المطلوب استمرارية الحضور في حرب الأمكنة.. فلسنا في معركة كسر العظام بعد!
الحضور في الأمكنة: الشوارع والساحات والأحياء في الفضاء الفلسطيني ما زال يتدحرج، ولكنه لم يتبلور بعد كما يجب، والمتتبع يستطيع إدراك أهمية التدفق إلى الشوارع والأمكنة في بلورة وتصليب المواقف والخطاب والأدوات المستخدمة في التعبيرات الاحتجاجية للنضال الفلسطيني في المشهد المقدسي الذي أصبح فلسطيني بامتياز، فحضور الاشتباك في الأمكنة العامة يشحذ العقل كما العاطفة والوعي الوطني، لمزيد من إندماج الأفراد للاتصال بكل ما هو جمعي ووطني، وإن لم يكن ايدلوجياً بعد، ولكنه أصبح ثقافة اشتباك وتحدي بمرجعية شعبية وجماهيرية شبابية في توجيه الطاقات في الجسد الجمعي الفلسطيني، وعليه أقوم فيما سيأتي باستعراض ما حدث في الأيام القليلة المنفرطة، بعجالة:
لقد سمعنا صوت الحناجر في الناصرة بمسيرة، تقول: “من الناصرة للجراح…وحدتنا وحدة كفاح” وهتاف صبية مقدسية وسط الحضور من الشبان في حي الشيخ جراح تقول: ” علي وسمع كل الأرض… حب الوطن سنة وفرض… والأقصى بنادي حبي الوطن عبادة” وفي باحات الأقصى “علي علي الصوت… اللي بهتف مش راح يموت… ووحدة وحدة وطنية” إلى اشكال الحضور في التورية والجكارة “يرفع شاب علم فلسطين على سيارة شرطة “اسرائيلية كانت قد منعت تدفق فلسطينيو 48 للحضور الى المسجد الأقصى، وآخر يعلق راية حماس على جيب جنود “اسرائيليين” بنفس الموقع”، وفي موقع آخر يذهلك مشهد لطفل كسر عتبات الخوف في المواجهة، يخرج من بين حشد لجنود الاستعمار المتواجدون على باب العامود بتاريخ 7/5/2021، وبعدما يتعدى الحاجز الحديدي بمترين يقوم بضرب الجندي بقنينة ماء في وجهه، ويهم بالركض” ومشاهد أخرى تشير بأن حرب الأمكنة واستعادتها رمزياً بتكثيف الحضور باشكالها المتنوعة حاصلة، وقد أصبحت شبه عقيدة، ينتظم الأداء والسلوك حسب المواقع وموازين القوى اللحظية، وقراءة اللحظات الحاسمة للهجوم، أو للاشتباك، أو الدفاع، التجمع أو التبعثر من أجل عودة أخرى.
في سياق آخر متصل، يلخص المشاهد في موقع واحد، باحات المسجد الأقصى، بدأت أحداثها بتاريخ 7/5/2021، حينما قام مجموعة من الجنود باستفزاز مجموعة من الفتية وأطفال على باب السلسلة، بدأت تتدحرج بحضور مجموعة من الشباب والاحتكاك المباشر مع الجنود، قادت إلى انفجار الموقف حينما بدأ الجنود بإطلاق النيران وقنابل الغاز على المناطق العلوية لأجساد الفلسطينين، خصوصاً في منطقة الرأس، لتتحول ساحات المسجد الأقصى إلى معركة في رد الشبان بضرب الحجارة أو كل شي متحرك يمكن حمله والقاءه على الجنود انتهاءاً بالكراسي والأحذية وقناني المياه…الخ لمنع الجنود من اقتحام الساحات، -الأمر الذي حدث بالفعل-.
لقد تحولت إلى ساحات مواجهة وتكثيف لعدد هائل من جنود وحدات “اليمام” من “الجنود الاسرائيليين كوحدة مكافحة للمظاهرات الفلسطينية”، رغم كل ذلك كان مشهداً شبهته صبية-وهي غير متدينة- كانت حاضرة بالقرب من الساحات بغزوة أحد-بتشبيهها سيادة الشباب على الموقف في البدء، وتراجعهم بعد اقتحام الساحات بعدد كبير من الجنود-، وتفصح عن شعورها من الخوف والرهبة، لم تستطع التخلص منه، كما هو حال مئات من النسوة والأطفال المرعوبين في الساحات، فليس بمقدور الجميع التخفيف من الخوف والتوتر عبر الاشتباك، وفي وصف الحدث : نساء وأطفال اكتنفها الخوف والرهبة، وأخريات يقدمن الحجارة للشبان، وشيخ جليل يقول : “لا إله إلا الله، حسبي الله ونعمة الوكيل”، وشيخ آخر ينادي على الشبان المشتبكون والجنود لإجراء هدنة وتهدئة الأمور عبر سماعات المسجد، ومجموعة أخرى تستمر في أداء الصلاء والابتهالات الدينية وسط قنابل الغاز وقنابل الصوت والجنود في مشهد يستدعي الخشوع حتى بين طلقاتهم، وآخرين مستمرون في الاشتباك، حتى بدأت الأمور بالهدوء مجدداً، وعودتها مجدداً في اليوم الثاني بصورة اعنف بتاريخ 8/5/2021.
طارق شاب آخر، من النشيطين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يقيم الأمور على الساعة الثانية صباحاً، -واعتقد انه يتحدث بأصوات أخرى كانت متواجدة في الساحات، والتي تقول يجب تفويت الفرصة على الاستعمار للتنغيص على المصلين واعطائهم مبرر لإقتحام المسجد الاقصى وفرض سياسة لمنع التواجد فيه، ويلخص حديثه في المنشور يقول أن بعد الاحداث؛ انتشار مكثف للجنود وأجواء من الخوف وخلو الحارات والشوارع من التواجد والحضور الفلسطيني في كل الطرق والأزقة داخل البلدة العتيقة بالقدس، ومحيطها، وإنه لا يجب أن يقوم الشبان بالاشتباك مع الجنود، بنفس السياق تضيف لي صبية في العشرينيات بقولها: ” بهذه الايام خصوصاً الأهل اللي عندهم اطفال صاروا خايفين يحضروا على الأقصى من اللي بشوفوه… حتى تفكير بطلت أفكر أجي على الأقصى من اللي بصير”.
انتهى الوصف السردي لحضور الأمكنة، ولم يكن بقصدي الإطالة سوى لوضع القارىء بصورة الأحداث الكلية التي تجري ميدانياً، لاستخلاص دروس وعبر من خبرة الشبان الميدانية في الاشتباك حتى لا تعد كتابتي جزءاً من التنظير، بقدر ما هي محاولة من التأطير الكلي “لحرب الأمكنة” كمصطلح رديف لحرب الشوارع/ الغوار، ولكن المصطلح الأخير كما نعلم، لا يصلح لعدم قدرته على الوصف المنهجي والعلمي لما يجري في السياق الفلسطيني، وإن الاشتباكات والاحتجاجات لم تصل لهكذا مستوى من الاشتباك.
في التأطير المعرفي للحضور الفلسطيني؛ ما زالت تدور أحداثه وتداعياته حول واقعة باب العامود والانتصار المعنوي/الرمزي للشبان المقدسيين، وحالة انكسار هيبة وصورة جنود الاستعمار ووحداته المتنوعة والمتخصصة في قمع الفلسطينيين، ويبرهن الواقع سلسلة كبيرة من الإخفاقات والهزائم المتلاحقة في المؤسسة الأمنية لأجهزة الاستعمار ومنظمة “الأمن القومي-الملل-، والغير قادرة على السيطرة على أشكال الحضور وفنه وأنواعه في الأمكنة الفلسطينية، وخصوصاً الاستراتيجية منها كما هو حال باب العامود لأهميته كواجهة للبيت الفلسطيني وحضوره وعتبة منزله، ومدخل إلى كل الأمكنة والخيارات، وسيكون مدخلاً مهما للاحتذاء به بما يخطط له في حي الشيخ جراح الذي يختبر قمع متزايد بتزامن مع عزل الحي عن محيطه، ولهذا تعد واقعة باب العامود وتثبيت الانتصار فيها مدخلاً للصمود في الشيخ جراح كمعركة فاصلة أو في مواقع وأماكن أخرى.
وعليه، نفهم ويفهم الحضور الفلسطيني أن: سياسات تلقين الفلسطيني الدرس “بإفراط العنف والقوة المفرطة” في نفس الموقع، أو من حيث القمع وإغلاق الشوارع المؤدية إلى حي الشيخ جراح لايقاف الفلسطينيين من التدفق للوقوف أمام سياسة الاستيلاء على المنازل وتهويدها، أو في حالة اجتياح ساحات المسجد الأقصى وترويع الحضور، أو في محاولة لمنع تدفق فلسطينيو 48 للحضور والزحف الى المسجد الأقصى في الأيام الرمضانية لإحياء الشعائر الدينية، سيكون الفشل مصيرها، وكأن الاستعمار لا يعلم أن القوة والقمع الزائد، ما هو إلا شحنة أخرى تبلور الوعي وتشحذ الهمم للتحدي والصمود وليس العكس.
فالحضور في اليوم التالي للأشتباكات في ساحات المسجد الأقصى حسب معاينتي كانت الأكثر والأكبر حضوراً مما سبق، ومن جميع الأمكنة من الضفة الغربية تدفقوا عبر السياج الأمني والجدر العنصرية، وفلسطينيو 48 والقدس ومحيطها ليكونوا جزءا من المشهد والحدث، وليلقن الاستعمار درساً آخر في الاصرار والتحدي و”الجدعنة” في تأكيد فلسطينية الأماكن وقدسيتها، هذا الحضور له بنيته المتكاملة وأن لم تتشكل بعد، وبالرغم من وجود ملامح لها، إلا أنها لا تعد “اللاحركة اجتماعية” لأنها ليست مطلبية لاحتياجات اليوم المعاش، خصوصا في السياق الاستعماري، هي “حرب أمكنة” بدأت بالتشكل والتبلور في باب العامود، دروسها من الحراكات والاحتجاجات والهبات المتراكمة في الحضور فيه منذ عام 2011 في بداية استعادة الحضور والفعاليات على باب العامود، و2015 والاشتباكات الفردية/الجمعية، و البوابات الالكترونية وواقعة باب الاسباط في عام 2017، وأشتباك باب الرحمة عام 2019، وحالياً نتاج دورس متراكمة أصبحت متعمقة ومتجذرة في التحدي والجرأة والوعي والوضوح.
في تشبيه للحضور وأهميته، نستدعي غسان كنفاني(35)(ص.102) وكأنه كان يعاين المشهد والأحداث في باب العامود، يقول في وصف مشهد فلسطيني آخر:”أبطاله على اختلافهم يتمتعون برفاه المفكرين دون أن يدعوا كذلك، سترى سائق شاحنة يفكر ويتصرف ويتأمل مثل سارتر، وسترى طفلاً في الثامنة من عمره يضع حجراً لماركس في التحليل الاقتصادي، وسنرى شيخاً ينظر إلى اللوحات المرسومة بألون الزيت من خلال حدقتي هنري مور”.
ولو كان حاضراً اليوم في القدس سيقول: ترى بعينيك كيف يستطيع طفل فلسطيني في العاشرة من عمره المناورة، بضرب ألعاب نارية في أزقة البلدة القديمة على الجنود لتخلق دخاناً يؤمن له الانسحاب كمقاوم غزي خرج من غارات العدوان الصهيوني على قطاع غزة عام 2014 سالماً، وترى شاباً فلسطينياً يعود إلى جندي اسرائيلي على باب العامود في صفعة واحدة ليوقعه على الأرض كما كان ينكل جيفارا غزة بالاستعمار ليلاً، سيقول، سترى: شيخاً أصيب بقدمه وهو عائدٌ، صامدٌ، ومساندٌ للأهالي في حي الشيخ جراح، ويقول كما قال أبطال فلسطين العظماء، سأستمر حتى استشهد، كما ذهب محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطى الزير إلى المشنقة، ويتسابقون حول من سيكون أولهم؟، سترى من يشتبك مع الإستعمار في باب العامود والشيخ جراح وساحات الأقصى: يحلل الموقف في السياق الإستعماري كما لو كان فرانتز فانون، وسترى بائع الترمس الكهل يمتشق حذائه ويضربه بوجوه الجنود المقتحمين لساحات المسجد الأقصى، كما لو كان عز الدين القسام، محتجاً على ترويع النساء والأطفال، أنه فن الحضور وتأكيده في المكان وتأطيره.
