قد تكونُ المحنُ والصعابُ أكثرَ الطرقِ نجاعةً لمواجهةِ الحقائقِ كما هي؛ وحقيقةُ المشهدِ الثقافيّ العربيّ عامةً والفلسطينيّ خاصةً، تؤكدُ أنه يمرُّ بأزمةٍ مركبةٍ، أخطرها على وجهِ الدقة، يكمنُ في المساحةِ الفاصلةِ ما بين النخبِ والعوام، للإجابةِ على سؤال: منْ يقودُ منْ؟

فمنذُ أن أتاحَ فضاءُ الميديولوجيا الفرصة تلو الأخرى لإستدخالِ ثقافةِ الهزيمة، لتحلَّ محلَ ثقافةِ الذاتِ المقاومة؛ والجسدُ العربيّ يعاني من إصاباتٍ بالغةِ الخطورةِ في قيمهِ العليا، وتشوهاتٍ واضحةٍ في ملامحِ رموزهِ الاجتماعيةِ والثقافيةِ والوطنيةِ، وصولاً إلى شعورهِ بالوهنِ الشديد في هويتهِ الثقافيةِ والحضاريةِ؛ الأمرُ الذي تكشّفَ بصورةٍ جليّةٍ تحتَ وطأةِ الجائحةِ التي ضربت كافةَ جوانبِ الكرةِ الأرضية؛ أنشطةَ ومجالاتِ الحياةِ عليها.

إلا أنّنا ومن حيثُ لم نخطّط قبلاً، وجدنا أنفسنا وجهاً لوجهٍ في مواجهةِ تحدٍ فريدٍ من نوعهِ، تحديداً على الجبهةِ الثقافية، فكانَ السؤالُ الأبرز: كيف ستثبتُ الثقافةُ حضورها في ظلِّ هذه الجائحة؟ وأيُّ السّبلِ الأكثرَ فاعليةً في عودةِ النشاطِ الثقافيّ إلى سابقِ عهده؟ ليتفاجأ الجميعُ بأنّ ما فرضتهُ الجائحةُ، قد فتحَ النوافذَ لتفاعلٍ أكثرَ حيويّةً وإيجابيّةً وديمومةً، خاصةً أنّ السّبلَ والأدواتِ الجديدة قد كسرت حالةَ النخبويّةِ في التعاطي مع الشأنِ الثقافيّ.ولعلَّ أبرزَ ما انتجتهُ أزمة الجائحة، دارَ في فلكِ التوظيفِ الأمثلِ للتطوّرِ التكنولوجيّ في وسائلِ الاتصال، التي كنا نتعاملُ معها أفراداً ومؤسّساتٍ، بوصفها قناةَ اتصالٍ وتواصلٍ اجتماعيّ للأفراد، وحائطَ عرضٍ للبرامجٍ والفعالياتِ والإصداراتِ للمؤسّساتِ ليسَ أكثر؛ فكان أن شهدتِ الحالةُ الثقافيّةُ عديدَ الندواتِ واللقاءاتِ والورشِ والأمسياتِ الافتراضيّةِ المسموعةِ والمقروءةِ والمرئيّةِ وسطَ حضورٍ جماهيرٍيّ فاقَ عددَ الحضورِ الفيزيائيّ، ما جعلَ من وسائلِ الاتصالِ الحديثةِ رئةً ثانيةً ونابضةً لمحمولِ الفعلِ الثقافيّ.

هذا فضلاً عن كونِ الجائحةِ قد باتت مادةً جديدةً ذاتَ مضامين حيّةٍ للأدباء، فكان التناولُ الأدبيّ ليومياتِها أشبهُ ما يكونُ بتناولِ التاريخِ للأبعادِ الاجتماعيّةِ في ظلِ الكوارثِ الكبرى، كالحربينِ العالميتينِ الأولى والثانية، إلى جانبِ مأساةِ الطاعون والنكبة؛ ما أتاحَ لعديدِ الكتّابِ والأدباءِ فرصةً جيدةً لإنتاجِ أعمالٍ باسمِ الجائحة، كأن نتابعَ يوميات “الست كورونا” التي يُنتجها الدّكتور عادل الأسطة Adel Al-osta ، أو نقرأ روايةً بعنوان “مأساة كاتب القصة القصيرة” للأديبِ والروائيّ إبراهيم نصر الله Ibrahim Nasrallah ، الذي أقام بنيتها السرديّةَ على سلوكياتِ ويومياتِ الكاتبِ في ظلِّ الجائحة، وكذا الأمرُ فعل الكاتبُ والشاعرُ الناقدُ عبد الرحمن بسيسو Abdalrahman Bsaiso الذي كتبَ سلسلةً من المقالاتِ تحتَ عُنوانِ “أقنعةُ كوفيد”، فضلاً عن إسهامه ببحث موسع تحت عنوان: “إعادة تكوين العالم”، نشر ضمن الكتاب الجماعي: “أجراس الوباء”، وهو أول كتاب ينشر، ربما على مستوى العالم حول الجائحة، شارك فيه عدد من الكتاب والمثقفين العرب والأوروبيين، مشيراً إلى ضرورةِ التقاطِ الأدبِ الفلسطيني لما أسماهُ “رسالة الوجود” حفاظاً على السرديةِ الفلسطينيّةِ وتعزيزاً لحضورها في الوعي الإنسانيّ، بوصفِها شكلاً من أشكالِ المقاومةِ التي تقولُ بلغةٍ واضحةٍ لا لبسَ فيها: “لم يكنْ الوجودُ الفلسطينيُّ في زمكانِ الحقلِ موحداً فحسب، بل كان واحداً ملتحماً” والكلامُ لبسيسو. أو أن نشاهدَ القصّةَ المصوّرة ليومياتِ الحجر المنزلي لعدد من الكتّاب والكاتبات والنشطاء، والتي أطلقتها جمعيّةُ الثقافةِ العربيةِ في منصّةِ الانستغرام، في الداخلِ الفلسطينيّ المحتلّ عام 1948، وغيرها من الإنتاجِ الثقافيّ المواكب للحدث، جائحةُ كورونا في حالتِنا الإنسانيةِ الراهنة.

وإذا ما حاولنا رصدَ مظاهر وتعبيرات المشهد الثقافيّ في ظل الجائحة، فسنجد الكثير مما يمكن تناوله، إلا أنّ الأمر لا يصحّ أو يستقيم بالكمّ على حساب النوع، وهنا تأتي المعضلة التي أظنّ أنّ العديد من المؤسّسات والجماعات بدأ بالتفكير في حلول لها، كي لا يختلط غثّ المدّعي بسمين المبدع بشكل تراكميّ، قد يؤثر سلباً على كامل المنتج الثقافيّ على المديَيْن القريب والبعيد. علما بأنّ إشكالية المنتج ونوعيّته، ليست جديدة على المشهد الثقافيّ -الأدبيّ منه على وجه التحديد – خاصة مع بروز مشكلة النشر وآلياته ومعاييره شبه الغائبة، وهذه قضية أخرى تستحق نقاشاً آخر.وعلى الرّغم من الآثار السلبيّة الواضحة للجائحة على العجلة الاقتصاديّة، إلا أنّ الجديد والمهم في الأثر على الحالة الثقافيّة والوطنيّة الفلسطينيّة، لا يقدّر بثمن، حيث أعادت آليات النشاط الثقافيّ بأشكالهِ الحديثة، المجال للمّ شملِ الهويّة الفلسطينيّة من كلِّ بقاعِ الأرض حولَ القضيّةِ الأساس في الوطنِ الأمّ فلسطين، الأمرُ الذي افتقده الفلسطينيّ لعقودٍ مضت، جرّاءَ ما انتجتهُ اتفاقياتُ السلامِ المزعوم، التي قسّمت الشّعب الفلسطينيّ لمكوّنات ثلاث أساسيّة؛ فلسطينيّي العام 1948، وفلسطينيّي الأرض المحتلة في العام 1967 الضفة والقطاع، إلى جانب فلسطينيّي الشّتات الموزّع على كل زوايا الأرض، هذا خلافاً لما انتجه عار الانقسام الداخليّ منذ العام 2007.

