“اليهوديّة”… حكاية قرية فلسطينيّة قرّرت خلع اسمها
حينما زار حَسن الكَنش قريته المهجّرة في سنة 1972، وذلك بعد 24 عام من خروجه منها طفلا، وفيما كان يتلمّس موقع بيت أهله المجروف من أرضه، تنطّع مستوطن يهوديّ له سائلا، وبلَكنَة عربيّة مصريّة: “كيف شايف اليهوديّة؟ بَئِت (صارت) أحلا؟”(1).
لم يُسّمِ المستوطن المجلوب من مصر، القرية التي صارت مستعمرة باسمها الصهيونيّ الحاليّ “يَهود”، ولا بـ”العباسيّة”، اسمها الذي صارت عليه عند تهجير أهلها في نيسان/ أبريل 1948. إنّما سمّاها باسمها العربيّ التاريخيّ؛ “اليهوديّة”، قبل أن يجري استبداله في أواخر ثلاثينيّات القرن الماضي. وذلك، في حكاية تُعدّ الأغرب في تاريخ فلسطين الحديث، حيث يُقرر أهالي قرية عربيّة خلع اسم قريتهم عنها وعنهم، واستبداله بآخر، فما تكون “اليهوديّة”؟
سحيلة الساحليّة
في بطن السهل الساحليّ ما بين مدينتَيّ يافا واللد، وُلدت “اليهوديّة” قرية عربيّة من رحم أحد مقاماتها المُقامة على أرضها منذ عصر المماليك، وحروبهم ضد الصليبيين في القرن الثالث عشر للميلاد، فإلى الشرق الشماليّ وعلى مسافة 13كم كانت تبعد قرية اليهودية من مدينة يافا، و7كم من شمال غرب مدينة اللد، وظلّت القرية تاريخيًّا تتبع إداريًّا لقضاء يافا حتى سنة 1943، ثم صارت تتبع للّد إداريًّا منذ سنة 1944 حتّى عام النكبة.
من القرى العربية الأقرب لخاصرة “اليهوديّة” من غربها، كانت قرية “كفرعانة”، على بُعد لا يزيد عن 2كم. ومن الشرق على بعد 5كم كانت “رنتية” المُهجّرة الأقرب لها. أما من جنوبها الشرقيّ، فأراضي كفر جِنس وجِنداس المُقام عليها مطار اللد. إلا أن حكاية قرية اليهوديّة ستظلّ تُحاك وتُحكى من شمالها حيث أراضي قرية ملبس، وسيرة أوّل مسمار شُكَّ في بَدن البلاد مع إقامة أوّل مستعمرة صهيونيّة، هي “بيتح تكفا”.
كانت اليهوديّة القديمة تقع فوق تلٍّ يُسمّى “السْحيلة” بتسكين السين(2). لأنه تلٌّ ينحدرُ منسحلا إلى أرض منبسِطة ساحليّة، تمدّدت إليها بيوت القرية منذ أواخر القرن التاسع عشر. مع ذلك ظلّت تنداح سهول القرية من شمالها ما بين بيّارات برتقال وموارس ذُرة وشعير، حتّى جنوبها، وصولا إلى وادي بْشير الصغير المتّصل بالوادي الكبير.
موارس، ظَلَّ كل مارس منها يحمل اسما تعارَف عليه أهالي القرية، خصوصا موارس أرض “المجنونة” التي كانت تَغلُّ على أهلها حدّ الجنون فسمّوها كذلك، إذ كان يشيحُ فيها مارس الذرة ليصل إلى ارتفاع يمكن للخيّال أن يختفي فيه راكبا على حدّ تعبير الحاج أحمد موسى(3). ولم يتردّد الإنجليز في حرقها غير مرّة، كلّما لاذ بها ثوّار اليهوديّة العرب، إبان الثورة الكبرى سنة 1936 على الاستعمار البريطانيّ للبلاد.
تطوّرت بيوت قرية اليهوديّة في مِعمارها على ثلاثة مراحل من تاريخ القرية حتى عام النكبة، بدءًا بالبيوت الطينيّة شبه البدائيّة، المجبول طين جدرانها وأسقفها بتبن الدواب، وأطلق عليها أهالي القرية اسم بيوت “الوبل”(4). بُنيت معظم بيوت تلّ السْحيلة (الحيّ القديم) منها، وكانت كما لو أنها نمَت ونبَتت من تراب التلّ نفسه.