هذا التأطير المعرفي والفعل الاشتباكي لم يكن لولا الحضور واستمراره في أهمية تشكيل هوية احتجاجية وبصور جديدة وبوعي متراكم في سياق الاشتباك الفلسطيني اليومي والمعاش المقاوم، ولكن بصورة مبتورة عن النسق القيادي وخطابه المتخشب والعاجز كما كان أبو الخيزران، بدأت ملامحه في الاحتجاج، وآثارها في الحضور، فكيف أصبح الأمر على هذا المنوال:
أولاً: أهمية الحضور في باب العامود، وهويته:
في وصفه لمفهوم “اللاحركات الاجتماعية” للمهمشين يقول آصف بيات (36)(ص. 53)” اللاحراكات الاجتماعية” تختلط بالممارسات اليومية، وتدرس أن انجاز مطالبها لا يكون من خلال مجموعة صغيرة،… وقوة اللاحركات الاجتماعية في وحدة الفاعلين، وقوتهم في العدد، …، وفي احتلال أماكن تتركز فيها القوة وتستكملها في مجتمع ينتج فيه المهمشون”، يساعدنا ما سبق ذكره، في فهم سلوك الحضور اليومي والإصرار عليه في باب العامود، الذي أصبح متبلوراً أكثر من أي شكل من أشكال الحضور الأخرى، ففي حي الشيخ جراح ببعده الوطني فقط وبحضور محدود ومحاصر، ومختزل بالبعد الديني في ساحات المسجد الأقصى فقط، ورغم أهميته ولكنه غير مكتمل باعتقادي، خصوصاً أهمية الدمج البعد الديني بالوطني ليعكس المشهد الكلي كما هو الحدث الاجتماعي، وعليه يشكل الحضور في باب العامود “كمنوذج مثالي” بمفهوم “ماكس فيبر” لكل الأشكال السابقة من الاحتجاجات في بلورة هوية وخطاب وثقافة وشعارات المحتجين في حضورهم اليومي المقاوم، ليكون مرابط في لحظة، ومقاوم في آخرى، وجدع في لحظة، وفلسطيني في رابعة، وكجكارة كحضور يومي للمقدسي في مواجهة الإستعمار خامساً.
ورغم إدراكنا أن السياق الاستعماري يفرض نفسه بصورة أوسع وبشكل دراميتيكي، ولكنه بالمقابل يسرع من تبلور هوية جمعية للحضور للفلسطينيين ويصعدها، وبهذا نستطيع محايثة التوجه والتحليل السابق فيما يخدم توجهنا بالضرورة، لمعاينة الإطار المرجعي للحضور في السياق الفلسطيني، حيث ندرك هشاشة وتصدع البنية الاجتماعية والوطنية في البلدة القديمة بشكل خاص، والسياق الفلسطيني على وجه العموم، مما فرض تحديات جمة على المقدسي، استطاع بثباته أن يشكل تحدي وكمثال للتصدي لممارسات الاستعمار الصهيوني.
حيث أن خروج الشباب لم يكن بالشكل المطلبي، كما بدى للبعض لحظيتها، وبإصرارهم في استمرار وجودهم على درجات باب العامود بالبدء، ولكن نتيجة لمعايشتهم الوضع ونظام الإكراهات الاستعماري، وفهمهم كيفية عمل المؤسسة والأجهزة الاستعمارية في فرض الأمر الواقع، فاستطاعوا أن يروا ويدركوا ويستبصروا ما لم نستطع ان نراه “كمتفرجين على الحدث” بأعينهم في لحظتها، وبأن الانتهاكات والممارسات الاستعمارية وأن بدت هادئة وناعمة لكل ما هو معتاد عليه الفلسطيني كسمة بنوية، وخصوصاً في هذا المكان المهم والرمزي والحيوي والهوياتي، ستصبح فرضاً لأمر الواقع وسياسة ستجبر الفلسطينيين/المقدسيين لاحقاً الالتزام والانصياع لها – أو بالحد الأدني الاعتياد عليها كما هي صناديق الموت-الأبراج العسكرية المشيدة على المدخل-.
وعليه شكل اصرارهم واستمرار حضورهم وتدفقهم في اعطاء المكان معنى أبعد ما يعكسه باب العامود كمكان للمارة او للعلاقات الاجتماعية وقضاء الوقت، واستطاعوا أن يفهموا أن سياسات الاستعمار ستؤول إلى اصطناع وتشييد باب العامود باعتباره “اللامكان” “ومكان للعبور” وأنهم عبارة عن مستخدمين وكعابرين فقط، -وهذا ما تم توضيحه سابقا-، فباب العامود شكل بالبداية لهم استملاك المكان بالشكل الشخصي/الجماعاتي للمكان لأهميته لهم، وجزء من الطقوس اليومية في الممارسات الشائعة في حياة الشبان المقدسيين، وإن كانوا مجموعات متفرقة، قد لا تربط بينهم رابطة اجتماعية سابقة، ولكن يعرفون بعضهم البعض، وأصبحوا كجزء من هوية المكان وحدوده من مخيم شعفاط إلى العيساوية وجبل المكبر.
فسياسة الاستعمار كانت حاسمة بمنعهم من أجل فرض الواقع واللامعنى على المكان، مما استدعى استخدام مفرط في القوة والقمع للشبان وتحويل الحضور من جماعاتي/فردي إلى فلسطيني بجسد جمعي، وكلما زاد الافراط في القوة زاد تدفق الشبان من المحيط للحفاظ والدفاع عنه، وباعتقادي أنهم لم يقوموا باختيار المكان بقدر ما لأهمية المكان في اختيارهم، وأدركوا ان الحفاظ عليه يستدعي تدفق المزيد، فعملوا بكافة الطرق والوسائل من: دعوة واستقطاب العديد من المجموعات الشبابية وغيرها، حتى أضحى المكان مكتظ بالحضور المحتجين، -وليسوا العابرين أو السالكين-، استخدموا ووظفوا وسائل التيك توك والواتس والفيس والتواصل غير الرسمي في استقطاب عدد هائل للحضور في المكان، وُظفت الصورة من الحدث بأبعادها ودلالاتها التي حملت معاني لم تتوقف عبر مكان لاحتساء القهوة فقط، وأنما كمكان يشكل رئة الحياة والعلاقات الاجتماعية للقدس والبلدة العتيقة، وكلما أزداد القمع ازداد الإصرار على التأكيد على فلسطينية المكان، وتأطيره في الخطابات والشعارات التي اطبقت المعني الكلي في الساحات.
