النموذج والمثال: بين الموسيقى والسياسة (Type and token: between music and politics)
١
حين نتحدث عن العمل الموسيقي أو نتذوقه، علينا التمييز بين العمل الفني النموذج، المعبر عنه في “النوتة” المكتوبة، وبين الأداء الموسيقي. فالأداء هو مثال على العمل الفني النموذج. وكما نعرف جيدًا، تتنوع الأمثلة/ الأداءات بتنوع قادة الفرق العازفة. كما ونعرف أيضاً، فإن الأداء/ المثال ينطوي على تفسير للعمل الفني النموذج. وقد يكون التفسير بائساً، كما قد يكون مبدعاً، كما قد يكون جامحًا.
وبالمقارنة، حين نتناول ونقيم حل الدولتين للصراع الفلسطيني/ الصهيوني، علينا التمييز بين الحل النموذج، والمعبر عنه بحل الدولتين المتجاورتين بأمن وسلام -وهو المعادل الموضوعي للنوتة في حالة العمل الموسيقي-وبين الأمثلة/ الخطط المتنوعة باختلاف مهندسيها ومقرريها عبر الزمن. وكل خطة هي مثال ينطوي على تفسير لحل الدولتين النموذج. وقد يكون التفسير بائساً، كما قد يكون مبدعاً، كما قد يكون جامحاً. والأمثلة/ الخطط كثيرة ومتنوعة: من قرار التقسيم عام ١٩٤٧وحتى صفقة القرن عام ٢٠٢٠، مروراً بالمبادرة العربية لعام ٢٠٠٢ وقرار مجلس الأمن الدولي رقم ٢٣٣٤ لعام ٢٠١٦ وغيرها. وما ينطبق على حل الدولتين، من حيث العلاقة بين النموذج والمثال والتفسير، ينطبق أيضاً على حل الدولة الواحدة.
وكما نسأل أو نتحاور، ونختلف أحياناً، حول الأداء الموسيقي الأفضل، هكذا نسأل أو نتحاور، ونختلف أحياناً، حول مثال/ خطة حل الدولتين أو مثال/ خطة حل الدولة الواحدة الأفضل. علماً بأن الأفضل في الحالة الأولى يعني الأمتع والأكثر إثارة أو إبداعاً، بينما يعني في الحالة الثانية الأكثر إنصافاً أو الأقل ظلماً أو كلفة. غني عن القول في هذا الصدد، بأن معايير التقييم في الحالة الأولى فنية/ جمالية، بينما في الحالة الثانية سياسية/ أخلاقية (وبالتالي، أكثر جدية وصرامة).
أما في مجال فن النحت، مثلًا، وخلافاً للموسيقى أو الرقص أو الغناء أو المسرح، فالعمل الفني النموذج ( التمثال) يبقى يتيماً، أي بدون أي مثال آخر. فالتمثال عمل فني يكون فيه النموذج هو المثال.
٢
ليس صحيحاً ما يقوله ويردده الكثيرون هذه الأيام بأن حل الدولتين قد هوى ومات. ما هوى ومات حقاً هو مثال، أو هي أمثلة أو خطط، على حل الدولتين النموذج. لقد هوى ومات حقاً مثال حل الدولتين الذي تعلل وتغنى به الطرف الفلسطيني المفاوض طويلاً، تماماً كما هوى ومات قبله مثال حل الدولتين حسب قرار التقسيم لعام ١٩٤٧. ومثال حل الدولتين حسب “صفقة القرن” أو، على الأصح، “صفقة نتنياهو ترامب”، لم يعش طويلاً، إن لم يكن قد ولد ميتاً. لكن حل الدولتين النموذج ما زال حياً وما زال يتناسل! والمبادرات التي تروج مؤخرا، مثل مبادرة “دولتان، وطن واحد”، ومبادرات الكونفدرالية الأخرى، خير دليل على ذلك. فحل الدولتين بهذا المعني أقرب إلى العمل الموسيقي النموذج متعدد الأداءات/ الأمثلة منه الى عمل النحت النموذج وحيد المثال. وفي اعتقادي، فإن حل الدولتين، بهذا المثال أو ذاك، سوف يستمر في التحليق في سماء فلسطين/ إسرائيل للمستقبل المنظور. ولكن التحليق لا يعني أن الحل وشيك أو أكيد، وإن كان يعني أنه سيظل “اللعبة الوحيدة في المدينة” (كما يقال) للمستقبل المنظور.
حل الدولتين النموذج سوف يستمر في التحليق في سماء فلسطين/ إسرائيل للمستقبل المنظور للأسباب الرئيسة المتداخلة التالية:
ا. أن نماذج الحلول البديلة إما مرفوضة مبدئياً أو بعيدة المنال. فنموذج حل الدولة الواحدة التي تساوي في الحقوق الفردية والوطنية بين المواطنين ما زال، كما كان، حلماً بعيد المنال. ونظام حكم التفوق العرقي والاحتلال الحربي والأبرتهايد الزاحف من النهر إلى البحر مرفوض من حيث المبدأ، من قبل ضحاياه الفلسطينيين كما من قبل دول العالم الأوسع.
