النظام السياسي الفلسطيني وإسقاطات “حرب غزة”
إن تكليف دكتور محمد مصطفى رئيس صندوق الاستثمار الفلسطيني بتشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة، يشكل أحد تداعيات الحرب في غزة على القضية الفلسطينية وعموم ما يتعلق بها محليا ودوليا، ولكنه بدل أن يكون حدثا يستأنف على ما يحدث للشعب الفلسطيني ليشكل نقطة انطلاق لوضع حد للمعاناة الفلسطينية، فإن هذا التكليف يشير إلى أزمة النظام السياسي الفلسطيني وابتعاده عن الحالة الفلسطينية وتمثيلها، داخليا وخارجيا.
ومع أن إسقاطات حرب غزة على القضية الفلسطينية هائلة، ولا يمكن البدء في فهمها إلا بعد نهاية الحرب وإخضاع التطورات التي حصلت خلالها للبحث والتحليل. لكن من المؤكد أن الحرب أكدت أنه لا شيء ثابت في حياة الفلسطينيين، وأن كل شيء متحرك وقابل للتغيير، بما في ذلك النظام السياسي “المزدوج” الذي نتج بعد إقامة السلطة الوطنية تدريجيا ليفرز نظاما سياسيا مركبا من تراث منظمة التحرير الفلسطينية في الحكم وإدارة شؤون الفلسطينيين، بالإضافة للنظام السياسي المعني بإدارة السلطة حسب الاتفاقات بين منظمة التحرير وإسرائيل.
هذا النظام تطور تدريجيا ليثبت أن الوضع الفلسطيني الذي يرتكز على عدم الاستقرار في كل المجالات له تداعيات أساسية على النظام السياسي الفلسطيني، بحيث عانى هذا النظام من تطور وتغييرات مستمرة هي نتاج التغييرات السياسية والشخصية والحزبية، وليست نتيجة لتفكير استراتيجي في نوعية النظام السياسي الذي يحكم أو سوف يحكم الفلسطينيين عند إتمام بناء دولتهم. وإجمالا فإن دالة التغيير هي للأسوأ بحيث أثرت الحرب في غزة من حيث النظام السياسي الفلسطيني عمليا في ثلاثة مجالات جعلته أقل استقرارا، وأقل تمثيلا، وأقل قدرة على التعامل مع التطورات الكبيرة التي أحدثتها الحرب في غزة.
الرئيس محمود عباس يتصرف بالنظام السياسي بشكل مزاجي وبناء على ما يراه هو
أولا، بينما طالبت الفصائل والأحزاب ونشطاء المجتمع المدني والأكاديميون بضرورة التزام النظام السياسي بالمواد ذات العلاقة في القانون الفلسطيني الأساسي وبالتغييرات البنيوية التي حصلت من خلال توافق وطني، على الأقل حتى حدوث الانقسام عام 2007، فإن الرئيس محمود عباس يتصرف في هذا الشأن بشكل مزاجي وبناء على ما يراه هو من غير أي التزام بالقانون الأساس ولا بالتغييرات البنيوية التي حصلت بناء على تطورات استراتيجية، ويتجه نحو التصرف غير آبه بأي حالة من الاستقرار، وأعني بالنسبة للحكومة أو لباقي مركبات النظام السياسي.
على سبيل المثال قام عباس في يونيو/حزيران 2007 بإقالة رئيس الوزراء إسماعيل هنية وإعلان حالة طوارئ في أراضي السلطة الفلسطينية وتشكيل حكومة جديدة لتنفيذ حالة الطوارئ، وهو ما أدى إلى إعلان “حماس” سيطرتها على قطاع غزة وبالتالي بداية مرحلة الانقسام الفلسطيني وتداعياته الكارثية على الشأن الفلسطيني.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2018 أعلن عباس عن حل المجلس التشريعي نهائيا بعد تجميد عمله لسنوات وتفرده بالسلطة، مبررا ذلك بقرار من المحكمة الدستورية التي كان قد شكلها مسبقا لكي تعطيه إسنادا لمثل هذا القرار.
وفي أبريل/ نيسان 2021 قام عباس بتأجيل الانتخابات التشريعية والرئاسية التي كانت مقررة في مايو/أيار، ويوليو/تموز من العام نفسه، وقد قام بإلغائها وسط تذمر الفصائل ونشطاء المجتمع المدني وعموم الفلسطينيين، مبررا ذلك بأن إسرائيل لن تسمح للمقدسيين بالمشاركة في الانتخابات، وعمليا قام بالخطوة لخشيته من أن يخسر فصيله “فتح” الانتخابات وربما يخسر هو الانتخابات مقابل الأسير الفلسطيني مروان البرغوثي الذي أعلن نيته خوض الانتخابات من سجنه.
استطلاعات الرأي العام الفلسطيني تفيد كثيرا في فهم مدى انقطاع عباس عن الإرادة الشعبية
وفي العاشر من أغسطس/آب 2023، أقال عباس 12 من أصل 16 محافظا فلسطينيا، وعمليا قام بعملية إقصاء كبيرة بغير علم المعنيين بنيته تلك، وأخيرا قام عباس بقبول استقالة حكومة محمد اشتيه وعمليا بتنفيذ رغبته في ذلك وتكليف محمد مصطفى، رئيس صندوق الاستثمار الفلسطيني بتشكيل حكومة جديدة، بشكل مخالف لكل التوقعات من الذهاب إلى حكومة بتوافق وطني واسع لتشكل نوعا من التعامل مع تحديات وآثار الحرب في غزة، لكن عموم التوقعات كانت في واد وتصرفات محمود عباس في واد آخر.
ثانيا، النزوع العام لـ”النظام السياسي الفلسطيني” هو التخلي عن الإرادة الشعبية والتمثيل من خلال الانتخابات أو التوافق الوطني والتوجه نحو حكم فردي، مقطوع عن الإرادة الشعبية ومختلف مع عموم الفصائل، بما في ذلك مع قوى مركزية في حزب السلطة/حركة فتح. فالانتخابات الرئاسية الأخيرة جرت قبل نحو عشرين عاما، ومنذ ذلك الحين يعمق عباس سيطرته بتفرد على رأس النظام السياسي ويركز بيديه كل السلطات ويرفض أية شراكة وطنية جدية في منظمة التحرير ولا في الحكومة، وبالأساس يرفض إجراء انتخابات عامة ويعمل بشكل منقطع عن أية شراكة مع الفصائل والأحزاب، بما في ذلك مع حركة “فتح” نفسها، كما باقي الفصائل، وحتى تطورات الوضع في غزة لم تؤد به إلى تغيير في هذا النهج، بل استمرار التنكر لدعوات إعلان انتخابات أو إشراك كل الفصائل، على الأقل الرئيسة في ترتيبات إقامة الحكومة الجديدة.
رئيس الوزراء السابق محمد اشتية (إلى اليسار) يقدم استقالة حكومته إلى محمود عباس، في رام الله في 26 فبراير2024
وفي هذا السياق، من المفيد الإشارة إلى أن استطلاعات الرأي العام الفلسطيني تفيد كثيرا في فهم مدى انقطاع عباس عن الإرادة الشعبية، وفي انقطاع حكمه وقراراته عن الإرادة الشعبية. وحسب استطلاع “الباروميتر العربي” من ديسمبر 2023 فإن مكانة السلطة الفلسطينية في حالة تراجع بين الفلسطينيين، كما أن شعبية عباس التي وصلت إلى درجة متدنية في أكتوبر/تشرين الأول 2013 بحيث وصلت إلى 14 في المئة من التأييد في أراضي السلطة الفلسطينية، قد استمرت في التدني ووصلت في ديسمبر 2023 إلى 7 في المئة فقط من التأييد، وقد تم التعبير عن ذلك بارتفاع نسبة مطالبي عباس بالتنحي من 78 في المئة في أكتوبر إلى 88 في المئة في ديسمبر. والباروميتر العربي هو شبكة مؤسسات بحثية مرموقة، بشراكة المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله، وتقوم بإجراء مسوح رأي عام معتمدة في العالم العربي.
ثالثا، بينما يتفاقم الوضع في غزة نتيجة للعدوان الإسرائيلي، فإن السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير وعموم النظام الفلسطيني الرسمي فشل في إبداء أية درجة، ولو بسيطة، من التعامل مع التحديات المطلوبة، وفي كافة المستويات. فبينما قامت دول في أميركا الجنوبية وأفريقيا، وخصوصا دولة جنوب أفريقيا، باتخاذ خطوات جدية للضغط على إسرائيل وإرغامها على وقف الحرب والقتل والهدم والتهجير، فإن السلطة الفلسطينية ما زالت تنسق مع إسرائيل وعلى كل المستويات، كما قامت بقمع مظاهر التضامن مع غزة، ولم تقدم أي دعم جدي يتعامل مع مستوى وفظاعة الأوضاع في قطاع غزة.