قاد قمع الجنود للشبان إلى مزيد من الإصرار على موقفهم، وساعد في استقطاب المزيد من الشبان وبخلفيات وتوجهات مختلفة “دينية ووطنية وايدلوجية وجندرية”، ولأننا نعرف أن بناء الهويات لا يتم من خلال المنظومة السياسية/الحزبية/ الرسمية فقط، فاستطاع الحضور من تطوير شبكة من صور التضامن وظفت بشكل جيد وبطرقهم الشعبية وغير الرسمية قادتهم إلى بلورة هوية جمعية، وبالمعاني الجديدة التي تم اضفاؤها على الحدث أصبح السلوك والممارسات الاستعمارية على باب العامود باعتباره تهديد للكل الفلسطيني، وكعامل مشترك بين “الاجتماعي، والديني والوطني والتاريخي”، وكعامل تهديد مشترك، سيشكل لاجقاً عنصر أساسي في بلورة هوية وطنية من نوع خاص في المكان، وأخذ شكل الدفاع الجماعاتي الصغير يأخذ شكلاً جمعياً ووطنياً ودينياً كبير.
إن إدارة المعركة/ الواقعة في استعادة مكان العامود فلسطينياً، وبشكل رمزي أخذ أبعاد احترافية في إدارة المعركة، واستنزاف كبير للمؤسسة الأمنية والعسكرية للاستعمار، أليس الصراع استنزافياً أيضاً، في ضوء اختلال موازين القوى؟، تقول صحفية في وصف الأحداث على باب العامود، هي عبارة عن “كر وفر” بمعنى امتثال مؤقت في لحظة، ورفض والعودة إلى المكان في حالات أخرى، الاشتباك بالحجارة وبالأيدي، واعتقالات ومطاردات… واعيرة نارية وقنابل الغاز المسيلة للدموع ومثيرة للأعصاب، كما استخدام المياه العادمة المنفرة لتفريق الفلسطينيين، ومن ثم هدوء فعودة مجدداً لاستملاك المكان في باب العامود، لقد استطاعوا تطوير تكنيك فن الحضور وحرب الأمكنة وفرض السيادة عليها بحنكة وروية وإصرار.
العنصر الأخر والمهم في توحيد حرب الأمكنة هي الهتافات الوطنية والدينية سابقة الذكر، كما الصلاة، كما التكبير، وصولا ًإلى الغناء والهتاف للمقاومة وللأجهزة العسكرية لها، لعب دوراً مهم في تأطير الحضور وتشيكله بالبعد الوطني والديني وفي تشكيل هويتهم الوطنية وتأكيد لمعنى الحضور وأهمية وجودهم وحضورهم في المكان، وعملت على انصهار الذوات المختلفة وجودياً بمرجعياتهم المختلفة عن بعضهم البعض ولكنهم أصبحوا يتصرفون ويسلكون بصورة متشابه ومتشابهة وبحناجر موحدة لخطابات متعددة وقد تكون متناقضة، ولكن الجامع بينها هوية فلسطينية، وفي هذا السياق يؤطر الخطاب الشعاراتي لمناضلة شبابية في حي الشبخ جراح تقول ” حب الوطن سنة وفرض… والأقصى بنادي حبي الوطن عبادة “، ليصبح البعد الوطني طقساً دينياً بإمتياز، والديني يغلف الحدث بمعناه الوطنية بإحتراف.
لعبت الشعارات كلاصق اجتماعي بالمفهوم “الدوركهايمي” لينصهر فيه الفلسطينيين كذات فلسطينية موحدة وجمعية، حضورها كان واضحاً ومتبلوراً في باب العامود الذي صهر جميع الاختلافات، ناهيكم عن أهمية رمزية وجود وحضور الأعلام الفلسطينية في مناسبات عدة، والذي فرض الحضور في الأمكنة بحضورها وهويتها في أكثر من مشهد للتعبير عن استعادة باب العامود فلسطينياً بالمعنى الرمزي/ وبالمعنى المادي، وإن كان لحظياً على “جيب للجنود الاسرائيليين”، فالمقاومة هي استمرار الحضور والتأكيد على هوية الجموع الكفيل باستيعاب الجميع وبإيجاد أدوار مناسبة لهم حسب الموقف والحدث وشكل التحدي، جميع ما سبق جعلت استمرار تدفق الحضور كفرصة سياسية استطاع الشبان في باب العامود استثماره وتوظيفه بالشكل الصحيح، وهي مرشحة لكي تنمو وتتبلور كحركة وطنية شاملة، تؤسس خطابها الشامل والكامل، وقد تكون نواتها على أقل تقدير ونموذج لحرب الأمكنة التي أصبح الفلسطيني يخوضها على مساحة فلسطين التاريخية المحتلة.
كان لحضور المرابطين من فلسطينيي 48 وآخرين مقدسيين معناً آخر للحدث في باب العامود للصلاة، فأُضفي على المكان بعداً ومعناً إضافياً في المزج ما بين الوطني والديني في أهمية الحضور لاستعادة المكان، وعلى الرغم من عدم تأطيره واستثماره كما يجب لأسباب سأعود لمعالجتها لاحقاً، لكنه مهم وجوهري لتأطير الحضور بأشكال مختلفة، كأن يتم الصلاة على باب العامود، والتراويح في حي الشيخ جراح، والمواجهة في باحات الأقصى، كما أن الحادثة تعمل على إيقاظ الفلسطيني من سباته الاستعماري، والعمل ضمن فلسطين التاريخية كخارطة للفعل من غزة ألى حيفا ويافا، فشهدنا يوم 8/5/2021 تدفق الفلسطينيون للاعتكاف في في المسجد الأقصى، كيف نصب الاستعمار حواجزه العسكرية لمنعهم على الشارع رقم “1”، وعدم السماح لهم بالمرور والقيام بتنزيلهم على مفترق قرية أبو غوش، هذه الحادثة استثارت رابطة أخرى الفلسطيني غافل عنها، ولكن بدعوات المقدسيين للمنطقة عبر سياراتهم للمساعدة في نقلهم للأقصى أخذ بعداً وطنياً آخر، ويفترض أن يشكل جسر مادي أساسي في أهمية تمتين العلاقات الفلسطينية الفلسطينية، وبنفس المعنى في دعوات المقدسيين لمن انقطعت بهم الطرق -ليلة الأحداث والمواجهات في المسجد الأقصى- ومن فلسطينيي الضفة الغربية والشمال الفلسطيني للمبيت في منازل المقدسيين، لقد تحول البيت المقدسي مكاناً جامعاً للكل الفلسطيني، فانقلب السحر على الساحر مرة أخرى.