ب. أن الدول المؤثرة والمقررة في العالم، على اختلاف تحالفاتها وأسمائها وتشكيلاتها وصراعاتها، ومنذ عام ٤٧ (وربما قبل ذلك) وحتى أيامنا هذه، معنية بقيام ودعم استمرار دولة لليهود، بهذه المواصفات أو تلك، على الأقل في جزء من فلسطين التاريخية/الانتدابية.
ج. ليس بمقدور الفلسطينيين وحلفائهم هزيمة الصهيونية، ودولة إسرائيل درة تاجها، ليس فقط بسبب قوة وبأس الخصم، وإنما أيضاً (والأهم) لأن الدول المؤثرة في العالم الأوسع لا تسمح بذلك. أقصى ما يستطيعه الفلسطينيون وحلفاؤهم، وفي الظروف المواتية، هو تحجيم أو”تقليم أظافر” الصهيونية. اما هزيمة إسرائيل من الداخل، كنتيجة لتناقضات داخلية، فلا تلوح في الأفق.
د. أن قرارات الشرعية الدولية كلها تؤكد على حل الدولتين النموذج. كما أن التوازن الديموغرافي بين الفلسطينيين العرب والإسرائيليين اليهود غرب النهر وشرق البحر يدفع بهذا الاتجاه.
إذا كان ما ورد في ا-د أعلاه صحيحاً (وأعتقد ذلك)، فإن السؤال الذي يظل “يقرع جدران الخزان” هو التالي: ما هو مثال حل الدولتين النموذج، المنصف (لا أقول العادل) والقابل للمنال في الظروف المواتية، والمتساوق مع قرارات الشرعية الدولية على حد سواء؟ قبل الإجابة على هذا السؤال الكبير، علينا التوقف قليلاً لتحديد المقصود هنا بالحل المنصف والقابل للمنال في الظروف المواتية. وفي ظني، فإن الحل المنصف هو ذلك الحل الذي يقوم أساساً على مبدأ المساواة في الحقوق الفردية والوطنية بين الفلسطينيين (يشمل اللاجئين) والإسرائيليين اليهود. أما القابلية للمنال في الظروف المواتية فتتطلب توفر ثلاثة عوامل مترابطة ومتداخلة هي التالية: الضغط الدولي بالقدر اللازم أو الكافي، التحول في المجتمع اليهودي في إسرائيل باتجاه المصالحة مع الفلسطينيين، والنضال الفلسطيني الجدي والمؤثر.
بناء على كل ما تقدم، هناك ما يعزز الاعتقاد لدي بأن مثال حل الدولتين النموذج، المنصف والقابل للتحقيق في الظروف المواتية كما تحددت في الفقرة أعلاه، هو شكل من أشكال الكونفدرالية، أي شكل دولتين متجاورتين بأمن وسلام، ومتشاركتين في تلك الأمور التي يتعذر أولا يجدر تقسيمها (وعلى رأسها مدينة القدس، شرقها وغربها). وإذا كان الأمر كذلك، فليس صدفة، إذن، أن مبادرات الكونفدرالية (ومن ضمنها مبادرة “دولتان، وطن واحد” والتي أناصرها) قد بدأت بالرواج في الآونة الأخيرة. لقد تبين جليًا للعيان والأذهان عقم وسقم الأمثلة الأخرى لحل الدولتين النموذج، في حين أن امثلة حل الدولة الواحدة النموذج ما زالت، كما كانت، حلمًا، أو مثلًا أعلى، بعيد المنال. جدير ذكره، أخيرًا، أن مبادرة مثل “دولتان، وطن واحد”، كما مبادرات كونفدرالية واعدة أخرى، تقدم حلًا جديدًا وخلاقًا للقضايا الأساسية، الشائكة والعالقة، مثل القدس واللاجئين والاستيطان والدولة والحدود. ومن فضيلتها الإضافية أنها لا تسد الطريق في وجه حل الدولة الديموقراطية الواحدة من هذا النوع أو ذاك، وإن لم تكن أسيرة لهذا الحلم/ الهدف النهائي. وختامًا، لا تسارعوا في نعي حل الدولتين. ما هوى ومات هو مثال أو أكثر على حل الدولتين النموذج، متعدد ومتجدد الأمثلة. فحل الدولتين، كما بينت، ليس كالتمثال يتيم المثال.
سعيد زيداني
أستاذ الفلسفة في جامعة القدس وجامعة بير زيت سابقًا
1 thought on “النموذج والمثال: بين الموسيقى والسياسة (Type and token: between music and politics)”