الى ماجد أبو شرار..في ذكرى استشهاده السادسة والثلاثين
أحاول الهرب كلما طُلب مني أن أكتب عنك، مع أنك لم تعلمني يوما الهروب. محاولات هروبي المتكررة كانت وما زالت بدافع خوفي ألا أفيك حقك كأب وإنسان عرفته لسنوات قليلة ولكنني أتذكر تفاصيله الحميمة في كل يوم. نعم، نجحت في الهروب لسنوات طويلة، حتى قررت أن ذكراك الحادية والثلاثين لن تمر من دون أن أحاول كسر خوفي وإن بمحاولة متواضعة لنقل
بعض شريط ذكرياتي الخاصة بك الى كل من أحبك.
لن أكذب عليك. ليست المحاولة الأولى. ففي العام 1999، وكان قد مضى على غيابك 18 عاما، كتبت عنك مقالا باللغة الإنكليزية في الصحيفة التي كنت أعمل فيها حينذاك. أخذت مقالتي وسافرت بها الى السويد حيث كنت بصدد المشاركة في ندوة صحافية هناك. طُلب منا كمشاركات أن تُعرّف كلٌ منا عن نفسها. تنوعت أساليب التعريف عن الذات، اخترت أن أقرأ مقالتي عنك، فقد شعرت حينها أنها تختصر حياتي وأسلوب كتابتي. قرأتها من دون أدنى علم بما ستكون عليه ردود فعل المشاركات الآتيات من بقاع العالم. بكين كلهن، وأحطنني بمحبة وهن يستفسرن عنك كقائد ومفكر وأب وصديق. تصور أن قائدة المجموعة، وهي سويدية، يسارية الميول، أعربت لي عن سعادتها بلقائي لأنها لطالما كانت معجبة بمسيرتك النضالية.
اعتكفت منذ ذلك المقال، ولكنك لم تغب عن بالي لحظة، فأنت حاضر معي في كل صباح وظهر ومساء. أراك في لحظات فرحي وحزني وضياعي، وفي لحظات قراراتي الصعبة.
إحدى وثلاثون سنة مضت على غيابك، ولكنك ما زلت حاضرا في كل تفاصيلي اليومية. أجدك كلما ذهبت إلى أحد مخيمات اللجوء الفلسطيني، فما أكاد أعرف عن نفسي حتى يُطرح علي السؤال المعتاد: «ما صلة القرابة بينكِ وبين ماجد أبو شرار»؟ تنهال كلمات الإطراء على شخصك كقائد ومفكر وإنسان بمجرد أن أذكر أنك والدي. أجدك في الملصقات المعلقة هنا وهناك في مخيماتنا، أتمهل في كل مرة قليلا لأنظر إليك فأبتسم لاإراديا. ها أنت ترافقني في مشاويري بالرغم من بعدك الجسدي عني.
أجدك في عيون كثيرة لم تعرفك، أو الأصح لم تكن قد رأت النور بعد لدى استشهادك، ولكنها تتكلم عنك وكأنها تعرفك منذ سنوات وكأنك ما زلت حاضراً بيننا. أجدك في عيون الأطفال الذين أحببتهم وكنت تتمنى أن يكون في انتظارهم مستقبل أفضل في فلسطين التي حلمت بها وما زلنا نحلم بها جميعا.
أراك في جلساتي مع النساء الفلسطينيات اللواتي يتحدثن عنك، كمستمع وفي ونصير لقضايا المرأة. أراك في الذين عرفوك في شبابهم في السبعينيات ويتكلمون عنك بلهفة الشباب الذي ضاع، ليس كقائد فقط بل كإنسان استطاع أن يلامس همومهم وآلامهم.
كم أفتقدك يا أبي. كم أشتاق لأن أسترجع طفولتي ومراهقتي وشبابي معك. كم أشتاق لابتسامتك التي لا أذكر أنها فارقتك يوما برغم الظروف الصعبة التي مررنا بها على الصعيدين العام والخاص. أحاول استرجاع ابتسامتك كلما ضاقت الدنيا بي لتبعث فيّ الأمل بأن «الدنيا لسه بخير». أسمع صدى كلماتك المتفائلة دوما وأشعر بحنانك يغمرني وإن عن بعد، فأجد نفسي محاطة بحبك الذي كبر معي.