كان، وما زال، بإمكان النظام الفلسطيني القيام بالكثير من أجل الضغط لوقف الحرب والتقليل من معاناة الغزيين، إلا أن عباس والنظام الفلسطيني تحته فضّلا عدم القيام بذلك، ربما هناك توقعات بأن تسمح إسرائيل له وللسلطة عموما بدور بعد انتهاء الحرب. باختصار إن عجزا كاملا في التعامل مع الأحداث، وحتى انتظار “انتصار إسرائيل” يسمح لعباس ولسلطته بأخذ دور بعد انتهاء الحرب في ترتيبات وضع غزة، أو ربما عموم الضفة والقدس كذلك.
كان، وما زال، بإمكان النظام الفلسطيني القيام بالكثير من أجل الضغط لوقف الحرب والتقليل من معاناة الغزيين
بالنتيجة، النظام السياسي الفلسطيني تغير تدريجيا من مرحلة ما قبل اتفاقات أوسلو وسيطرة ياسر عرفات على القرار السياسي بشكل مثّل تطلعاته ورؤيته الشخصية أكثر من الاحتكام إلى نظام موجه ومؤسس، إلى مرحلة إقامة السلطة وتطور “النظام المزدوج” الذي نتج عن رؤية عرفات المتأثرة باتفاقات السلام وإقامة السلطة الوطنية حسب الاتفاقات آنذاك.
وقد حدثت تعقيدات في النظام الذي استحدثه وقاده ياسر عرفات عام 2003، عندما أجبر بضغط إسرائيلي وأميركي وأوروبي على استحداث منصب رئاسة الوزراء، بحيث تقلد الرئيس الفلسطيني الحالي، محمود عباس منصب رئاسة الوزراء. وكان الهدف التقليل من تركيز القرار السياسي الفلسطيني في يد عرفات ونقل جزء منه لرئيس الوزراء، مما أحدث نوعا من النزاع أو الاحتكاك بين المنصبين، قاد إلى إقالة محمود عباس، وبالتالي فإن القرار السياسي بقي مركزيا بين يدي الرئيس عرفات.
بعد وفاة عرفات عام 2004 وصل محمود عباس إلى رئاسة اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير ورئاسة السلطة الفلسطينية، وورث عن عرفات تركيز السلطة في يديه، حتى إنه أقدم بعد انفصال “حماس” عمليا في قيادة قطاع غزة عام 2007، على حل المجلس التشريعي والسيطرة الكاملة على مركبات اتخاذ القرار بما في ذلك تعيين رئيس الوزراء والحكومة، والسيطرة على الجهاز القضائي وتركيز القرارات بشكل كامل في يديه، وخصوصا في مسائل العلاقات الخارجية والأمن وبالتالي ترك مهمة إدارة نتائج قراراته على الحكومة ووزرائها، مع التأكيد على أن عباس شخصيا هو المرجعية لأي قرار أو تطور مركزي.
وهكذا فإن “النظام السياسي” بقي رهن رغبات الرئيس عباس أو ما يراه هو في مصلحة الفلسطينيين، وبقيت الحكومة غير قادرة على شيء جدي إلا بعد الرجوع للرئيس. ومما عقد النظام السياسي الفلسطيني، تراجع منظمة التحرير الفلسطينية- وهي رسميا مرجعية السلطة- وافتقادها لأي دور وتبعيتها بشكل تام إلى رغبات الرئيس. بحيث إنها فقدت ما تبقى بعد عرفات من مكانة سياسية ورمزية في تمثيل عموم الفلسطينيين، وعمليا توقفت عن النشاط بشكل مختلف عن السلطة الفلسطينية ودورها، وكلاهما في ظل تهميش من قبل الرئيس محمود عباس.
بالنسبة للرئيس الفلسطيني، فإن الحرب في غزة هي مناسبة أخرى لتركيز أكبر للقرار السياسي في يديه
بالنسبة للرئيس الفلسطيني، فإن الحرب في غزة هي مناسبة أخرى لتركيز أكبر للقرار السياسي في يديه وتهميش أكبر للإرادة الشعبية ولعموم الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك حزبه، حركة “فتح”. فقد أثارت استقالة محمد اشتية في مارس/آذار الأخير (2024) وتقلد محمد مصطفي لمنصب رئاسة الوزراء وتشكيل حكومة جديدة، أثارت النقاش حول جدوى وجود حكومة لا يوجد تأثير جدي لها في حياة الفلسطينيين، في ظل استمرار سيطرة الرئيس محمود عباس ومكتبه على القرار السياسي الفلسطيني، فقد أكد شكل ومضمون تشكيل الحكومة أن عباس مستمر في تركيز القرار السياسي في يديه وتجاهله لمنظمة التحرير ومكانها، وللفصائل الفلسطينية ودورها، ولعموم المبنى الرسمي للنظام السياسي الفلسطيني كما تم وضعه في الدستور السياسي للسلطة الفلسطينية، وحتى تجاهله ورفضه لأي توجه لتوزيع القوة وخلق أي حالة من التوازن بين السلطات الفلسطينية على أشكالها، وكل ذلك في ضوء انتهاء مدة حكمه الرسمية ورفضه إجراء انتخابات عامة في الضفة والقطاع أو على المستوى الفلسطيني العام.
النظام الفلسطيني “المزدوج”، الذي يدمج بين تراث منظمة التحرير الفلسطينية ونتائج اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية، ويعاني من نواقص عدة، أصبح في ظل الانقسام الفلسطيني مركزا بين يدي الرئيس بشكل تام، وهو ما تفاقم خلال الحرب في غزة، بحيث عمق محمود عباس سيطرته على الحكومة ومنظمة التحرير وأفقدهما أي دور جدي كان من الممكن أن يتفاعل مع تطورات الحرب وربما القيام بفعل شيء لمواجهة تداعيات الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة.
أ.ف.بالرئيس الأميريكي الأس بيل كلينتون يقف بين ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين وهما يتصافحان للمرة الأولى في 13 سبتمبر 1993 في البيت الأبيض
ما أعنيه هنا أن الحرب وتداعياتها بدل أن تشكل نقطة إعادة اعتبار للنظام السياسي الفلسطيني ولمنظمة التحرير وللحكومة وأدوارهم، فإنها فاقمت الوضع وأخضعت الفلسطينيين أكثر من ذي قبل لسيطرة الرئيس عباس ولتفرده، مما يضعف الفلسطينيين داخليا وخارجيا ويفقدهم أي قدره على دور فعال في مواجهة التبعات الكارثية للحرب في غزة ولتطورات أوضاع الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس، كما لباقي الفلسطينيين.
بالنتيجة، إن النظام السياسي الفلسطيني هو تجميع لتطورات بنيوية وسياسية جوهرية في شكل التحكم بالفلسطينيين، في الضفة وغزة، كما باقي الفلسطينيين، وبأشكال مختلفة، ولم يكن مبنيا على رؤية استراتيجية لنوع النظام السياسي الذي يتعامل مع وضع الفلسطينيين ويعالج احتياجاتهم الداخلية والخارجية.
هذا الشكل من التطور غير الملتزم بنظام سياسي مبني على أساس منهجي، هو ما سمح للرئيس الفلسطيني، بالتصرف من غير قواعد ناظمة للعمل السياسي، ومن غير إطار مرجعي تتطلع الفصائل والمجتمع المدني وعموم المهتمين للحفاظ عليه وتقويته في ظل وضع فلسطيني مائع ومائل إلى السيولة والتغيير بحسب الأوضاع الداخلية والضغوط الخارجية الآتية من إسرائيل أو من دول عربية وغربية متداخلة، في محاولة الوصول إلى استقرار فلسطيني واستقلال سياسي معقول.
وبهذا فإن النظام السياسي الفلسطيني هو في مسار متطور، غير مكتمل، لكنه بالأساس يتطور حسب ميول شخصية ورؤى فردية بغير انضباط مؤسساتي ولا تقييد بنظام واضح، مما يفقد الأحزاب والنشطاء القدرة على الضغط لالتزام قيادة السلطة بنظام سياسي معقول. وتصبح مهمة ضبط تصرف الرئيس مسألة غير قابلة للإنجاز.
عن المجلة
ركز المقال على وصف مسار النظام السياسي الفلسطيني واعتباره نظاما فرديا وهو ما يتفق عليه معظم المراقبين ولكن لم تفسر المقاله أسباب هذا المرض العضال ، امر مهم ان تعرف انك مصاب بمرض ما ولكن الأهم ان تعرف الاسباب وبالتالي الدواء اللازم. لماذا تم إقصاء منظمه التحرير الممثل الوحيد ؟! لماذا تم الغاء اجراء الانتخابات على كافه الاصعده الرءاسه والمجلس التشريعي وغيرها ؟! ماذا عن باقي فصاءل منظمه التحرير التي اصبحت هياكل لا وجود فعال لها ؟ ماذا عن الفساد وانتشاره ؟ لماذا لم تستطع المنظمه استعاب حماس والجهاد لتشكيل قياده فلسطينيه موحده ؟ ما دور الاحتلال وامريكا وبعض الدول العربيه والاقليميه في تعزيز الفرديه والفساد والتبعثر التنظيمي لكافه القوى الفلسطينيه ؟ واخيراً ما هو الحل للخروج من هذه المشكله ؟