ورغم تواضُع بيوت الوبل في بنائها، إلّا أنها كانت مُحاطة بأحواش واهية، لها بوابات عالية، يمكن للجمل الدخول منها مُحمّلا ومركوبا معا. ويُقال إنه مَن يقف على مئذنة الجامع الكبير في القرية، وينظر خصوصا في أيّام الربيع إلى بيوت الوبل القديمة، كان يرى سقوفها الطينيّة قد نبّتت عشبا أخضر، لتبدو كما لو أنها مفروشة بسجاجيد خضراء(5).
ثمّ تطوّرت بيوت قرية اليهوديّة الفلسطينيّة منذ عشرينيات القرن العشرين نحو البيت “القرميديّ” المبنيّ بالحجر الرمليّ والمسقوف بالقرميد الأحمر، والذي صارت معظم بيوت القرية مسقوفةً به حتّى عام النكبة. بينما المرحلة الثّالثة من تاريخ تطوّر بيوتها، كانت في الأربعينيّات قُبيل النكبة، حيث ظهرت بيوت أكثر حداثة في مِعمارها، بُنيت من الحجر الإسمنتيّ المستورَد، وسمّاها أهل القرية بيوت “الطابوق”، لأنّها كانت مبنية بأكثر من طابق. معظم بيوت حيّ المالحة الحديث جنوب القرية، كانت مبنية من بيوت الطابوق(6).
اللافت في اليهوديّة أيضا، أنّها كانت أكبر قرية في كلّ فلسطين قبل النكبة من حيث عدد السكان، إذ تجاوز تعدادها 6 آلاف نفر، وبعض الروايات عن إحصاءات غير رسميّة تقول إنّهم قد وصلوا إلى 7 آلاف نسمة وأكثر، عشيّة النكبة(7). كانت القرية على كِبر تعدادها، مُشَكَّلة من خمس حمائل (عائلات) كُبرى، أكبرها “البطانجة” منهم الشَراقا ومنهم الغَرابا، والحميدات، والدلالشة، ومصاروة ثم المناصرة(8). فرّخت هذه الحمائل بطونا وأفخاذا، كان يُعرف كلّ فرد في القرية بها، وليس باسم الحَمولة الأمّ.
عُرف عن أهالي اليهوديّة قبل تغييرهم اسم قريتهم، امتهانهم لصناعة الحُصر وحياكتها، وذلك بحُكم وفرة نبات الحَلفا الذي كان ينبت في بِرك مياه أرضهم السهليّة – الطينيّة، سمّوها البِصاص -جمع بَصة- ( مستنقع)(9).
لصناعة الحُصر حكاية تطول في اليهوديّة، ومردّها لأحد متطوّعي القرية في الجيش العثمانيّ، ومشاركته في حرب اليمن، ومع عودته، عاد يحترف نَسْج نبات الحلفا على النول، وصار يُعرف بالحُصري كما تقول الحكاية(10). وعائلة الحُصري المعروفة في اليهوديّة تُنسب إليه.
مع مطلع الثلاثينيات، اتّجه أهالي اليهوديّة إلى زراعة الحمضيّات، وبالأخصّ البرتقال، محوِّلين بعض حقولهم إلى بيّارات، وصل عددها قبل نكبة القرية إلى أكثر من 42 بيّارة، يفترشُ شجرها آلاف الدونمات، وترويها أكثر من 50 بئر ارتوازيّة. واستمرّت صناعة الحُصر متّصلة ببيّارات البرتقال ومواسم قطفه، إذ تطلّب ذلك فَرش حُصر الحلفا تحت الشجر أثناء قطفه عليها.
عن اسمٍ قام من مَقام
إن اسم المقام، الذي انبثق عنه اسم القرية، وموقعه كان في غرب القرية، صار محلّ خلاف على إثر بدء الصراع مع الصهيونيّة، إذ كان يُعرف لدى أهالي قرية اليهوديّة بمَقام “النبيّ هودا أو هوذا”، وموقعه في غرب القرية، بينما كان يسمّيه آخرون بمقام “النبيّ هود”، والمُجمع عليه بين أهالي القريه هو بأنّه مقام إسلاميّ.
أما عن تسميته بمقام “سيدنا يهودا” نسبة ليهودا بن يوسف النبيّ بن يعقوب، فهي تسمية كان متعارفا عليها لدى أهالي القرية. وإلا، لماذا كان اسم القرية اليهوديّة وليس الهوديّة مثلا؟ إلّا أن استغلال اليهود الصهاينة لاسم يهودا ونسبه، لصالح مشروعهم الاستيطانيّ، هو ما وَلَّد في حينه الإرباك والاختلاف والخلاف معا في أصل تسميته.
