إذا كان تعريف «الوطنية» الأكثر شيوعًا والأكثر سطحية، يقول، بأنها الفخر الوطني، كما أنها التعلق العاطفي بالوطن والأمة التي ينتسب إليهما المرء، دون غيرها من الأماكن في العالم. رغم ذلك يبقى مفهوم الوطن غامضًا والتعلق والانتساب له أكثر غموضًا. رغم غموض المفهوم، إلا أني أعتقد أنه يقع بين حدين متطرفين، مفهوم غني للوطن، وهو الذي يعني أن انتمائي إلى وطني لا يعني تأييده ظالمًا أو مظلومًا، وأن مفهوم الوطنية، لا يعني تكميم الأفواه، ولا يعني منعي من انتقاد السلطات التي تدير هذا الوطن، والاختلاف معها في الكثير من القضايا، وحتى يمكنني أن أدعو لإسقاطها وغيابها عن الساحة السياسية لأنها لا تصلح لقيادة البلاد، وانتخاب غيرها. وهذا لا يمنع أن أرى مصالح وطني في مكان مختلف عن المكان الذي تراه نخبتها الحاكمة، حتى أن الوطنية لا تمنعني من الانشقاق، والتعبير عن رأي ضد الإجماع الوطني العام. لهذه الوطنية الغنية شروط تؤسس لغناها، على رأسها الديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي في مجتمع مواطنوه متساويين في الحقوق والواجبات، ومتساويين أمام القانون والسلطات. وبذلك يستطيع هذا المجتمع إدارة النقاش العام حول القضايا الرئيسية للوصول إلى حلول عبر الحوار حول بعض القضايا، وحسم بعضها الآخر عبر الانتخابات، مثل السلطات، والتي تقوم على التبادل، وفق قواعد النظام السياسي وآلية الحصول على أغلبية لإدارة البلاد دون إلغاء الطرف الآخر المختلف مع السلطة، ما يمنحه الفرصة في الانتخابات القادمة، لأن يسعى إلى تغيير الاتجاهات الانتخابية والفوز في الانتخابات وإدارة السلطة عبر برنامجه.
الوطنية الفقيرة وكما تتجلى في بلداننا، تقوم على تقديس الحاكم، بصرف النظر عن الجرائم التي يرتكبها بحق بلده، والحاكم هو الطاغية الذي يقرّر كل شيء في البلد، لا نقاش ولا حوار ولا حرية رأي، على المواطنين (القطيع) أن يهللوا لما يقوله ويفعله الطاغية، لا حرية رأي ولا نقاش مع الحاكم، فهو الذي يعرف مصالح البلد أكثر من كل المواطنين، الذين هم مجرد رعايا يُفضل عليهم عندما يحكمهم. لا ديمقراطية أو انتخابات تأتي به إلى السلطة، إنه المنقذ للبلد، ودونه تتحول البلد إلى خراب، هو من يحدّد الأعداء والأصدقاء. لا تعمل المؤسسات إلا بفضله فهو الذي يمنحها الوجود، ولأنها كذلك، فهي تشكر الطاغية يوميًا على بقاءها، خالية من أي دور أو صلاحية، سواء كان الحديث عن برلمان أم عن وزارة. ولا يعيش هذا الوطن على الحقوق والواجبات للمواطنين بالمعنى الذي تعرفه الدول الأخرى، بل له خصوصية تقوم على أن الواجبات تعني التأييد المطلق للسلطة، والحقوق تعني المنح التي يمنُّ بها الطاغية على رعاياه. أما حرية الرأي فهي مكفولة، فالمواطن في مزارع الطغاة، يستطيع أن يمارس حرية الانتقاد لبلدان أخرى مثل الهند والصين، والدول العدوة، هذا حق مشروع له، لكنه لا يستطيع أن ينتقد أي موقف لسلطة الطغيان التي يعيش في ظلها الثقل، لأن مثل هكذا انتقاد، يهدّد الدولة، ويزرع الشقاق بين المواطنين، ويصبح الرأي المختلف، هو جريمة واقعة على أمن الدولة، تقود صاحبه / صاحبته إلى المحاكم.
عندما يعلن الطغاة عن أولوية أوطانهم بوصفها تجسيدا للـ«الوطنية»، فهم يعنون أن «الوطنية» تتمركز حول سلطتهم، وطالما أن أولويتهم السلطة، فإن السياسة كلها تتمحور حول البقاء فيها. لذلك، عندما يُرفع شعار، مصر أولًا، سورية أولًا، الإمارات أولًا… إلخ فليس من الغريب أن تكون هذه السياسات التي تُبنى على هذه الأولوية الوطنية، هي سياسات سلطوية، وليست سياسات تخدم المصالح الوطنية بالمفهوم العريض. لذلك، ليس من الغريب، أن يأتي اكتشاف الوطنيات الحديثة في العالم العربي الحديث، متناقضًا مع ثوابت تاريخية. طبعًا من المفهوم أن تتغير الثوابت التاريخية، عندما تفقد مبرر وجودها، فليس هناك موقفًا مطلقًا في التاريخ. لكن يحدث هذا عندما تأتي الوقائع لتغير هذه الثوابت. أما عندما يكون هذا التجاوز لمصلحة الحكام ولتحول بمزاجهم، فهو ليس مصلحة وطنية، وهنا لا يكون إدعاء الأولوية الوطنية فقيرًا، بل ومضرًا أيضًا.
لنأخذ مثالين على تجلي الأولوية الوطنية، على الفارق بين المثالين:
الأول، المثال السوري، يدعي النظام أن هناك مؤامرة عليه من أطراف عديدة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل، وقد أعلنت الحرب عليه. فلم يجد في الرد عليها، سوى إعلان الحرب على شعبه، وبقي يحمي حدود إسرائيل، رغم أن إسرائيل لم تكف عن قصف مواقعه وتدمير أسلحته طوال هذه السنوات، دون أن يحرك ساكن في مواجهتها، إنما قام بتدمير المدن السورية وتشريد ملايين المواطنين. وهل بحاجة للبرهان لمن الأولوية، للسلطة أم للوطن؟!
الثاني، المثال الإماراتي، كان من المفهوم أن توقع الإمارات اتفاقًا مع إسرائيل، لو أن هناك أراضي إماراتية تم استردادها في اتفاق مع إسرائيل، حتى ولو باتفاق منفرد على الطريقة المصرية، أو تم توقيع اتفاق أنجز حلاً مجحفًا للمشكلة الفلسطينية. أما هذا الاتفاق فلا معنى له سوى رغبه السلطة الإماراتية في التقرب من إسرائيل معتقدة أنها يمكن أن تحميها، وكل ذلك بذريعة تطوير الإمارات، وكأنه لم يعد هناك أي دولة متطورة في العالم سوى إسرائيل. ما مصلحة المواطن والوطن الإماراتي بهذا اتفاق؟ وما مصلحة السوري والوطن السوري بهذه الحرب التي دمرت البلد؟
تأتي الوطنيات الفقيرة في المنطقة جراء تفكك السردية القومية العربية، التي كانت تتحدى الأوطان القطرية، بوصفها صنيعة الاستعمار. لكن هذه السردية، أخذت تتحطم منذ اتفاقات كامب ديفيد المصرية المنفردة مع إسرائيل، على أساس الأولوية لاستعادة الأراضي المصرية. وعلى مستوى العلاقات العربية البينية، كان احتلال العراق للكويت، قد حطم السردية العربية الجماعية أيضًأ، وأصبح التعامل مع الأشقاء بوصفهم عدو مسألة عادية. وبتحطم هذه السردية، نما مكانها سرديات وطنية فقيرة تمركزت حول السلطة، خاصة مع موجة توريث السلطات في الأنظمة الجمهورية، التي طغت على دول المنطقة في التسعينات القرن المنصرم، العراق، سورية، اليمن، ليبيا، حتى تونس التي لا يوجد لرئيسها ولد. المشكلة أن هذه السرديات الوطنية، جاءت عدوانية ليس ضد الرابط القومي فحسب، وبل وضد الإنساني، فهي وطنيات معجبة بالأقوى ولا تتضامن مع الضعفاء، وهي شرسة في مواجهة مواطنيها (رعاياها) وقمعهم.