فعلى عكس ما كان من نقاش سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ لكلّ مكوّن من مكوّنات الشعب الفلسطينيّ على حِدَه، وفّرت الجائحة سبل النقاش الجماعيّ للقضيّة الوطنيّة الجامعة، فأخرجت الصوت الفلسطينيّ المرابط في الأرض المحتلّة منذ النكبة، ليسمعه ويناقشه الفلسطينيّ في الشتات، إلى جانب شقيقه في الأرض المحتلّة منذ النكسة، والأمر بشكل معاكس لمن ما يزال ينتظر العودة، بالنسبة لمن عاش وما يزال تداعيات النكبة والنكسة.هذا الفعل يُمكننا ملاحظته بشكل واضح وصريح في الندوات السياسيّة التي قامت بها عديد المؤسّسات والملتقيات ومنها على سبيل المثال “الملتقى الفلسطينيّ” Abdo AlassadiAsad Ghanem الذي نشط بالتزامن مع الجائحة، ولربّما يكون الفضل الأوّل والأهمّ لحضور هذا الملتقى يعود بشكل أساسيّ لحالة الإغلاق التي فرضتها الحكومات على خلفيّة هذه الجائحة؛ ويأتي هذا الحراك إلى جانب مثيل له انطلق بقوّة جامحة من الداخل الفلسطينيّ المحتلّ في العام 1948، فكان أن ناقشت مؤسّسات كما هي “جمعيّة الثقافة العربيّة، ومدى الكرمل” وغيرهما عناوين مهمّة وحسّاسة منها، ” السياسة في زمن الكورونا، والنظريّة النقديّة في الفكر الغربيّ والعربيّ المُعاصِرَين، والحقل السياسيّ الفلسطينيّ: تحوّلات في القيادة ودور الأحزاب بين التمثيل والتنظيم، تحوّلات المشهد السياسيّ من العمل الشّعبيّ إلى عقدة التّأثير الشّعبويّ، فلسطين ما بين التعمير والتدمير، والهويّة والمدينة والبحر” وغيرها من العناوين التي لم تناقش من قِبَل هذا العدد من النّخب والعوام معاً في الداخل والخارج.

وإذا ذهبنا باتّجاه اللّقاءات والحوارات الفكريّة والسياسيّة المهمّة، فسنجد على سبيل المثال لا الحصر السيّد خالد مشعل وقد حضر ضيفاً افتراضيّا على مركز مسارات للدّراسات لنقاش عام تناول المصالحة الفلسطينيّة وما تتعرض له القضيّة من مخاطر جمّة، وكذا الحال تابع العديد من روّاد هذه اللقاءات والحوارات عديد الأدباء والمفكرين والسياسيين العرب والفلسطينيّين، ومنهم أحمد نسيم برقاوي ، نديم روحانا، ماهر الشريف Maher Charif ، رشيد الخالدي، محمود شقير ، خالد الحروب، وغيرهم من الأسماء الفلسطينيّة الوازنة والممتدّة على سطح البسيطة، إلى جانب أسماء عربيّة كبيرة كالمصريّ صلاح فضل، والسوريّ مشيل كيلو، والمغربيّ سعيد يقطين، واللبنانيّ إلياس خوري في أكثر من ندوة أهمّها كانت ندوة نظمها مركز الأبحاث (م.ت.ف) Nayef Jarrad بالتعاون مع المجموعة الأكاديميّة لفلسطين Pal-Ac مستعرضاً تجربته مع مؤسّسات البحث إبّان الثورة الفلسطينيّة في السبعينيات، وتجربة رواية باب الشمس، وتحويل التاريخ إلى أعمال أدبيّة وسينمائيّة.

هكذا، ولأنّ الثقافة تعدّ مكوّناً فكريّاً أساسيّاً من مكوّناتِ الأمم، تمكن المثقّف الفلسطينيّ إلى حدّ مقبول، وعبر الميزة النسبيّة التي وفّرتها ثورةُ وسائلِ الاتصالِ الحديثةِ، من إعادةِ الاعتبارِ لقضيّته الوطنيّة في الوعيِ الجمعيِّ العربيّ والفلسطينيّ على حدّ سواء، خلال الجائحة التي خلق هجومها المفاجئ حراكاً ثقافيّا مجابهاً ومهمّاً، شيّد شكلاً من أشكال الاختراق لانحباس أنماط التفكير الفرديّ والجمعيّ، في مجتمع سادته الفرجة لعقود طويلة من جهة، ومُنع من الإدلاء بآرائه السياسيّة من جهة أخرى، فضلا عمّا اعتراه من نزعة استهلاكيّة فرديّة اختطفته بعيدًا عن الهمّ الجماعيّ وشرط المصير المشترك، وذلك ببساطة شديدة لأنَّ الوعي الفلسطينيّ الحيّ لا يجبُ أنْ يُخطئ الهدفَ، ولا يصحُّ أنْ يرتبكَ في اللّحظةِ الحاسمةِ.

(مقالي في مجلة فيلادلفيا الثقافية الفصلية المُحكمة والتي تصدرها كلية الآداب والفنون في جامعة فيلادلفيا…كل التحية والتقدير للدكتور محمد عبيد الله محمد عبيدالله رئيس تحرير المجلة وعميد كلية الآذاب.)

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *