الهولوكوست والنكبة المستمرة
ألمانيا مشغولة بأبو مازن، وأبو مازن لا يلوي على شيء. إسرائيل ترقص طرباً على إيقاع تصريحات الرئيس الفلسطيني في برلين عن «الهولوكوستات»، وأهل نابلس مشغولون بدم إبراهيم النابلسي ورفاقه من فدائيي «كتائب شهداء الأقصى».
بني غانتس، قاتل الأطفال في غزة صار فقيهاً في الأخلاق، لكنه لا ينسى مهمته الأساسية، فيقوم بإقفال مراكز سبع منظمات للدفاع عن حقوق الإنسان في رام الله والبيرة وسط عجز ولا مبالاة الأمن الوطني. أما يائير ليبيد فيواصل إطلاق دروسه على ضحاياه الفلسطينيين، بينما تقوم الشرطة الألمانية بالتحقيق في تصريح السيد محمود عباس بوصفه خطاب كراهية!
ماذا جرى؟
كيف انطبقت السماء على «بطل السلام الفلسطيني»، ورائد التنسيق الأمني، الزعيم الذي فكك خلايا المقاومة في الضفة الغربية، ووضع الفدائيين في سجون السلطة الفلسطينية؟
تعالوا نراقب المشهد كي نفهم.
بدأت الحكاية بسؤال طرحه صحافي ألماني على عباس، وانتهت بخطاب الهولوكوستات. الصحافي سأل حول نية الفلسطينيين الاعتذار عن عملية ميونيخ، وبدل أن يضع الرئيس الفلسطيني المسألة في إطارها ويتهم الشرطة الألمانية والمخابرات الإسرائيلية بتنظيم المقتلة ومسؤوليتها عنها، قفز إلى الهولوكوست.
لا يمكن وصف ذلك المشهد البرليني سوى بالكوميديا، بطل بلا بطولة يلقي موعظة عن الهولوكست في مكان الجريمة، ومستشار ألماني يتلعثم قبل أن يبدأ في إعطاء الدروس. الرئيس الفلسطيني محمود عباس قال إن إسرائيل ارتكبت «خمسين هولوكوست» في فلسطين.
من أين أتى السيد عباس بهذا الرقم، أم أنه جاء عفو الخاطر، كأن تستعمل أي رقم دلالة على الكثرة، فنقول «ألف مبروك»، ونحن نقصد «مبروكاً واحداً». اللغة المحكية صنعت من الرقم وسيلة كي تعبر عن مشاعر غامرة عبر لغة الأرقام، أما أبو مازن فصنع من الرقم فضيحة فكرية وسياسية.
أغلب الظن أن السيد الرئيس أراد أن يقول شيئاً آخر، ونسي أن الكلمة لها معنى، وأن الكلام عن فلسطين يحتاج إلى الدقة والصلابة والمعرفة.
نحن نعيش في زمن المحاولة الصهيونية الأكثر وحشية لمحو فلسطين، وإلصاق اللاسامية بأي نقد للاحتلال الإسرائيلي.
فلسطين تواجه إبادة سياسية كاملة، ومحاولة لمحوها عن الخريطة، وتعيش تحت احتلال استيطاني إحلالي عنصري أسس لنظام الأبارتهايد، فما الحاجة لوصف هذا الاحتلال الوحشي باستعارة العار الألماني، واللجوء إلى صيغة المبالغة؟
كلمة نكبة تكفي للتعبير عن مسلسل المذابح والطرد ومصادرة الأراضي والقمع والعنصرية التي تمارسها إسرائيل منذ سبعة عقود، فلماذا وجد السيد الرئيس نفسه في موقف المزايدة الفارغة من المعنى، ووقف خطيباً كممثل نسي دوره فلجأ إلى أي كلام؟
الرئيس عباس يمثل سلطة عملها الأساسي هو التنسيق الأمني، وهو يعلم بأننا نعلم بأن كلمة تنسيق ليست دقيقة، إنها غطاء لكلمة أخرى هي التبعية الأمنية للاحتلال. فبدلاً من أن يخطب كان الأجدى به أن يأمر الأمن الفلسطيني بالتصدي للقوات الإسرائيلية التي قتلت إبراهيم النابلسي في نابلس القديمة، ثم قتلت وسيم نصر خليفة في مخيم بلاطة. لكنه بدلاً من أن يقوم بواجبه، انزلق إلى الفخ، وقال كلاماً طربت له آذان قتلة أطفال غزة، فتحول بني غانتس وزير الدفاع الإسرائيلي إلى واعظ، وطلب من الرئيس أن يسحب تصريحه، وهذا ما كان.
المسألة التي أثارها السيد عباس جدية وخطرة، فبقدر ما يكون الاستسلام كبيراً، بقدر ما يعلو الكلام ويذهب إلى اللامعنى، ويتحول إلى أداة للتعمية وتسجيل البطولات التي سرعان ما يتم التراجع عنها.
قد يكون السيد عباس قال ما قاله دون أن يعي دلالاته، وهذا هو المرجح، لكن عدم الوعي أو قصور المعرفة لا يبرران شيئاً، لأنهما جزء من الكارثة التي يعيشها العرب في مرحلة انحطاطها.
الكلام ليس لغواً، بل هو جزء رئيسي من الصراع، فمقاومة الاحتلال ومواجهة المشروع العنصري الكولونيالي الصهيوني، هي في جزء كبير منها مسألة صراع على اللغة والمفاهيم والسرديات والأخلاق.
الكلام عن الهولوكوست ليس لعبة لغوية كي يلهو بها السيد الرئيس، فالمحرقة النازية جريمة كبرى، ولا يستطيع أحد التعامل معها بخفة أو لا مبالاة. يجب فصل الموقف من هذه الجريمة عن الموقف من الصهيونية التي تستغلها. فالموقف الأخلاقي واحد لا يتجزأ، ولم يكن هناك من مبرر كي يهرب الرئيس الفلسطيني من الإجابة على سؤال عملية ميونيخ إلى الهولوكست. فالمقتلة التي حصلت في مطار ميونيخ يتحمل جزء كبير من مسؤوليتها البوليس الألماني، وهذه مسألة يجب التوقف عند حجبها بشكل متعمد من قبل الألمان والإسرائيليين. لبّ المسألة هو أن الفلسطينيين سكّوا التعبير الملائم لكارثتهم المستمرة: النكبة. كلمة نكبة تكفي ولا حاجة بهم إلى استعارة كلمات من قواميس أخرى.
كما أن حجم الحملة الصهيونية التي تشارك فيها أطراف أوروبية وأمريكية من أجل إدانة أي نقد للاحتلال باعتباره لا سامية، وتجريم المقاطعة، صار مخيفاً؛ لأن هدفها تغطية الاحتلال وحجب الوجود الفلسطيني.
المعركة هي مع الاحتلال، وهي تدور كل يوم في فلسطين، وكان الأجدر بالرئيس الفلسطيني أن يتواضع بحكم عجز سلطته وتواطئها، ويعتذر من الفلسطينيين أولاً، لأنه تركهم يقاومون وحدهم، بينما لا تزال السلطة تنتظر سلاماً صار سراباً.
عن القدس العربي