في رواية أخرى تنسب اسم القرية إلى مرحلة أكثر قِدَما، إلى أيام الكنعانيين، حيث تقوم القرية على موقع كنعانيّ كان يُسمى “يهود”، والذي يعني “المدح والثناء”(11). وهو بالمناسبة، الاسم الذي صارت عليه القرية اليوم بعد تهجير أهلها سنة 1948، وإقامة مُستعمرة “يهود” الصهيونيّة، القائمة إلى يوم الصهاينة هذا.
هذا فضلا عن مقاماتٍ أخرى، ظلّت قائمة في اليهوديّة، أقام لها أهلها الزيارات والنذور، منها مقام “الشيخ عباس” في شمالها، الذي ستُنسب إليه القرية عند استبدال اسمها. ومقام ثالث آخر، عُرف بمقام “أبو عرقوب”، نسبة للجدّ المؤسس لعائلة أبو عرقوب المتصوّفة في اليهوديّة. ويُقال إنه، كان مجاهدا ضدّ الصليبيّين في زمن صلاح الدين، واستشهد في عسقلان(12). وفي جنوب القرية مَقامٌ آخر، أطلق عليه أهالي اليهودية اسم مقام “الشيخ يمن”، يُعتقد بأنه من قاده الفتح العربيّ الإسلاميّ(13).
ظلّ مقام النبيّ هودا أو هوذا، يُعدّ بمثابة المَقام البِكر في اليهوديّة، وملاذ أهلها قبل أيّ مقامٍ آخر فيها. كان بناؤه روميًّا على حدِّ قول أهله، أي قديما. وأُوقفت للمقام أراضٍ خاصّة به، منها أرض مقبرة القرية القديمة، والأرض التي أُقيمت عليها أوّل مدرسة للأولاد في القرية، والتي ستصبح مدرسةً للبنات بعد بناء مدرسة البنين الجديدة في ثلاثينيات القرن العشرين. ومئات الدونمات من الأراضي المحيطة به ظلّت موقوفة له، يحرثها ويفلحها أبناء “دار الشيخ” العائلة التي كانت قيِّمة على المقام، حيث ظلّت تُشرف على رعايته على مدار تاريخه حتّى عام النكبة(14).
ويُذكر أنّه كانت تجرى لمقام النبي هودا، زيارة موسميّة سنويّة، منذ زمن المماليك، كان يَحشدُ لها، ويحتشدُ فيها أهالي اليهودية والقرى المجاورة عند بابه الروميّ، وظلّت زيارته قائمة إلى أن انتهت مع نهاية الحكم العثمانيّ(15). كما ظلّ مقام هودا من دون مقامات القرية، مسروجا ومُضاءً بأسرجة الزيت، فكانت تُنذَر إليه وتُوفّى عنده النذور، ويحلف المتخاصمون عنده أو عليه الأيمان. إلى أن تراجعت حظوة المقام وهالته تدريجيًّا في نفوس أهالي القرية، ونهائيًّا بعد أن استبدلت اليهوديّة اسمها في ثلاثينيّات القرن الماضي.
اليهودية أوّل من استعدّت لليهود
رغم اسمها الذي صار عبئا عليها في الأخير، إلّا أن قرية اليهوديّة تحديدا، هي واحدة من القرى الفلسطينيّة، إن لم تكن الوحيدة حتى، التي كانت على موعدٍ مع أوّل اشتباك مبكِّر ضدّ المشروع الصهيونيّ في البلاد.
إنّ حكاية بيع أراضي قرية ملبس للصهاينة، وإقامة مُستعمرة “بيتح تكفا” الأولى عليها سنة 1878، وفشلها بعد أن تركها المستوطنون بسبب الملاريا سنة 1881. ثم إعادة إحياء المُستعمرة ببناء “بيتح تكفا” الثانية سنة 1884 على أراضي جنوب ملبس، منها 130 دونما تعود مُلكيّتها لأهالي قرية اليهوديّة العرب(16)، فضلا عن أنّ المستعمرة الجديدة تمدّدت على أراضٍ تُعدّ امتدادا وَعريًّا ورعويًّا من شماليّ قرية اليهوديّة، وقع بعدها اشتباكُ عامِ 1886 الشهير.
كان ذلك الاشتباك بين يهود مُستعمرة “بيتح تكفا” وأهالي قرية اليهوديّة العرب، وليس سواهم. دار الخلاف في حينه تحديدا على المراعي الواقعة ما بين اليهوديّة وملبس، التي اعتاد أهالي اليهوديّة منذ مئات السنين على رعي قطعانهم فيها. بعد بيع تلك الأراضي من قِبل متصرفان يافاويان للوكالة الصهيونيّة(17)، رفض الصهاينة دخول رعيان قرية اليهوديّة العربيّة وقطعانهم إليها، فوقع اشتباك سنة 1886، حيث هاجم أهالي اليهوديّة في وضح نهار صيف ذلك العام، مستعمرة “بيتح تكفا” وقتلوا مستوطنا(18).
تدخّلت في حينه قوّات الوالي العثمانيّ وفضّت الاشتباك، بينما استمرّ النزاع قضائيًّا في محكمة مدينة يافا، تحت عنوان “حقوق الرعي” على 5 آلاف دونم أرض. وقد كَسِبَ مستوطنو مُستعمرة “بيتح تكفا” القضيّة، وسُجن 30 رجلا من أهالي اليهوديّة على خلفيّة الاشتباك، بعد أن وقف قناصل الدول الأوروبيّة – الأجنبيّة في يافا والقدس، ومعهم والي الدولة العثمانيّة في صفِّ المستوطنين الصهاينة(19).
مع ذلك، استمرّ النزاع على المراعي، إلى أن تدخّل الشيخ إبراهيم أبو رباح الخالدي قادما من مدينة القدس، في وساطة دفعهُ إليها الوالي العثمانيّ من أجل فضّ النزاع. استطاع الشيخ الخالدي النجاح بوساطته، بعد أن أقنع أهالي قرية اليهوديّة القبول بعرضه، الذي كان يقضي بتعويضهم بألف دونم من أراضي رعي ملبس من أصل 5 آلاف دونم. كما رضي يهود المُستعمرة بهذه القِسمة(20).
كان أهالي اليهوديّة مِن أوّل مَن أحسّ بخطر المشروع الصهيونيّ، وقد تحسّسوا على جلودهم منه، فتشكَّل وعيهم المبكّر به. وظلّوا في الواجهة إلى أن وقفوا بلحمهم ثانية في مواجهات أحداث ثورة يافا من أيار/ مايو سنة 1921، فبعد أن هاجم يهود يافا وبيتح تكفا في يوم عيد العمال -الأول من ايار- أهالي المدينة والقرى العربيّة المحيطة بها، قرَّر أهالي اليهوديّة وعرب أبو كشك وآخرون من القرى المجاورة، مهاجمة مُستعمرة ملبس/بيتح تكفا.
كان ذلك في صبيحة يوم الجمعة الخامس من أيار/ مايو سنة 1921، ما حدا بالقوات البريطانيّة في معسكر رأس العين، وعلى رأسها كتيبة المجنّدين الهنود التي ظلَّ يُطلِق عليها أهالي اليهوديّة اسم “قوات السِك”(21)، التدخّل لنجدة المُستعمرة، وقد ارتكب البريطانيّون في حينه مجزرة، راح ضحيتها من أهالي قرية اليهوديّة 14 شهيدا، من بينهم نساء وأطفال(22).
ما مِن منعَطف ثوريّ حدث في البلاد في ظلّ الانتداب البريطانيّ عليها، إلا وكانت اليهوديّة على رأسه منذ أحداث يافا سنة 1921، مرورا بواقعة البراق سنة 1929، وصولا إلى الثّورة العربيّة الكبرى سنة 1936، وتشكيل كتلة “إخوة الجهاد” في القرية. ومع ذلك ظلّت اليهوديّة على اسمها إلى أن قرّر أهلها في سنة 1939، التخلّص من اسم قريتهم، وخلعه عنهم مرة واحدة، وللأبد!
ثِقَل وخجَل
“غيّرنا اسمها، لإنو خلَص صِرنا نِخجل”، بهذا التعبير عبّر الحاج أحمد موسى حمزة عن اتخاذ أهالي قريته، القرار بالتخلّص من اسم قريتهم. الاسم، الذي عُرفت به القرية، وعرفه أهلها، بلا أي ثِقلٍ أو خجلٍ على مدار مئات السنين.
عادةً ما يُحال خلع وتبديل اسم القرية، إلى الوعي السياسيّ – الثوريّ من المشروع الصهيونيّ، الذي تشكّل مبكِّرا لدى أبناء القرية، مع إقامة مُستعمرة “بيتح تكفا” في ملبس، وتكثّف هذا الوعي في ظِلّ مرحلة الاستعمار البريطانيّ للبلاد، فضلا عن أنّ اسم القرية بات يستخدمه الصهاينة لتبرير ما ليس من حقّهم في قرية اليهوديّة وأراضيها فقط، إنّما في كلّ فلسطين.
ورغم صِحّة وأهميّة كلّ ذلك، إلّا أن البُعد الاجتماعيّ غير المنفصِل عن السياسيّ طبعا، كان له كبيرُ أثرٍ في الدفع نحو القرار، إذ بات أهالي القرية يستثقلون نعتهم بـ”أبناء اليهوديّة” إلى حدّ الخجل(23). مع العلم، بأنّ هذه هي كنيتهم التي لم يتحرّجوا منها على مدار عقود طويلة قبل مرحلة الاستعمار البريطانيّ للبلاد.
كما تشير بعض الروايات والكتابات المعاصرة، إلى أن تغيير اسم القرية قد جرى في سنة 1932(24)، بينما بعض الروايات الشفويّة لدى أهالي القرية، تقول إنّ خلْع اسم القرية وتبديله، قد تمّ في سنة 1939 على إثر الثورة الكبرى(25). وقد وقف على اتخاذ هذا القرار وتنفيذه بالتشاور والتعاون مع أهالي القرية في حينه، شخصيّات من مدينة يافا، منها مدير مدرسة القرية اليافاويّ الأستاذ مصطفى الطاهر، ومعه شخص يافاويّ آخر يُدعى الدرهلي(26).
يَذكر المؤرخ المقدسيّ عارف العارف أن الطاهر هو من اختار الاسم البديل للقرية “العباسيّة”(27) نسبة لمقام الشيخ عبّاس الواقع في شمال القرية. فإذا ما كان يُنسب اسمها السابق “اليهوديّة” إلى مقام النبيّ يهودا أو هودا أو هود فيها، فإن اسمها الذي صارت عليه “العباسيّة”، استُمِدّ من ثاني مقام أهميةً في القرية، هو مقام الشيخ عباس.
اللافت اجتماعيًّا بعيدا عن الأثَر السياسيّ – الثوريّ في تغيير اسم القرية من اليهوديّة إلى العباسيّة هو ملاحظتان؛ الأولى متّصلة بالكسْر الذي نشأ ليس ما بين الأهالي واسم القرية فقط، إنما الكسر مع مقام النبي هودا أو هود نفسه، كسرٌ وصل إلى حدّ التنكُّر له. إذ تراجعت حظوة المقام الاجتماعيّة – الشعبيّة في نفوس أهالي القرية، لصالح مقام الشيخ عباس، حتّى أنه جرى إسقاط اسم المقام من كل مَعلم أو موقع ارتبط اسمه بالمقام، فمدرسة البنين القديمة التي كانت مُقامة على أرض تابعة للمقام، صار اسمها على ألسنة أهالي القرية “مدرسة النبي” مُسقِطين لفظَ “هوذا” عنه(28).
أمّا الملاحظة الثانية، متعلِّقة في الطريقة التي جرى فيها تثبيت وتكريس اسم العباسيّة، في محاولة أراد فيها أهل القرية اجتثاث الاسم السابق من واقعهم وذاكرتهم معا، إذ لم يكتفوا بإطلاق اسم العباسيّة على قريتهم، بل لجأوا إلى تعميم اسم العباسيّة على كلّ موقع وأثر في القرية، فسوق “زقاق الرمل” صار سوق العباسيّة، وكذلك الحال مع نادي العباسيّة، وملحمة العباسيّة ومحلقة العباسية وهكذا…(29).
إنّ الذي زاد من إصرار أهالي القرية في هذا الشكل من ذهابهم في اجتثاث اسم قريتهم “اليهوديّة”، والمثابَرة على تعميم وتمكين اسم “العباسيّة”، هو رفض سلطات حكومة الانتداب البريطانيّة الاعتراف باسم القرية الجديد، إذ ظلّت سلطات الانتداب تصدر مراسيمها الرسميّة لأهالي القرية باسم “اليهوديّة” حتى سنة 1947، ما جعل الأمر بالنّسبة لأهالي القرية تحديا لسلطات الاستعمار البريطانيّ والمُهاجرين الصهاينة معا.
في الأخير
ليس ما حدث في “اليهوديّة/ العباسيّة” مجرّد حكاية لقرية تمّ استبدال اسمها. إنّما كان ذلك الخلْع لاسم “اليهوديّة”، بمثابة تأسيس لـ”وعي متوجِّس” للفلسطينيين، إزاء كلّ إرث اجتماعيّ وثقافيّ – حضاريّ متّصل بالتراث العبرانيّ والتوراتيّ في فلسطين، والذي كان قبل الصراع مع الصهيونيّة، يُعدّ بمثابة جزء من تشكيل هويّة فلسطين الحضاريّة عبر التاريخ.
إن لذلك ما يبرّرهُ، أو لنقُل ما يُفسّره على الأقلّ، في ظِلّ سعي الصهيونيّة منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى استملاك الإرث العبرانيّ – التوراتيّ، وصهينته بإعادة إنتاجه في سياق كيانيّة – قوميّة استعماريّة اسمها “إسرائيل”.
الهوامش:
1. الكنش، حسن، العباسية (اليهودية)، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة – ضمن مشروع تدوين الرواية الشفوية للنكبة الفلسطينية، تاريخ 15/3/2005.
2. السْحيلة تسمية كان يُطلقها أهالي قرية اليهودية/العباسية على التل الصخري المُقامة عليه قريتهم. راجع: الأمريكاني، محمد، العباسية (اليهودية) العباسية، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة – ضمن مشروع تدوين الرواية الشفوية للنكبة الفلسطينية، تاريخ 26/8/2005. وأيضا: حمزة، أحمد موسى، العباسية (اليهودية)، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة – ضمن مشروع تدوين الرواية الشفوية للنكبة الفلسطينية، تاريخ 27/10/2009.
3. حمزة، أحمد موسى، العباسية (اليهودية)، مقابلة.
شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة – ضمن مشروع تدوين الرواية الشفوية للنكبة الفلسطينية، تاريخ 27/10/2009.
4. عن بيوت “الوبل” راجع: الكنش، حسن، المقابلة السابقة.
5. الكنش، حسن، المقابلة السابقة.
6. الكنش، حسن، المقابلة السابقة.
7. بامية، محمد حامد، العباسية (اليهودية)، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة – ضمن مشروع تدوين الرواية الشفوية للنكبة الفلسطينية، تاريخ 23/10/2009. راجع أيضا، حمزة أحمد موسى، و الكنش، حسن، المقابلتان السابقتان.
8. راجع، جميع المقابلات السابقة.
9. كانت أكثر قرى فلسطين شُهرة في صناعة الحُصر من نبات البابير هي قرى منطقة الحولة، عن ذلك راجع: حبيب الله، علي، الحولة… بحرة الغوارنة وبر الغُرّ والبابير، موقع “متراس”، تاريخ 16/6/2021.
10. راجع: الكنش، حسن، المقابلة السابقة.
11. راجع: عناتي، محمد، من اليهودية إلى العباسية: سيرة نضالية لبلدة يافيّة، موقع باب الواد، 15/6/2019.
12. الأمريكاني، محمد، العباسية (اليهودية)، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة – ضمن مشروع تدوين الرواية الشفوية للنكبة الفلسطينية، تاريخ 26/8/2005.
13. حمزة، أحمد موسى، المقابلة السابقة.
14. حمزة، أحمد موسى، المقابلة السابقة.
15. المقابلة السابقة.
16.الكنش، حسن، المقابلة السابقة.
17. عن قصة بيع أراضي ملبِس راجع: بن عيزر، أهود، ” برشيم عل هيركون”، كتاب منشور على موقع “برويكت بن يهودا”.
18. بن عيزر، أهود، المرجع السابق.
19. الكنش، حسن، المقابلة السابقة جزء 2.
20. الكنش، حسن، المقابلة السابقة جزء 2.
21. “السِك” نسبة لنوع بنادق كان يُطلق عليها هذا الأسم، راجع : الكنش، حسن، المقابلة السابقة، ج2.
22. الأمريكاني، محمد، المقابلة السابقة. أيضا : الكنش، حسن، المقابلة السابقة، ج2.
23. حمزة، أحمد موسى، المقابلة السابقة.
24. راجع: عناتي، محمد، المرجع السابق.
25. الكنش، حسن، المقابلة السابقة، ج2.
26. الكنش، حسن، المقابلة السابقة، ج2.
27. العارف، عارف، “النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود ” الجزء الثالث. دار الهدى كفر قرع 1990، ص 579.
28. حمزة، أحمد موسى، المقابلة السابقة.
29. حمزة، أحمد موسى، المقابلة السابقة. أيضا، الكنش حسن، المقابلة السابقة.
عن عرب 48