِهِ، حَوْلَ هَذا الصِّراعِ بِشَتَّى جَوانبِهِ وأَبْعَادِهِ الْمُنْطَويِةِ عَلَى مُمْكِنَاتِ تَحْقِيْقِ حَسْمِهِ لِصَالِح الْحَقِ والْحَقيْقَةِ والْعَدْلِ الإنْسَانِيِّ. وهي الْمُمْكِنَاتِ الْقَائِمِ وُجُوْدُهَا، أسَاسَاً، عَلَى تَوفُّرِ الشُّروطِ الْواجِبَةِ الْوُجُودِ لوجودِهَا الْكَفِيْلِ بِتَحْقِيقِهِ، ولا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَتْ السَّردِيَّةُ الصُّهْيُونِيَّةُ الاسْتِعْمَارِيَّةُ مِنَ الشُّرُوعِ في تَجْسِيْدِ نَفْسِهَا، بالْقَهْرِ الإِرْهَابِيِّ والقُوَّةِ الْغَاشِمَةِ، فَوقَ جُزْءٍ كَبِيْرٍ مِنْ “أَرضِ فِلَسْطِينَ” أَوْ فَوقَ أَحْيَازٍ مَكانِيَّةٍ شَاسِعَةٍ مِنْ “أَرْضِ الْفِلَسْطِينِيينَ”، وذَلِكَ مُذْ لَحْظَةِ جُثُوْمِ أَرْخَاخِ الاسْتِعْمَارِ الْبِرِيْطَانِيِّ (الغَربيِّ) وعِصَابَاتِ الْغَزوِ الصُّهْيونيِّ الإِرْهَابيِّ الْمُسْتَجَلَبِةِ مَعْهَا، فَوقَ صَدْرِ هَذِهِ الأرْضِ، مُلْقِيَةً بِصُخُورِ وَطْآتِهَا الْمَأْسَاويِةِ الْفَاتِكَةِ فَوقَ صُدُورِ أَهْلِهَا: بُنَاةِ حَضَارَتِها، وصَانِعِي تَاريْخِهَا الْحَيَوِيِّ، وأَصَحابِهِا الأَولَينَ الَّذِينَ بِاسْمِهِمْ أَسْمُوهَا مُذْ بَدْءِ البَدَءِ لِتَبْقَىَ لَهُمْ وفِيْهِم ومَعْهُم عَبْرَ تَوالي الأَجْيَالِ، ولِيَبْقَوا فِيْهَا ولَهَا ومَعْهَا، إلى أَبَدٍ هُوَ الأَبَدِ، فَلَا تَقْبَلُ لِنفْسِهَا، ولا يَقْبَلُونَ لَهَا، اسْمَاً غَيْرَ اسْمِهَا: فِلَسْطَينَ، ولا يَأْذَنُونَ لِغَازٍ سَطَويٍّ احْتِلاليِّ إِحْلاليٍّ أَنْ يُسْقِطَ عَلَى وجْهِهَا قِنَاعَاَ زَائِفَاً يُزَوِّرَ هُوِيَّتَهَا، فَيَسْتَلِبُهَا إِذْ يَسْتَلُّهَا مِنْهَا، وإذْ يُجَرِّدُهَا مِنْ كُلِّ مَا يُجَلِّي حَقِيْقَتَهَا الْوُجُوْدِيَّةَ الرَّاسِخَةَ، والَّتِي سَيَكُونُ لِمُجَرَّدِ اسْتِمْرَارِهَا فِي الْوُجُودِ والتَّجَلِّي عَبْرَ الصُّمُودِ فَوقَ الأرضِ ومُقَاوَمَةِ الْغَزوِ والحِفَاظِ عَلَى السَّرديَّةِ الْحَقِيْقِيَّة وتَرسِيخِ وجُودِها، أَنْ يُعْدِمَ السَرْدِيَّةَ الأُسْطُورِيَّةَ الزَّائِفَةَ، الَّتي بِهَا يَتسَلَّحُ الْغَازِي لِيُسَوِّغَ، فِي عُيُونِ قَاطِني الْعَالَمِ مِنَ الْبَشَرِ ولا سِيَّمَا فِي عُقُولِ الإنْسَانيينَ مِنْهُم، سَطْوَهُ الْفَاحِشَ عَلَى أَرْضِ وطَنٍ مَا كَانَتْ لَهُ بِهَا صِلَةٌ أَبَداً، إِمْكَانيَّةَ الاسْتِمْرارِ في الْوجُودِ الْمُسَوَّغِ باسْتِغْلالٍِ مدروسٍ لِلْعَطْفِ الإنْسَانيِّ، والْمُغَطَّى، أَدَبِيَّاً وفَنِّيَاً وسِيَاسِيَّاً وإِعْلَامِيَّاً، بِقُوَّةٍ اقْتِصَادِيَّةٍ تَسْتَغِلُّهُ وسِوَاهُ مِنَ الْمبَادِئ الإنْسَانِيَّة والْقيِمِ عَلَى نَحْوٍ تَرْوِيجيٍّ رَخيصٍ.

نَعَمْ، سَيَلْتَقطُ الأَدَبُ الْفِلسْطينيُّ “رِسَالةَ الْوُجُودِ” الَّتِى أَصْغَى الأعَمُّ الأَغْلَبُ مِنْ مُبْدِعِيْهِ إِلَيهَا، وسَيَقُولُهَا بَكيْفِيَّاتٍ جَمَالِيَّةٍ عَدِيْدةٍ ومُتَنَوِّعِة، وسيَكُونُ لِلْحَفَاظِ عَلَى السَّرْدِيَّةِ الْفلسطينيَّةِ وتَعزيزِ حُضُورِهَا فِي الْوعيِّ الإنْسَانيِّ وفي شَتَّى مَدَاراتِ الْوجُودِ الْحَيَوِيِّ أَنْ يُعْدِمَ السَّرْدِيَّةَ الصُّهُونيَّةَ إِمكانِيَّةَ الاسْتِمْرارِ فَي الْوجُودِ، حَتَّى وإنْ أَمعَنَ هَذا الْغَازي الصُّهْيُونِيُّ فِي تَكْريْسِ تَجَلِّيَاتٍ حَقيْقِيَّةٍ قَابِلَةٍ لِلْبَقَاءِ والتَّنَامِي فَوقَ أيِّ بُقْعَةٍ مِنَ الأَرضِ الْفِلَسْطِيْنِيَّةِ، وعَلَى نَحْوٍ سَيَبْدُو، لِمَن لا يُحْسِنُونَ قراءة المستقبلِ، أَنَّهُ يُحَقِّقُ مُسْتَحِيلاً يَتَجَسَّدُ في جَعْلِ الأُسْطُورةِ الزَّائِفَةِ واقِعَاً يَتَجَلَّى في مَدَارٍ وُجُوديٍّ حَقِيْقِيٍّ هُوَ “فِلَسْطِيْنُ” الْمَسْرُوْقَةُ، والمُعَادةُ تسميتَهَا، زُوْرَاً، باسمِ “إسرائيل”!

***

وفي ظِلِّ تَوقُّفِ سَرَيَانِ الزَّمَانِ الفِلَسْطِينيِّ في الْمكَانِ الْفِلَسْطِينيِّ، ومَعْ غِياب المَكَانِ/الوطنِ عَنِ الوُجُودِ الواقِعيِّ (الْجِيُوسِيَاسِيِّ) عَلَى نَحْوٍ أَمْلَى اسْتِبْدالَ وُجُوْدِهِ الزَّمَكَانيِّ الْمَائِرِ في الوجْدانِ الْكُلِّيِّ بِوُجُودِهِ الْواقِعِيِّ الَّذِي صَارَ، بِفِعْلِ الاسْتِعْمَارِ والاسْتِيْطَانِ والتَّهْوِيدِ والأسْرَلَة وادِّعاءِ الْمِلْكِيَّةِ، وُجُوداً جِيُوسِيَاسِيَّاً مُؤَجَّلاً، بِلْ وُجُودَاً وُجُوْدِيَّاً مُؤَجَّلاً فِيْما يَخُصُّ فِلَسْطِيْنَ الْوَطَنَ والإنْسَانَ الْفلسْطِينِيَّ في بَعْضِ اللَّحَظَاتِ والحَالَاتِ، سَيَكُونُ لِجَميعِ الأمْكِنَةِ الْخَارِجِيَّة الغَرِيْبَةِ الَّتِي قُذِفَ الْفِلَسْطِينِيُّ الْمُقْتَلعُ مِنْ أرْضِ وطَنِهِ إلِيهَا، أَوْ الَّتِي هِيَ أَرْضٌ مِنْ أَرْضِ وطَنِه عُزِلَ عَنْهَا وصَارَ مَأْسُوراً مُقَيَّداً فِيْهَا، أَوْ تَائِهَاً مُغَرَّبَاً عَنْ نَفْسِهِ وعَنْهَا، أَلَّا تَكُونَ مُؤَهَّلةً، أَوْ مُرَشَّحَةً، أَو قَابِلَةً بِأَيِّ قَدْرٍ مَهْمَا ضَئُلَتْ نِسْبَتُهُ، لاكْتِسَابِ وُجُودٍ حَقِيْقِيٍّ فِي وِجْدَانِ الإنْسَانِ الْفِلَسْطِينيِّ وفِي مَسَاراتِ عَيْشِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا أَحْيَازٌ مَكَانِيَّةٌ وغَيْرُ مَكَانِيَّةٍ فِي آنٍ مَعَاً؛ أو هي مكانيةُ ظاهِرِيَّاً فخسبُ؛ فَهِيَ واقِعيَّةٌ ولَكنَّهَا مُؤَقَّتةُ الْوجُودِ إِذْ هِيَ لا تَخُصُّ المَقْذوفِينَ إليْهَا مِنَ الْفِلَسْطِيْنيينَ فِي أيِّ شَيءٍ يشْعُرُوَن أَنَّهُ يَخُصُّهُم لِيْؤَسِّسُوا لِأَنَفْسِهِمْ وُجُوداً حُرَّاً وحقيقيَّاً فِيْهَا؛ إِنَّهَا أَحْيَازٌ مَحْضُ زَمَانِيَّةٍ فَحَسبُ؛ أَحْيَازٌ تَتَمَدَّدُ، بِتثَاقُلٍ وشِدَّةِ وطْءٍ عَلَى الصُّدور، فِي زَمَنٍ أُفِقيٍّ واقِفٍ؛ فَهيَ مَوسُومَةٌ بِمَاهِيَّاتِ مَنَافٍ قَسْرِيَّةٍ بِعِيْدةٍ مُتَغَايِرةِ الْحَالاتِ والأَحْوالِ وشُروطِ الْبَقَاءِ والْعَيشِ، أَوْ بِمَاهِيَّاتِ مُخَيَّماتِ لُجُوءٍ قَسْريٍّ أُنْشِئَتْ على أَطْرافِ بِلَادٍ مِنْ “بِلادِ الْعَرَبِ” الَّتِي تُشَارِفُ الوَطَنَ الْفِلَسْطِيْنِيَّ والَّتِي كَانَتْ قَدْ ظَلَّتْ عَبْرَ الأزْمِنَة مَوصُولَةً بِهِ في تَواصَلٍ حَميْميٍّ وَثيقٍ بَينَ أَهْلُهَا وأَهْلِهِ، فَإِذَا بِهَا، بِإِرَادةِ قُوَّةِ قُوى الاسْتِعْمَارِ الْغَاشِمَةِ، تُفْصَلُ عَنْهُ لَحْظَةَ أَنْ تَمَّ الاسْتِفْرادُ بِهِ، وبِأَهْلِهْ!

وُرُبَّمَا تَكُونُ الأَحْيَازِ الَّتِي صُيِّرَتْ مَنَافٍ وأَمَاكِنَ لُجُوءٍ قَسْرِيٍّ أَحْيَازَاً تَقَعُ دَاخِلَ ما تَبَقَّى في الْيَدِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَرْضِ الْوَطِنِ الْفِلَسْطِيْنِيِّ، أوْ قَدْ تَكُونُ أَرَاضٍ فِلَسْطِينِيَّةً مَسْرُوقَةً تَمَّ تَسْيِيجُهَا ونَزْعُ اسْمِهَا واسْمِ صَاحِبِهَا عَنْهَا لِتَكونَ جُزْءَاً مِمَّا قَدْ سُمِّيَ، تَسَاوُقَاً مَع زَعْمِ سَارِقِهَا؛ هَذَا الْمُسْتَعْمِرِ الْمُسْتَوطِنِ الْغَاصِبِ، مِلْكِيَّتَها، بـ”إِسْرَائِيْلَ”!

وَهُنَا، سيَكُونُ لِهَذهِ الأَحْيَازِ المَكانِيَّةِ الْواقِعِيَّةِ الْفِلَسْطِيْنِيَّة جَمِيْعَاً أَنْ تُصْبِحَ مَحْضَ أَحْيَازٍ زَمَانِيَّةٍ، وأَنْ تَتَسَاوى فِي كَونِهَا أَحْيَازاً لَامَكانِيَّةً لَدَى الفِلَسْطينيِّ الْمنْفَصِلِ وِجْدَانُهُ الْكُلِّيُّ الْآنَ عَنْ تَجَلِّيْهَا الظَّاهِريِّ، فَهُوَ إِمَّا لاجِئٌ مَنْفِيٌّ مُغَرَّبٌ مُقْتَلَعِ، قَهْراً وقَسْراً، مِنْ مَسْقَطِ رِأْسِه الَّذي هُوَ نُواةُ وَطِنِهِ وبِذْرَةُ وُجُودهِ، أَو هُوَ مُغَرَّبٌ عَلَى نَحْوٍ مُزْدَوجٍ عَنْ وطَنِهِ؛ فَفِيْمَا هُوَ لا يَزَالُ مُقِيْمَاً فِعْلِيَّاً، أَيْ جَسَدِيَّاً، أَو مَادِّيَّاً، فِي حَيِّزٍ مِنْ أَحْيَازهِ، إلَّا أنَّهُ، مِثْلَهُ، سَجِيْنٌ مُكَبَّلٌ بشَتَّى الْقُيُودِ والإغْلالِ، وهَوَ، فَوقَ ذَلِكَ، خَاضِعٌ، طِيْلَةَ الْوَقْتِ، للاسْتِلَابِ النَّفْسيِّ والاسْتِهْدافِ الْجَسَديِّ والتَّعْذيْبِ والْقَهْرِ، ومُهَدَّدٌ، طِيْلَةَ الْوَقْتِ، بالاقْتِلاعِ والْقَذْفِ خَارجَ هَذهِ الْبُقْعَةِ أَو تِلْكَ مِنْ أَماكنِ وَطَنَهِ الَّتي صَارتْ أَحْيَازاً لامَكانِيَّةً؛ حَيْثُ لَا يَكونُ لِلْوطَنِ الَّذي يَسْكُنُ وِجْدَانَهُ الْكُلِّي أَنْ يَتَطابَقُ مَع مَا يَراهُ عِيَانَاً، فِي الْخَارِجِ، بِأُمِّ عَيْنَيهِ، أَوْ مَعْ مَاَ تَقْرَأُهُ عُيُونُ بَصْيرَتِهِ مِنْ مُكْتَنَزاتِ هَذَا الوِجْدَانْ الْمسْكُونِ بِزَمَكَانِ الْوْطنِ يَومَ كَانَ “زَمَكَانَ حَقَلٍ”، وبالتَّوْقِ الَّلاهِبِ لإدراكِ مُسْتَقُبَلٍ وُجُوْدِيٍّ جَدِيْدٍ يُؤَسِّسُ الْحِفَاظُ عَلَى السَّرْدِيَّةِ الْفِلسْطينيَّةِ في الْوَعيِّ الفِلَسْطِينيِّ، وفي وعْيِّ الإنْسَانِيَّةِ بِأسْرِهَا، مُبْتَدأَ مَجِيْئِه.

– نُشِرَ هذا المقال الموسَّع في العدد 21 (1495) من مجلة الهدف – فلسطين، كانون الأوَّل (ديسمبر) 2020

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *