الي من يهمه الامر رسائل الوباء والمنفي
ا
عزيزي،
كيفَ استطاعَ الرّجلُ الابيضُ أنْ يُقنعنا بأنّ الجنوبَ فقيرٌ وبائسٌ، بينما تمتلأ الجغرافية بصباحٍ بلونِ الموجِ حين يرتاحُ على راحتي البلاد.
صباحٌ جديدٌ على شاطئ الاسكندرونة يهدهدُ روحي العالقةَ على سورِ عكا ومنحدراتِ ساحل يافا وشوارع الإسكندرية.
يقولونَ إنّ للمدنِ رائحةٌ ولونٌ كما الإنسان، لكُلٍّ منّا بصماته إلا الجنوب فهو مزيجٌ مِن مدنٍ تلوّنتْ بدماءِ الاعراق، أما رائحة الملح فتغمرُ سماءه، وفيما تتّكئ البلادُ على الجبالِ الشّماليةِ، يرسمُ القمحُ مدينتي الحنطية، حينها أفتّشُ عنها في كلِّ العابرين لتبصرني.
من مدينةِ القلعة “ماردين” جنوب شرق الأناضول إلى “أضنة” جنوب غربها وما بينهما نسلُ الألهةِ “اورانوس” الذي جاء من منطقةٍ قريبةٍ من نهرِ “سيحان”.
الجميع هنا يتكلّمونَ العربيةَ، ويخبرونك عن أصولهم وتاريخهم، عن انتمائهم الى البلادِ قُبيل تقرير مصيرها في ثلاثينياتِ القرن الماضي.
يتدفّقُ النّهرُ بين غاباتِ المدينةِ مكوّناً منحدراتٍ قاسيةٍ يصعبُ السّيرُ فيها بأحذية عادية فأشتريتُ حذاءً رياضياً، وبين طبقاتِ المنحدراتِ والغابةِ تسمعُ صوتَ الماءِ ينسابُ في روحك، تغسلك شلالات مدينة “حربيات” وينابيعها ويطهّركَ الأزرقُ مِن المنفى والوباء.
بينما تشمّر لتدخلَ طقسَ الطّهارة، يجتاح فلسطين الوباء ومصادرة الأراضي وضمّ غور الأردن مِن الاحتلال، فيما تقتلُ النّساء وتجتمع القبائل لضمان حرية القاتل الأب.. هل أصابَ درويش حين أخبرنا “سنصيرُ شعباً حين ننسى ما تقولُ لنا القبيلة !
كيف لا أقوى على الطّيران رغم حنطيتي، أنا “هنا” لا أقوى على العودةِ لأنّ “هناك” متوعكة.
أذكر حين أخبرتني أنّ الطّيورَ تقوى على الرّحيلِ لأنّ درجةَ حرارتها تتجاوزُ الـ ٣٩ درجة، أما نحن فاجسادُنا باردة لا نقوى على الرّقص والذَّهاب.
“وقَد يأتي أحدُهم خفيفاً يطفوا بجانبِك في كلّ هذا الغَـرق كجذع شجرةٍ يصلحُ للنَّـجاة”.
في كلِّ المدنِ التي أزورها أفتّشُ عن النّجاةِ، كما نجا الشّاب رزق حداد بالمصادفة من مجازرِ السّريان في ماردين جنوب شرق تركيا، وبعد عشرين عاما أنجبَ فيروز صوت الملائكة في بيروت فكان نهاراً آخرَ.
أترى رائحةَ الحزنِ في صوتها حين تصدحُ “ع الرّوزنا .. ع الرّوزنا كلِّ الهنا فيها، شو عملتْ الرّوزنا الله يجازيها.. كلمن حبيبوا معو وأنا حبيبي راح.. يا ربّ نسمة هوا يجي الحلو فيها”.
أخبرتني جدّتي التي كانت تُلملمُ كُلَّ الحكاياتِ في جعبتِها أنّ الرّوزنا إيّاها هي سفينة كانت ترسوا في ميناء يافا في موسمِ العِنبِ لتحملهُ إلى بلادِ الثّلج. كان الجميع ينتظرونَ تلكَ “الرّوزنا” لتأتي بالخيرِ، تحملُ حصادَ العامِ وتأخذُ الرّجالَ إلى البعيدِ دون عودة، فيما تنشغلُ النّساءُ بالانتظارِ..
غابتْ البلادُ وغابتْ جدّتي مع صوتِ فيروز في انتظارِ ذلك النّهار الذي لن يأتي.
ليست الرّوزنا وحدها هي ما غمرتْ البلادَ باللّيلِ، فقد بُنيتْ الكارنتينات “هنا” و”هناك” لمواجهة الأوبئة والاحتلال التي فتكتْ بها وأهلكتْ العباد ومِن ثمّ تغيّرتْ الخارطة السّكانية في بلادنا أكثر مِن مرّة.
