الوحشية الناعمة للعالم الحديث

عدالة القضايا ليست كافية لنيل الضحايا حقوقهم من الجلاد، سواء كان هذا فرداً أو دولة. وهناك أمثلة تفقأ العين على الضحايا الممنوعين من الوصول إلى حقوقهم في كلّ العالم. وتعطي النظرة السريعة على تاريخ العالم صورة قاتمة عن حجم الظلم وضحاياه الذين دفعوا ثمناً هائلاً، من أجل أن يكتب المنتصر تاريخاً يبدو مشرّفاً، لكنه يخفي في ثناياه دماء (وآلام) الضحايا الذين كانوا وقود هذه الصورة الكاذبة للتاريخ. وفي المقابل، لا يمكن الاستمرار في العيش في عالم ظالم، من دون الحلم بعالم أكثر عدالة، يقترب فيه الضحايا، أفراداً وأوطاناً، من حقوقهم التي يسلبها الآخرون منهم، محلياً وخارجياً. 
نعم، العدالة حلم البشرية الذي لا ينضب، والمسار للوصول إليها ما زال طويلاً، فحجم الظلم المنتشر في العالم اليوم أكبر مما يمكن احتماله، لكن الذين يملكون القوة لا أحد منهم مشغول فعلاً في تحقيق العدالة وإنصاف المظلومين والضحايا، بل على العكس هم يشكلون جزءاً من آليات الظلم التي تطحن البشر في عالم اليوم في كل مكان. تقول الوقائع القائمة الكثير عن الظلم والوحشية التي تحاصرنا، تلك الوحشية التي ينقل الإعلام اليوم جزءاً طفيفاً منها، على الرغم من كلّ العلانية التي نعيشها، بفضل الإعلام الحديث، أعتقد أنّ المخفي أعظم، وما نراه من ظلم ووحشية ما هو سوى قمة جبل الظلم والوحشية الذي يعيشه عالم اليوم.

يعلمنا وباء كورونا كم هو أناني العالم الذي نعيش فيه، ليس بشأن العلاقة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، بل حتى بين الدول الغنية ذاتها التي وجدت في الفيروس تهديداً لها، ولم تتورّع دول أوروبية عن سرقة معدّات طبية تعود إلى دول أخرى، كانت قد توقفت في مطاراتها. واليوم الفرق المرعب في أعداد من تلقوا اللقاح في الدول الغنية، مقارنة بالدول الفقيرة، تشير إلى أنانية مخيفة، تصل إلى حد الوحشية، تعبر عنها هذه الدول، في الحديث عن جرعة لقاح ثالثة لمواطنيها، في وقتٍ يهدّد الفيروس مئات ملايين الأشخاص في البلدان الفقيرة، والذين ينتمون لما تسمى “المجموعة الخطرة” أي الأشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة، هذا الفيروس قادر على قتلهم إذا لم يتلقوا اللقاح. 
من يُسائل هذه السياسات؟ لقد باتت اللامبالاة سياسة دولية للدول الأكثر ثراء، ليس بشأن فيروس كورونا فحسب، بل حتى القضايا التي اعتبرتها هذه الدول المشكلة الرئيسية، في ما بعد انهيار الدول الاشتراكية أيضاً، مشكلة الإرهاب. فقيمة ضحايا الإرهاب ليست واحدة، فأيّ من الدول التي ذكرناها، لا تتأثر إذا قتل هؤلاء الإرهابيون مئات بل آلاف الأفغان أو السوريين أو العراقيين، أو غيرهم من الشعوب الأخرى، أما أن يُقتل أميركي أو فرنسي بيد هؤلاء، حتى لو كان هذا القتل، خارج بلده، تصبح القضية أكبر بما لا يقاس. وكأنّ المسموح للإرهاب المسّ بمواطنين الدول الفقيرة المساكين، ومن غير المسموح المسّ بالمواطنين الغربيين، فلهؤلاء قيمة مختلفة عن الآخرين. طبعاً، المثال للمقارنة فقط، وأنا أعتقد أنّ كلّ قتل هو قتل مطلق، جريمة مطلقة لا يمكن التسامح بها، ولا تدافع هذه المقالة عن أيّ قتل من أيّ نوع. حياة البشر محرّمة على المسّ مهما كان لون البشر، أو جنسهم، أو انتماؤهم.

يشرح بول دوموشيل، في كتابه “التضحية غير المجدية” أنّه يمكن النظر إلى نظريات العدالة الاجتماعية على أنّها تعبيرات معقدة لإرادة التضامن الداخلي الشامل التي تضفي الشرعية على ذاتها عن طريق رفض العنف، بوصفه سلوكاً تُرك “للأعداء” الذين يعيشون في الخارج، على الجانب الآخر من الستار الحديدي. وتهدف العدالة الاجتماعية إلى استعادة مثاليات المساواة والرفاهية التي تشتمل عليها المطالبات الاجتماعية الماضية، وبنزع سلاحها بالمعنى الحرفي، من دون جعلها واهنة. ونضيف هنا أنّ هذه الآلية داخلية، أي أنّها تقف عند حدود الدولة المعنية، ولا تتجاوزها إلى مواطنين آخرين ينتمون إلى دول أخرى. وإحدى الفرضيات الأساسية للكتاب تقول إنّ المؤسسات السياسية الحديثة تنبثق عن تحول قواعد التضامن المتبادل التي تبني العلاقات بين الفاعلين، وتقول أيضاً إنّه لا يمكن فصل التضامن عن العداء. تاريخياً، نجد أنّ قواعد التضامن المختلفة تتلاءم دائماً مع أشكال العداء المختلفة. يحاجج الكتاب أنّ العقل، باعتباره “وجهًا آخر للعنف” لا يمكنه الوجود إلّا داخل حيز أرسى سلامة احتكار العنف الشرعي. لكنّ هذا الاحتكار للعنف الداخلي، بوصفه آلية ديمقراطية لممارسة الحكم، يقف عند الحدود أيضاً، ويتم تصدير هذا العنف إلى الخارج، كآلية انتقامية، وللتنفيس عن غضبٍ شعبي، ولو كان هذا العنف مجانياً، ويعاقب من ليس له علاقة بالفعل الأساسي الذي أثار هذا الغضب الشعبي. والمثال الفاجع في هذا السياق هو الغزو الأميركي للعراق بعد أحداث “11 سبتمبر”. لم تكتفِ إدارة بوش الابن بغزو أفغانستان للرد على هذه العملية، لأنّ العملية لم تستطع تنفيس الغضب في الشارع الأميركي، فالهدف كان أصغر من المهمة، فكان البحث عن هدف آخر، واختلاق روابط واهية بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة، لا أساس لها من أجل غزو العراق وتدميره.

وبالنظر إلى تاريخ المنطقة، نجد أنّ قضايا عادلة كانت ضحية تقاطعات وصراعات ومصالح إقليمية ودولية. وقد كانت القضايا الوطنية والقضايا المحلية على السواء ضحية هذه التقاطعات، فكان الفلسطينيون والأكراد من أكبر ضحايا هذه التقاطعات. ومع الثورات العربية التي تعرّضت لتخلي العالم عنها، وتركها تدفع أثمانا كان يمكن تجنبها، خصوصاً الثمن الهائل الذي دفعه السوريون في مواجهة نظام وحشي، حماه الروس والإيرانيون وصمت الغرب عن وحشيته. ولا مبالغة في القول إنّ سورية شكلت عنواناً لسقوط السرديات الغربية الكبرى عن حقوق الإنسان، التي تبين أنّها أداة سياسية أكثر منها حماية فعلية لحقوق الإنسان، وهذه الحقوق عندما تتأثر بمصالح الغرب، والتي يمكن التخلي عنها عندما تمسّ مصالحها.
منذ كتابة وثيقة حقوق الإنسان، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والدول الغربية تتغنّى بحقوق الإنسان وبدفاعها عنها، بوصفها حقوقاً طبيعية للبشر، يجب الحصول عليها في كل مكان. نصطدم بجزئية هذه السردية عند كلّ اختبار حقيقي لهذه السردية الغربية الكبرى، وادعاءاتها في حماية حقوق الإنسان على مستوى العالم غير الغربي، وانطباقها على بشر أكثر من بشر، ما جعل التجارب الكثيرة التي مرّ بها العالم منذ الحرب العالمية الثانية تضع هذه القضية في دائرة الشك في عموميتها على مستوى العالم، ما يجعل حقوق الإنسان مسألةً فيها نظر، بعد كلّ الحبر الذي سال، والخطابات التي دبّجت للدفاع عن هذه القضية.

عن العربي الجديد

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *