الهستيريا العشائرية تتجرّأ على السلطة السياسية!
صدم المجتمع الفلسطيني بمشهد غرائبي يضم عشرات الشباب في قطاع غزة وهم يحتفون بعيد الأضحى بذبح عجل. إنه مشهد يذكر بأفلام الرعب، أو الأفلام التي تجسّد الحياة البدائية، بطقوسها الوحشية، إذ لطخوا أيديهم ووجوههم بدماء ذبيحتهم، وباتوا يؤدون نوعاً من حركات راقصة حول الضحية، مع التناوب عليها بالطعن، وسط صرخات غير مفهومة. ويبدو هذا المشهد شبيهاً، بمعنى ما، بمشهد الأب الذي قتل ابنته (قبل أسبوعين في الأردن) وجلس على كرسي إلى جوار جثتها ليحتسي كوباً من الشاي وكأن شيئاً لم يكن.
لا تكمن المشكلة في أن الدعاية الإسرائيلية استغلت ما حصل أبشع استغلال، باعتباره يظهر الفلسطينيين كمتوحشين لا يمكن عقد سلام معهم، وأنهم غير مهيئين لحكم أنفسهم، وأنهم خارج المدنية، فالمشكلة الأكبر أن ذلك المشهد المريع وجد من يدافع عنه لدى عائلات الشباب، باعتباره مجرد طقس احتفالي عادي، ربما بالغ به الشباب بعض الشيء في ذروة حماستهم الاحتفالية. وربما ثمة من حاول أن يستغله (المخرج) لأغراضه الخاصة، بل إن البعض رفض أي نقد لهذا الطقس المؤذي باعتبار أنه لا يحق لأحد أن يلوم الضحية، أي الفلسطينيين، ولا سيما إسرائيل. ولعل الإيجابي في هذا الأمر أن أغلبية الفلسطينيين، كما ظهر من وسائل التواصل الاجتماعي، عبروا عن اشمئزازهم مما حصل، وعن إدانتهم ورفضهم إياه، من النواحي كلّها.
بيد أن العنصر الغائب في تلك القصة هو السلطة، وهي في هذه الحالة حركة “حماس”، التي لم يصدر عنها أي شيء بهذا الخصوص، كما لم يصدر أي شيء عن السلطة في الضفة، ولا عن “منظمة التحرير”، ولا عن الفصائل، فتكل التشكيلات، التي تدعي تمثيل الشعب الفلسطيني، وقيادته، غابت عن المشهد، بشكل كامل تقريباً.
عموماً، شهدنا مثل تلك الحالة، التي تنم عن تجرؤ على القيادة السياسية الفلسطينية، وتحدي السلطة في الضفة وغزة، في بيان العشائر (الصادر عن اجتماع الخليل أواخر العام الماضي) الرافض لتطبيق قانون اتفاقية “سيداو” (بشأن حظر كافة أشكال التمييز ضد المرأة)، والتي وقعتها السلطة الفلسطينية (قبل أعوام)، ما يعني أن العشائر تحاول فرض سلطتها بالتوازي أو فوق السلطة السياسية، علماً أن الاتفاقية المذكورة تؤكد حق المرأة في المساواة، في الحياة وفي العمل والتعليم والصحة والمشاركة السياسية وتقلد مواقع صنع القرار. علماً أن رفض تلك الاتفاقية يقوم على على عدم الالتزام بتحديد سن الزواج، ورفض أي إجراء يتيح المساواة القانونية للنساء، ومنع المنظمات الحقوقية من ).التعاطي مع شؤون المرأة (للتفاصيل تمكن مراجعة مقالة مصطفى إبراهيم في “درج” عبر النقر هنا
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد للأسف، فقد شهدت الأراضي الفلسطينية جرائم عنف كثيرة ذهبت ضحيتها نساء، والمشكلة أن بعضها ارتكب بشكل جماعي، من دون أن يلقى القائمون بها عقوبات توازي جريمتهم، بدعوى إسقاط الحق لأسباب عشائرية، أو لمصالحة عشائرية، أو لأسباب مخففة بداعي الشرف أو مراعاة العادات والتقاليد.
مثلاً، في أواخر شباط/ فبراير 2010، في محافظة بيت لحم، وقعت جريمة اغتصاب جماعي نفذها شبان، كانت ضحيتها سائحة أجنبية، كما اعتدوا بالضرب على المرشد السياحي الذي كان برفقتها وهو فلسطيني، إلا أن القصة اختزلت بالاعتداء على الشاب الفلسطيني، لأن عائلته انتصرت له، وتم طي الأمر من الجهات الشرطية المعنية بمجرد صلحة عشائرية. وتكرر ذلك في جريمة قتل إسراء غريب (في محافظة بيت لحم أيلول/ سبتمبر الماضي)، التي تم التعامل معها كقضية عائلية، في تغييب للشفافية، وحكم القانون. أيضاً ثمة حادثة عن قتل أب ابنته (غزة أيار/ مايو الماضي)، ودفن أب آخر ابنته وهي حية (غزة أواخر العام الماضي)، وكل ذلك وسط تكتم، ولا مبالاة من الوسط العائلي، وربما المعارف. وأيضاً في القضيتين تم حل الأمر تحت شعار تنازل “أولياء الدم”، كأنه يحق لأب أن يقتل ابنته، وأن يتنازل عن دمها للقاتل، في حين يضيع دم الضحية، وتنتصر الجريمة على العدالة، وقانون العشائر على قانون السلطة؛ في الضفة أو في غزة.
ثمة استنتاجات من العرض السابق، أهمها:
أولاً، الطابع الجمعي، العشائري والعائلي، لتلك الحوادث، الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا بتفشي العنف كظاهرة مرضية في المجتمع، وتلك لا يمكن إحالتها إلى عنف الاحتلال وحسب، فهي ناجمة، أيضاً، عن تحكيم العنف في العلاقات الداخلية، البينية، ويأتي ضمن ذلك تحكيم الغلبة بواسطة العنف في علاقات الفصائل مع بعضها، لا سيما “فتح” و”حماس”، أو تغليب علاقات العنف في علاقة السلطة بالمجتمع الفلسطيني (في الضفة وغزة)، فمعظم الحركات الشعبية، وبخاصة الشبابية يتم قمعها بالقوة، بالهراوة وبالاعتقال وبالتعذيب، في وضع يلحظ فيه تغول أجهزة الأمن، علماً أننا نتحدث عن سلطة تحت الاحتلال.
ثانياً، لا شك في أن تقديس العنف كشكل كفاحي في الصراع ضد إسرائيل، على رغم كلفته العالية وطول أمده، ومع عدم إخضاعه لحسابات الجدوى السياسية، أو الكلفة والمردود، أو المساءلة والمراجعة، أدى إلى انتقال عدواه إلى المجتمع الفلسطيني، والعلاقات البينية، الفردية والجمعية الفلسطينية، وما عرضناه هنا يأتي في هذا السياق.
ثالثاً، إن مجاملة الحركة الوطنية الفلسطينية بكافة مكوناتها (المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية) للبنى العشائرية، لا يصبّ في مصلحة تعزيز مكانتها، أو شرعيتها، كما تعتقد، فهو يشتغل بطريقة عكسية، إذ يقوّي العشائر عليها، في حين يضعضع مكانتها، والمعنى أن هذا الوضع يفترض بالحركة الوطنية الفلسطينية، أو ما تبقى منها، العمل على تقوية المجتمع المدني، لا إضعافه، وتنمية حس النقد عند الشباب بدل قمعه.
رابعاً، لقد وصل خطر نمو سلطة العشائر حد تجّرؤ بعض الشخصيات على إقامة مأدبة إفطار في الخليل، في رمضان الماضي دعي إليها عدد من أقطاب الاستيطان في الضفة الغربية يتقدمهم يوسي دغان، رئيس المجلس الإقليمي لمستوطنات “شومرون” في الضفة الغربية، أي أن ما يحصل في الإطار المدني له تبعاته في الإطار السياسي، وربما ذلك هو الأكثر خطورة، بخاصة في ظل سعي إسرائيل إلى استعادة الإدارة المدنية لدورها في الضفة الغربية، ومحاولتها إنشاء مراكز قوى جديدة لفرض إملاءاتها على القيادة الفلسطينية، في هذه المرحلة، سعياً لتمرير خطة الضم.
والحال، فإن تراجع مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية، إزاء العشائر، هو دلالة على تآكل مكانتها في المجتمع الفلسطيني في الداخل والخارج، تبعاً لتراجع دورها في المجتمع وفي الصراع ضد إسرائيل، وهو نتاج تهميشها “منظمة التحرير”، بعد تحولها إلى سلطة. السؤال الآن، كيف بإمكان الفلسطينيين تدارك هذه الحالة أو تدارك المخاطر الناجمة عنها على الأصعدة كافة؟
(المصدر: درج)