خلعتُ الوقتَ وسمِعتُ صوتَ مذاقِ القهوةِ تلك التي فقدتها طيلة أيامي الاسطنبولية، فأهداني عجوز بلكنته السّريانية مطحنةَ بُنٍّ نُحاسيّةٍ كانَ قد حصلَ عليها ذاتَ نهار مِن حبيبةٍ خُلاسيّةٍ أشبهها كما أخبرني.
“هنا” يشبه “هناك” يجلبُ إله الرّعد أداد الآشوري المطر بكمياتٍ وفيرةٍ فتنبتُ الأعراقُ والأممُ والأقوامُ، واللاجئين الذين قدموا من بحر ايجه حتى سواحل كليكيا، إذ كانوا يركبونَ البحرَ ذكرهم هوميروس في الياذته ونسى العجوز.
كانت أدنة أسم مدينته التي خطّت ذكرها في لوحات مسمارية وكانت مكاناً مخصّصاً لجياد السّلطان سليمان.
سمَّاه خصومه بسليمان العظيم، ولقَّبه رعاياه بالقانوني جسده في تركيا وقلبه وأحشائه في المجر حيث أختفت في جرارٍ مِن ذهب لأربعةِ قرون.
في ميثولوجية الارقام، تتشكّلُ ملامحنا وتبدأ رائحتنا في العبور دون جواز سفر أو تصريح للمرور لتنسجَ من تفاصيلِ الجغرافية الألوان، فالكارنيتنا تعني رقم 40 وهي الفترة اللازمة للحجر الصّحي حين كنّا نتركُ ملاّحين البندقية في سفنِهم قُبالةَ سواحلنا مدّة أربعين يوماً لحين التّأكد من خلوّهم مِنَ الأوبئة، وهي الفترة نفسها التي قضاها الرّجال العشرة البُرص في مغارة “برقين” بالقُربِ مِن مدينةِ جنين، الذين شفاهم المسيح، فيما اعتزل النّاس وصاموا في مدينةِ اريحا أربعين يوماً بوادي “قرنطل.”
في مذكرات الرّحالة الياباني توكوتومي كينجيرو إلى فلسطين ومصر 1906 واصفاً وصوله لميناء حيفا والحجر الصّحي: “…نستعدُ الآنَ للنّزولِ مِن السّفينةِ، شيء لم يكنْ في الحُسبان ولم نتوقّعه، لا بُدّ أنْ نوضع في الكرنتينه “الحجر الصّحي” مدة أربع وعشرين ساعة… في موقع الكرنتينه تمّ تجميعُ أمتعتنا وتبخيرها بالبودرة لتعقيمها والقضاء على أية جراثيم تكون قد علقتْ بها، ومِن ثمّ وجبَ على الجميع أنْ يكونوا عرايا، حتى يتمّ رشّهم بالبودرة مثلهم مثل أمتعتهم..”
أربعون عاماً رحلةُ الحياة والموت، والرّوح تعلقُ في السّماء المدة نفسها، وحين تكتملُ تبدأُ رحلةٌ جديدةٌ مِن المنفى إلى البلادِ .
هل لزاماً عليّ أنْ أنتظرَ أربعينَ أُخرى حتى تعودُ الرّوح الى البلاد.
لماذا اراكَ في كُلِّ شيء؟
تقولُ الأسطورة إنّ اندروميدا أميرةٌ حبشيةٌ كانت أجملَ نساء الأرضِ، وكانت أمها ملكة الحبشة تحدت إله البحار وملك الحوريات الجميلات بأنّ أبنتها أجملُ من بناته، مما عرض المملكة كُلّها لانتقام “پوسيديون” الذي عَلِمَ بما حلّ برسولهِ الوحش وأنّ اندروميدا صارتْ في حماية الإله بيرسيوس، فلم يجد ما يشفي غليله سوى أنْ يأخذَ صورة الأميرة اندروميدا ويقيّدها بسلاسل ويضعها في كوكبةٍ نجميّةٍ تظهر فيها كل ليلة معذّبة في ركن وحيدة من قبة السّماء.
لم يعد للأميرةِ وطنٌ ولا أرضٌ بعد تخليد صورتها المعذّبة والمقيّدة، فأتجه الاله بيرسيوس مع أميرته إلى التّلة التي كانت سيضحّي بها قرباناً لاله البحار، فرحت التّلة وأسرّت سروراً عظيماً وأُقيمت الاحتفالات للعروسين الغريبين، فولدت يافا أُمّاً للغريبِ وموطناً لسبعة أبناء وبنتين، ما لبثوا أنْ تفرّقوا في الأمصارِ أجداداً لأممٍ كثيرة “.
قد تَأويك مساحة قلب؛ أكثر مما تأويك الأمكنَة..
كنت أنا الغريبة مِن نسلِ يافا وجدّتي اندروميدا تستريحُ في البلاد بينما أحملُ حزن بوسيدون وأجوبُ مُدنَ بحر ايجه.
كُن بخير….
اليوم أهداني معبد بوسيدون خاتم زيّنتُ به أصبعي في اليد اليسرى علّه يهدئ قلبه قليلاً ويفكّ لعناته عن البلاد ويحرّر نورميدا مِن القيود.