تبدو مختلفة ذكراك الحادية والثلاثون، فالكثير حدث منذ غيّبوك. نحن لم نعد نحن. إنعام غادرتنا لتكون أقرب منك، وأنا وسلام وعزة وداليا، كبرنا ولم تكن شاهدا على ذلك كباقي الآباء. سلام يتنقل من بلد إلى آخر حاملا في جعبته حلمك بعالم أفضل وفلسطين محررة، أنا وعزة ودالية حققنا بعضا من أحلامنا ونعمل على تحقيق ما تبقى منها. عزة أصبح لديها كرم، ودالية أصبح لديها كرمة، أما أنا فأصبح لدي مينا ذات الأعوام العشرة، والتي كنت لأدفع عمري كله لو سنحت لك الفرصة لتلتقيها. أحدثها دائما عنك وأردد العبارة نفسها في كل مرة أذكرك فيها: «يا ليتك التقيت به». فتسألني ببراءة: «لماذا؟» فأحدثها عن حبك وشغفك بالأطفال عامة، فكيف إن كانت حفيدتك.
أتساءل بيني وبين نفسي، حتى لا أثقل على مينا بأفكاري، عن الأوقات التي كنت ستقضيها معها ومع كرمة وكرم؟ مضحك أن يتخيل الإنسان أموراً لم تحدث ولكنها تبدو حقيقية الى درجة يصعب فهمها. أراك جالساً تلاعب مينا وكرمة وكرم وكأنك طفل سُرقت طفولته منه لانشغاله بأمور أهم، فأراد استعادتها من خلال أحفاده. أراك تمازحهم كما كنت تمازحنا صغاراً بالرغم من أعبائك الكثيرة ومشاغلك التي لا تنتهي. أراك تلبي جميع مطالبهم كما كنت تلبي مطالبنا. هل تذكر عندما طلبنا منك أنا وسلام وعزة أن تزيد مصروفنا لدى انتخابك عضواً في اللجنة المركزية لـ«فتح» ورفضت حتى لا يعتقد أحد أنك في صدد استغلال موقعك الجديد. ضحكنا. بالنسبة لنا كأطفال ما جدوى الترقية إن لم تعد علينا بالنفع؟ لم أفهمك حينها ولكني أفهمك اليوم من خلال تربيتي لمينا ومحاولاتي المستمرة لإفهامها أن هناك من هم أقل حظا منها وأن عليها أن تكون ممتنة بما لديها.
غيابك يحزنني أو بكلمة أصح يؤلمني. فالوقت يعلمنا تقبل ألمنا ولكنه لا ينسينا إياه. كم من مرة حسدت هذه الصديقة أو تلك عندما حدثتني عرضاً عن نيتها زيارة والدها لقضاء بعض الوقت أو تناول وجبة الغذاء معه. كم من مرة استرقت النظر إلى عائلة مجتمعة في مكان ما وتمنيت لو كنت ما زلت بيننا. أستذكر بشوق رحلاتنا المتعددة مع أصدقاء كُثر إلى جبال لبنان وحفلات الشواء التي كنت دائما تحب ترؤسها. أذكر دعوات العشاء التي لا تنتهي في بيتنا في كورنيش المزرعة في بيروت وإصرارك على طهو المنسف في كل مرة.
لن أنسى عندما حاولت أن تفرض علينا كأطفال سماع الموسيقى الكلاسيكية أثناء تناول وجبة الغداء لأنها كما قلت «تهذب الروح» أو شيئا من هذا القبيل. لم تنجح محاولتك طويلا فتململنا أو ربما سرعتنا القياسية في إنهاء وجبتنا منذ بدأت تلك التجربة جعلتك تعيد النظر في الموضوع وتؤجله إلى وقت آخر. وكيف لي أن أنسى عندما عدنا إلى البيت من أحد مشاويرنا لنجد قطتنا وقد أنجبت ثلاثاً أو أربع هرر صغيرة، اثنتان منها ملتصقتان الواحدة بالأخرى. تبرعت سريعا لإجراء عملية الفصل بينهما وكأنك طبيب بيطري محترف، ولكن عملية الفصل أودت بحياة إحداهما، فحملناك مسؤولية موتها لأسابيع، برغم اعتذاراتك المتكررة لنا.
إرثٌ كبير تركته لنا أعيش تفاصيله كل يوم وأحلم بأن أحقق أحلامي لتخليده. أحلام ابنة رأت فيك وإن لسنوات قليلة الأب والصديق الذي برغم سنوات غيابه الطويلة، نجح في أن يصبح بوصلة حياتها.
الشهيد ماجد أبو شرار اغتاله «الموساد» الإسرائيلي صبيحة التاسع من تشرين الأول 1981 بقنبلة وضعت تحت سريره في أحد فنادق روما حيث كان يشارك في مؤتمر عالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، ونقل جثمانه الى بيروت ودفن في «مقبرة الشهداء».