أن للحضور أهمية بمكان، كما هو الاشتباك في سياق آخر، ولكن من المهم أيضاً مراعاة وأخذ حالات الهلع والخوف للنساء والأطفال كما حدث في ساحات المسجد الأقصى، واختيار أدوات ووسائل حسب ما تستدعيه الحاجة والضرورة، على اعتبار أن المواجهة طويلة والمعركة وحسمها أيضاً لم تأتي بعد، وللأصوات التي خرجت متخوفة على مصالحها الاقتصادية في بداية الأحداث أو من ساحات المسجد الأقصى مبررة من جانب، ولكن، يجب ألا تتحول إلى تخوفات مثبطة لعزيمة الحضور، فيجب اسكات ثرثرة العقل تلك في خضم المواجهة، فالاشتباك والتضحية بمعنى “جزئي ومؤقت ضروري -بمكان- من أجل المحافظة على الكلي والدائم” (37)(13)، وفي بعض الأحيان يكون لاستعراض القوة حاجة؛ اذا ما فرضت على الفلسطيني المواجهة فلا بد أن يكون قادر على التعبير عن قوته ولو بشكلها المحدود في الاشتباك، ومن جانب آخر، مشاهدة ومعاينة الخوف من الأطفال والنساء مهم للتذكير على أن الاستعمار ووحشيته ما زالت حاضرة، فعلينا أن نفهم الصورة بإطارها الحالي والكلي، وبان اختيار الأدوات مهم، وأيضا التعبئة من أجل استمرار تدفق الحضور إلى جميع الأمكنة هو الأهم، وما ستؤول إليه الاحداث في باب العامود سنجد ثمراته في حي الشيخ جراح، وما زلنا بحاجة لاستثمار الحضور لاحقاً فيما بعد شهر رمضان، في الحضور اليومي في المسجد الأقصى وما يختبره من تقسيم زمكاني، وأمكانية تطوير الحضور كشكل احتجاجي يومي.
ثانياً: في حرب الأمكنة:
يعد :”الحق في امتلاك المكان كمركز حياة وتفاعل وهوية واعادة الاعتبار له” عقيدة الفلسطيني الذي يسعى ويعمل على استعادة الأمكنة الفلسطينية فعلياً أو ثقافياً ورمزياً، فتأصيل ارتباطه بالمكان على أسس وبنى ومنظومة جمعية وليس جماعاتية أو فردية، يشعر من خلالها كمساحة آمنة لخفض التوتر الوجودي الحاصل من الإلحاق والسيطرة الاستعمارية، فبالسيطرة على المكان وإعلان السيادة عليه، هو ضمنياً سيطرة على الحياة وأشكال الوعي المتولد فيه، هي سيطرة على المصير والمستقبل الفلسطيني، فبفرض السيادة والحضور عليها تعيد الرابطة المتجذرة في التاريخ والجغرافيا والذاكرة المحلية والوطنية والمخيال الجمعي، بالضرورة يستدعي ذلك اعادة فك الإرتباط بالرواية التناخية الاستعمارية المهيمنة على الأماكن الفلسطينية :من حوادث تاريخية وسرد كرونولوجي، وصولاً لأسماء القرى والطرق والشوارع والأحياء، والنبش في حقل تاريخ الذاكرة الشعبية والوطنية وللشخصيات الوطنية لبناء وإعادة انتاج تصورات وطنية تقوم بتجذير ارتباط الفلسطيني بها وفيها، عبر رواية علمية قادرة على دحض الافتراءات حول الشواهد الفلسطينية وتغليفها بالمعنى والدلالات الوطنية الفلسطينية، تساعد الذاكرة الشعبية أيضاً في هذه المجال بشحذ العقل والعاطفة والخيال الوطني في وضع تصورات قائمة على تقديس الأمكنة وتقدير هذه الرابطة باعتبارها امتداداً للفلسطينين أو أنها منبثقة عنه، وهي مسألة جادة وهامة في حرب الأمكنة بأبعادها الثقافية والسياسية والوطنية والدينية والرمزية.
هذه الحرب لن تكون سهلة، ولكنها الأساسية في خضم استعمار احلالي سعي/ويسعى لاستلاب الأرض الفلسطينية وما عليها من أمكنة، والتطهير والمحو البيولوجي والثقافي للفلسطيين كمسألة جادة لفكفكة الرابطة الثقافية الهوياتي التي تربطه به، وميدان أساسي في الصراع والهندسة الاجتماعية للفلسطيني، لأننا نعي أنه بدون المكان لا يمكن أن يكون للغة السياسية والفعل السياسي معنى ودلالة، وكذلك الأمر لحال اللغة السياسية والفعل السياسي والحضور والتدفق إلى الشوراع؛ التي تبحث عن مكان/ أمكنة للتموضع فيها وحولها ليفهم منطقها ودلالتها ومغزاها، هذه الحرب طويلة لأسباب موضوعية وذاتية، وترهل وضمور في البنى السياسية الفلسطينية الرسمية منها على وجه التحديد، فهي بحاجة لمبادرات مجتمعية وجماهيرية ومؤسساتية وطنية دائمة الحضور ومستمرة في الابتكار في طرق نضالها، والأدوات المناسبة لها، وأن المعارك والاشتباكات التي تخوضها الجماهير ليس معارك حاسمة تستدعي كسر العظم، إلا في مناسبات يحددها الحضور وبقراءتهم لموازين القوى وردود الفعل الاستعماري وحدود تدميره.
تستدعي حرب الأمكنة الثقافة الفلسطينية، باعتبارها المحافظ الأساسي للذاكرة الشعبية وللحقوق الفلسطينية، وكموجهة للنضال وأشكال الحضور، التي هيمن عليها الرسمي السياسي التقليدي، وقام بإفراغها من مضمونها التقدمي وعزز كل ما هو تقليدي في بنيتها وأشكال التعبيرات فيها، كما تحولت لصورة باهتة في الثقافة الشعبية في الممارسة اليومي، والتي تعبر عن انفصام وازدواجية للشخصية الفلسطينية، فهي تنادي بالمحافظة والتقليدية في موقع، وتمارس التحلل في موقع آخر، لتعبر عن انشطار وتشظي في الهوية الفلسطينية والمقدسية على وجه التحديد، لأن الفلسطيني لم يعد تتحكم بأدوات انتاجه المادية بعد فقدان أرضه ومكانه، ففقدان القدرة على الفقدان كحصيلة للصراع، ولكن من جانب آخر استطاع الاتسعادة عن الفقدان تلك بتماهيه بالرواية التاريخية والمشروع الوطني الفلسطيني الذي أخذ بالتحلل والاندثار نتيجة الممارسة الرسمية السيئة للسلطة الفلسطينية، وتراجع القدرة التمثيلية لمنظمة التحرير، إن استدعاء الثقافة هام وضرورة اساسية في تجديد الادوات الثقافية والفنية والأدبية ومناشط الحياة اليومية المستجيبة للتحديات، وكصمام أمان يصهر الاختلافات ويغربل ما ما هو غير مفيد ويعزز كل ما هو جامع وجمعي، وتعمل الثقافة وأشكال التعبيرات فيها على تصليب المنعة والصلابة المجتمعية والمقاومة والتأطيير والتعبئة في “حرب الأمكنة”.
في حرب الأمكنة يجب أن يكون “الحفاظ على الذات وافناء العدو” كما هو حال حرب الغوار(38) (ص.12) باعتباره المحرك والدافع الحقيقي في الاشتباك والحضور في المواقع المهددة في الاستيلاء عليها من منازل الفلسطينين كحي الشيخ جراح وسلوان على سبيل المثال لا الحصر، أو الهيمنة وفرض السيطرة على بعض المواقع كوضعية باب العامود، فأشكال الاشتباك تكون حسب ما تستدعيه الحالة والموقف من أدوات مستخدمة يقررها الحضور والمحتجين، فدائماً الفلسطيني قادر على الابتكار والرد بصورة تجعل من تضحيته في لحظات معينة وكأنها دور تاريخي ورسالة خالدة قد تقود إلى استشهاده في مكان له دلالة او رمزية، أو في سبيل حدث ما ليضفى معاني ودلالات لأهمية الصمود واستمرارية التدحرج لأشكال التحدي والتدفق في الشوارع والأمكنة العامة، أو حتى قد تقود إلى أسره كما حصل لمنفذ عملية زعترة بنابلس، فتقدير الموقف والأداة في الاشتباك تأخذ طابع البعد الشعبي والجماهيري والفردي بوعيه الجمعي، التي هي دائماً تكون أكثر مرنة وغير مضبوطة ومكشوفة كالأشكال المركزية في تنفيذ القرارات على الصعيد الوطني، والذي نعرف حالياً أنها أضعف من اتخاذ هكذا قرارات من المواجهة.
فالحفاظ على الذات في حرب الأمكنة كما التضحية في مناسبات معينة متضادان ولكنهما متكاملان في بعض الأحيان، الأهم في الموضوع الإستمرار في الحشد والتعبئة والحضور بكافة الطرق في الأماكن العامة والشوارع والأحياء المهددة بالاستيلاء عليها، أو حتى في الأماكن غير المهددة أيضاً، لمزيد من الحضور واستعادة الصبغة الفلسطينية لها، فالتدفق إلى الشوارع ضرورة لتأطير وتنظيم وتوعية للحالة الشعبية العامة في سبيل تحولها إلى حركة وطنية شاملة ومنظمة وممأسسة بشكلها وطابعها الجماهيري وليس بالنخبوي، لما له من أهمية في امكانية استنبات وامتلاك أدوات مناسبة لجميع الشرائح للحضور الجماهيري الذي يحافظ على الاستمرار في النضال.
في حرب الغوار كما هو الحال في “حرب استعادة الأمكنة”: فليس كسَب أو استرجاع “الأرض سبباً للفرح، وكما وإن خسارة الأرض ليست سبباً للأسف، الأهم هو اكتشاف الأساليب لتدمير العدو، لأن الدفاع عنها حتى النهاية يقود إلى التضحية بقوتنا الفعالة”(39)(ص.102)، وفي سياقنا الفلسطيني/ الغزي مسيرات العودة أو المقدسي في وقتنا الحالي تكون القوة الفعالة هي أشكال الحضور والتدفق إلى الأمكنة والتعبيرات الاحتجاجية بشكلها الجماهيري كقوة عاملة ومحرضة ومدافعه، يكون فيها الحضور شكل من أشكال القوة، والاشتباك الشعبي إذا ما سنحت لها الفرص، أو فرضت عليه، الأهم هو فهم الأساليب التي يتم استخدامها والسياسات التي يتراجع عنها خوفاً لمزيد من الانفجارات كما تراجع عن منع المصلين من مناطق 48 للحضور إلى المسجد الأقصى، أو قرار المحكمة الاسرائيلية اليوم بتاريخ 9/5/2021 بتأجيل البت في الاستيلاء على منازل الفلسطينيين في حي الشيخ جراح لمدة شهر واحالته لما يسمى ” منظمة الأمن القومي” الاستعمارية، فيدرس ويعلم الفلسطيني أن الاستيلاء الهادئ هو أسلوب ممنهج في تطبيق السياسات الاستعمارية في السيطرة على الأمكنة الفلسطينية، وبالمقابل أن حالة الهدوء في الشارع الفلسطيني هي مشجعة لفرضه وتنفيذه لتلك السياسات، كما أن فهم نقاط الضعف فيه تعد الأهم، وما يؤلمه من تدمير لمصالحه الاقتصادية كإحراق محاصيل المزروعات في مسيرات العودة، أو في اغلاق الطرق وشبكة المواصلات في عام 2014 المحاذية لبلدة شعفاط، كرد على احراق الشهيد الطفل محمد أبو خضر.
العمل الميداني في “حرب الأمكنة” ليس بحاجة لقيادة مركزية، لأنها بطابع شعبي غير مركزي، وليست بحاجة للتنسيق –رغم أهميته- فالعمل الميداني يفرز الحضور والمبادرين والقيادات الشعبية الميدانية، وتنوعها عبر شبكة غير رسيمة متداخلة قادرة على الحشد والتعبئة، فمركزيتها وتبعتيها لشكل قيادي منظم يسهل من عملية قمعها والسيطرة عليها عبر الاعتقالات التي تشنها قوى الاستعمار في استهدافهم، فرغم الاعتقالات التي قام بها الاستعمار فهو عاجز عن حصارها واستهدافها، وعاجز عن كيفية وأسباب ومنابع اتخاذ القرار، لأنه لا يرى في استعماره سبباً للصراع، وعليه يصعب الوصول إلى متخذي القرار والقيادات الميداينة، فكل مشارك هو قائد له مهماته التي يبرع بها، أبرز الأمثلة التي نستطيع سوقها في هذا السياق الهاش تاغ “#انقذوا_حي_الشيخ_جراح….. #savesheikhjarrah…. #لا_لتهويد_القدس…. #لن_نرحل” فإنه أبلغ من مائة منشور ودعوة في تحفيز الحضور أو ترك أثر حتى لو كان افتراضياً، ويستقطب ويعبئ مؤيدين ومناصرين له بسرعة مذهلة وبمشارب فكرية متعددة، وبنفس السياق والمستوى الحضور والصلاة والدعاء او الإفطار الجماعي والحضور في الأمكنة ضروري وحاجة، كما حدث في معركة البوابات الاكترونية عام 2017، وما يجدث حالياً.
أن استمرار “حرب الأمكنة” بدون قيادة رسمية مهم وضروري لاستمراية تدفق الجمهور واستقطاب أوسع قدر ممكن من الشرائح الفلسطيني، حتى وإن كانت تلك الشرائح مؤطرة حزبياً، ولكن حضورهم يبقى في خانة الحضور الوطني الشعبي لا الحزبي الفصائلي الضيق في هكذا مرحلة-واعتقد يعد متطلب-، فسيطرة القيادات الميدانية بزمام الأمور يساعد ويطور من أدائها وفرز نمط قيادي من نوع آخر يتلائم مع حرب الأمكنة ومتطلبات العمل والتعبئة، الذي يفترض أن تسيطر القيادة الميدانية عليه أولاً وأخيرا، ويبقى القرار بيدها، والمبادرة رهن ارادتها.
إن توظيف ما سبق في مواقع أخرى كما هو الحال في حي الشيخ جراح أو أي مكان آخر يستدعى ارادة ميدانية وشعبية ووطنية، وتحويل الاستعادة والانتصار الرمزي في باب العامود، صورة مكررة في مواقع أخرى، سنجد ثمراتها في حي الشيخ جراح بشكلها المادي، ويؤسس تراكمات انتصارات ميدانية مهمة في هذه المرحلة القادمة لاستعادة الثقة بالذات الفلسطينية مجدداً وبدورها الفاعل والمؤثر، ليصبح شعار “نستطيع بحرب الأمكنة أن ننتصر” .
ثالثاً: الأدوات النضالية وسبل تطويرها:
عودة إلى مقولة “الكر والفر” كتكتيك استخدم مؤخراً في باب العامود، ومواقع ومشاهد أخرى مختلفة في السياق المقدسي، وتوظيفها بصورة شعبية في التعامل مع إكراهات الاستعمار وطرق توظيفها بشكل جيد في “حرب الأمكنة” المندعلة الحالية وبصورتها الشعبية والجماهيرية، وبمبادات ميدانية متكررة، فحرب الأمكنة قد يبدأ في الحضور والتدفق في الشوارع وجميع الأمكنة، والاشتباك كلامياً، أو بوسائل الجكارة وطرقها المتنوعة، أو بالحجارة، وصولاً إلى أصول التثقيف والتعبئة السياسية في الشوارع أو افتراضياً وأكاديمياً وفكرياً.
إثارت “حرب الأمكنة” بمواقع مختلفة وبوسائل ومتعددة من: وحدات البالونات الحارقة في قطاع غزة، إلى مسيرات حيفا والمثلث، وتضامن الناصرة، إلى الاشتباكات في الخليل ورام الله وبيت لحم ونابلس، وتظاهرات العيسوية وأخرى: هي حرب استنزاف طويلة الأمد، على أن لا ننسى أن المعركة الأساسية وموقعها حالياً متجسدة في الثالوث المقدس “باب العامود، وحي الشخ جراح والمسجد الأقصى” بتكثيف الحضور والاستمرار في التدفق إلى الشوارع وارباك المؤسسة الأمنية والعسكرية الاستعمارية، والارباك يعني إثارة الضجيج في المسجد الأقصى، والحضور والصلاة في حي الشيخ جراح، الاشتباك على باب الاسباط، من أجل استعادة باب العامود.
ففي “حرب الأمكنة” استراتيجية “الكر والفر” واستنزاف الاستعمار، “فعندما يتقدم العدو نتقهقر، وعندما يتراجع نطارده، وعندما يتوقف نناوشه، وحين يتعب نسحقه، يجب تدمير طاقاته…”(40)(ص. 104) هي استراتيجية مستخدمة، ولكن الوعي بها وتأطيرها ضرورة ملحة، وأن المعركة ليست كسر عظم، وانما مناورات تشغل وتستنزف الاستعمار، وتلعب دور في التفكير في الخطط والخطوات التالية، وجوهر محركها هو الاستعادة وفرض السيادة الفلسطينية في المواقع التي يستعمرها “الكيان الصهيوني”، والاستعادة تكون باستمرار الحضور الاحتجاجي المشتبك، والحفاظ على استمرار تدفق الفلسطيني إلى الأمكنة لتصبح كمساكن شعبية وطقوس يومية، وفهم الخطوات التي تؤلم الاستعمار، ومنها من باب التبويب:
ا) تدمير وسائل المواصلات: من أحد اهم نقاط القوة التي يحافظ الاستعمار فيها هي سيادة الأمن في كيانه واستمرار الحياة المعتادة فيها، وحتى نقابل تنغيص مليشيات المستوطنين، بوسائل تؤلمه، وما يؤلمه هو وقف وسائل المواصلات كما حدث في الهبة الشعبية اثر استشهاد الطفل محمد أبو خضير، الذي أفضى إلى تعطيل وسائل المواصلات وتوقف الحياة في الكيان، على الأقل لمستخدمي خط المواصلات ذلك، وأيضاً موخراً، حينما حاولوا ايقاف الباصات القادمة من الارض الفلسطينية عام 48 للاعتكاف في المسجد الأقصى وتدفق سيارات المقدسين لنقلهم، وضع الكيان في ضغط نتيجة اغلاق الشارع الحيوي كشارع رقم “1”، دفعهم بالسماح لهم بالمرور بعد تأزم خط التنقل الرئيسي.
ب) ايقاع تخريب اقتصادي: استهداف المؤسسات وطرق الوصول إلى المؤسسات الاقتصادية الحيوية والشوارع المؤدية لها، من خلال مسيرات بالسيارات أو التظاهرات الشعبية في عمق الكيان الصهيوني.
ت) استمرار التدفق للشوارع وتوظفيها كمساكن شعبية: من الحضور واستمرار حركة المارة في المواقع الحيوية الفلسطينية، واقامة الطقوس والشعائر الاجتماعية والدينية والثقافية في محور المعركة الرئيسي: “باب العامود، وحي الشخ جراح والمسجد الأقصى”، وأن يصبح شكل من أشكال الوجود الفلسطيني، وليس بالفترة الحالية بخصوصيتها في شهر رمضان فقط، وانما بشكل مستمر كما هي المعركة، ومن المهم انتقاء أماكن معينة واعادة احياء الذاكرة الشعبية وقيمتها الثقافية والتاريخية فيها، وإقامة فعاليات اجتماعية وثقافية وسياسية فيها.
ث) توظيف أكبر للتيك توك ووسائل الاتصال الاجتماعي: استطاع الفلسطينيون الاستعانة بالتيك توك وتحويله من وسيلة ترفيهية إلى وسيلة تحريضية تهدف بالتنطيل المعنوي للجنود”الاسرائيليين”، وتعبئة المشاهدين محلياً وعالمياً، بعدما تقلصت مساحات استخدام مواقع اخرى وتضييقها للقضية الفلسطينية للتعبير عن نفسها، إلى جانب توظيف الهاش تارخغ عبر الفيس وتويتر كتحريض محلي وعالمي على أن النكبة الفلسطينية ما زالت مستمرة وحاضرة في الشيخ جراح ومواقع أخرى، وان الفلسطيني مازال بمقدوره الصمود والمقاومة.
ج) وحدات الارباك الليلي ومسيرات حق العودة في قطاع غزة: الذي بدأت منذ اعوام في تطوير أدوات النضال الشعبي في مسيرات حق العودة الكبرى منذ عام 2018 للتأكيد على حق العودة من جانب، ورفع الحصار على قطاع غزة من جانب آخر، تطورت فيه وحدات الارباك الليلي ووحدات البالونات الحارقة المرسلة إلى عمق المستعمرات الصهيونية، واعادة تفعليها، وتدمير ممنهج للمحاصيل الزراعية وخلق حالة من التوتر فيها.
رابعاً: اسكات ثرثرة العقل:
إن “حرب الأمكنة” تكون طويلة، واستمراها مرهون بالتفاف الجماهير حولها والاقتناع بها، وتبني وسائل بمقدور الجميع تحمل نتائجها ودفع ثمنها، والمشاركة فيها وبفعالية، عبر تقديم نموذج ثقافي تعبوي لمحو وصهر الوعي وتطويعه عبر أدوات الهندسة الاجتماعية التي تم توظيفها في السيطرة على الجسد الفلسطيني، وتحويله كذات بيولوجية وليست سياسية، وهي معركة ضرورية تستدعي اطار جماهيري ثقافي، ومؤسساتية اجتماعية وثقافية، واعادة تنشيطها في البلدة العتيقة بالقدس، ومحيطها، حتى يكون هنالك قناعة للفلسطيني في اهمية “حرب الأمكنة” واستعادة الحضور والسيطرة الفلسطينية على المكان والوعي الوطني والديني.
بهذه الحالة سيكون السيطرة واسكات ثرثرة العقل “العقلانية” التي أعلت من مخاطر الخسارة الاقتصادية التي سيدفها المقدسيين في حالة الاشتباك مضموناً ومحققاً بصورة سريعة كما جرى، وهذا ما تمظهر في بداية الحضور واستعادة باب العامود، أو الادعاء بأن الاشتباك مع الجنود في محيط المسجد الأقصى يتيح الفرصة للاستعمار لمنع المصلين فيه، وهل الاستعمار يبحث عن ذريعة؟ أنه استعمار عنيف في جانب وعنيف بشكل هادئ في جانب آخر، فقد وصل الى التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى وينتظر اللحظة الحاسمة لفرض السيطرة عليه واستلابه، وكما أن المسجد الاقصى والصلاة فيه أو حتى بباب العامود ليس شأننا دينياً أو شأنا ًوطنياً في سياقنا الاستعماري، وأنما شأن وطني وديني وثقافي في أي بقعة فلسطينية مقدسة.
خامساً: تمتين الصلات الفلسطينينة الفلسطينية:
إن قدسية فلسطين من قدسية الفلسطيني على امتداد حضوره ووجود في فلسطين التاريخية وخارجها، ومن المهم أن يبدأ الفلسطيني ببناء واعادة انتاج روابط اجتماعية وسياسية وثقافية مع فلسطينيي 48 والمقدسيين ومن الضفة الغربية، عبر سلسلة وبرامج تهدف للتقريب الثقافي والوطني والديني لما هو جمعي ومصيري للشعب الفلسطيني كافة، وليس بهذه البقعة او تلك.
اعادة بناء هذه الروابط تجعل من التنسيق والنضال والحضور المشترك ضمن رؤية “حرب الأمكنة ” ممكنا كلاً حسب مكانه وموقعه وحسب بالوسائل والأدوات النضالية والبرامج التي يتبناها ويتيحها له السياق الاستعماري، بل وتجاوزها بما لا يذهب الى كسر العظم، فبعدما عزل الفلسطينيين عن بعضهم البعض على مدار أكثر من 70 سنة، آن الأوان لترميم الجسد الفلسطيني والبحث عن مستقبل مشترك للتحديات والإكراهات الاستعمارية التي تهدد الفلسطيني في كل الأماكن وليس في بقعة جغرافية ممكنة، ففي استعمار الضفة الغربية عام 1967 قال أحد زعماء الكيان الاسرائيلي في السبعينيات: “إذا كان لا حق لنا في الخليل وأريحا فأي حق لنا في حيفا وعكا”.
إن حرب الامكنة في اللحظة التاريخية، وتجربة باب العامود حاضرة ومستمرة تعطينا الأمل وفرصة لاعادة انتاج الفلسطيني كما يجب أن يكون، وبصورة فعالة وقادرة للتصدي للمشاريع والخطط التي توضع له في سبيل محوه ثقافياً وسياساً، فالرد الأنسب لهكذا تحديات وجودية هو “بوحدتنا ننتصر”.
عن الحوار المتمدن