الاتفاق الإماراتي – الإسرائيلي أثار ردود الفعل المتوقّعة. السلطة الفلسطينية طلبت من الجامعة العربية إدانته، وللمرة الأولى في تاريخها لا يوافق أعضاؤها على “ما يريده الفلسطينيون”. رئيس الوزراء الإسرائيلي فسّر ذلك بأن الفلسطينيين لم يعودوا يملكون ”الفيتو” على ما يقرّره العرب، وهل كان ثمّة “فيتو” أبداً؟ لا، طبعاً.
الرئيس الإيراني تجاوز الدبلوماسية في التعليق على الاتفاق، وفي الطلب من الإمارات وقف “قرار سيادي”، وطهران تتوعّدها الآن مع البحرين، كما لو أنه يجب أن يكون لها قولٌ آمرٌ أو ناهٍ. الرئيس التركي دان الاتفاقين اللذين وُقّع عليهما في البيت الأبيض. السفير الأميركي في القدس يقفز كعادته الى ما يعتبره “استحقاقات” مقبلة في الأجندة الإسرائيلية (- الأميركية)، متطلّعاً الى رئيس فلسطيني آخر غير محمود عباس، وهو السفير نفسه الذي كان قد حضّ على “ضم الأراضي” بما فيها غور الأردن، بعدما عمل على الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل وتشريع المستوطنات وإلغاء “حلّ الدولتين” واستبعاد “حلّ الدولة الواحدة” وصولاً الى صوغ “صفقة القرن” كشريك في خلية جاريد كوشنير كبير مستشاري دونالد ترامب وصهره.
مثلما أن الجامعة العربية أقصت أي جدل حول “قرار سيادي” تحقق فيه الإمارات أو البحرين أو أي دولة أخرى مصالحها، وأساساً لا فائدة في جدل كهذا، كذلك ينبغي أن تحاول الجامعة التعامل مع حقيقة ماثلة هي أن قرارات التطبيع، أياً تكن دوافعها، تُشعر الفلسطينيين شعباً وقيادة بأنهم يُستضعفون ويُهمّشون وبأن قضيتهم تخسر كلما تشتت التضامن العربي من حولها. دعكم من حفلات الردح والبذاءة والتخوين على مواقع التواصل الاجتماعي أو الفضائيات والصحف، فلا مجال لمطالبة الجريح بأن لا يئن ويتألم ويصرخ، ولا يمكن منع أصوات جادة ونزيهة من التعبير عن الخيبة والإحباط، وهذه غالبية ساحقة حقيقية. فالقضية هي قضية فلسطينيين بمقدار ما هي قضية رأي عام عربي ودولي تنامى مع الوقت وينظر اليها باعتبارها قضية إنسانية وحقوقية ينتصر فيها القانون الدولي أو قانون الغاب. وحيثما يُسحق الإنسان وحقوقه يكون ذلك تسويغاً لسحقهما في أي مكان، وإنْ بأشكال ووجوه مختلفة ومقنَّعة. لكن الحال في فلسطين واضحة بل وحشية الملامح.
لنقل واقعياً إن من الخطأ أخذ مسألة الاتفاقَين الإماراتي والبحريني على محمل “التخوين” أو حتى الشك في نيات الدولتين حيال القضية الفلسطينية. ولنلاحظ عموماً أن الدول العربية باتت في الحقبة الأخيرة لا تقدم الى قضيتها “المركزية” إلا ما يخلّ بالتضامن معها، أي الخلافات والانقسامات وحتى المشكلات الداخلية، وما عاد الفلسطينيون يبادلونها إلا بانقساماتهم التي ألحقت أفدح الأضرار بقضيتهم. ولنعترف بأن الجانب العربي انهزم في حروبه أمام إسرائيل بمقدار ما انهزم في إدارة/ أو لاإدارة مسار السلام أمام التواطؤ الأميركي – الإسرائيلي الذي بلغ مع إدارة ترامب ذروة اللاإنسانية واللاأخلاقية وتغليب الاحتلال على أي سلام. وفي الحالين، الهزيمة والإخفاق، ارتدّت التداعيات على العرب، وقد ربّوا أجيالهم طوال العقود الماضية على التعاطف مع القضية الفلسطينية، ومن الطبيعي أن لا تنظر غالبية العرب الى التطبيع مع إسرائيل على أنه سلام، أما القول إنه لـ”مصلحة” الفلسطينيين فهذا متروك للاختبار، والمشكوك فيه هنا هو الإسرائيلي (والأميركي) الذي راكم مع مصر والأردن والسلطة الفلسطينية سوابق وسلوكاً وخُدعاً لا علاقة لها بالسلام.
ويقال الآن إن اتفاقات التطبيع مع إسرائيل تدشّن عصراً جديداً في الشرق الأوسط، بل يصرّ كوشنر على عنونته بـ”السلام”، معتقداً أنه وترامب ونتنياهو يبيعون سلعة لا يهم محتواها بل “الماركة” التي تحملها. ولذلك فإن الدول المرحّبة وغير المرحّبة بالحدث الأخير في البيت الأبيض لم تنخدع، وحتى الإعلامان الإسرائيلي والأميركي لم يغفلا في غمرة الاحتفال بالاتفاقات أن السلام الحقيقي لا بدّ أن يكون أولاً مع الفلسطينيين، ولا فائدة من الضغط عليهم ليقبلوا بإدامة الاحتلال. وحين يروّج نتنياهو في كل مناسبة شعار “السلام مقابل السلام”، فإنه يطيح مفهوم “الأرض مقابل السلام” الذي بُنيت عليه مبادرة السلام العربية. ولا يعني ذلك سوى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يستقوي بهذا التطبيع ليواصل ما فعله وأسلافه دائماً: سرقة الأرض… ومع الأرض يُسرق مستقبل الشعب الفلسطيني وحقوقه الأساسية ومقوّمات اقتصاده وعيشه بكرامة على أرضه. فهل يصنع ذلك سلاماً؟
ليس لدى إيران وتركيا ما توفّرانه للفلسطينيين تعويض عن أي تقصير أو عجز عربيين. تركيا لها علاقات تجارية وعسكرية جيّدة مع إسرائيل، وإيران كانت تطمح لأن تزكّي إسرائيل (وأميركا) نفوذها الذي خرّب أربعة بلدان عربية ودمّرها. إيران وتركيا مستاءتان لأن محوريهما لا يحظيان باعتراف أميركي (وإسرائيلي).
لعل العقول الفارسية في طهران تدرك أن سياساتها التدخلية والتوسّعية ساهمت بقوّة في نسج “جاذبيةٍ” غير متوقّعة لإسرائيل في المنطقة. أما أنقرة فإن عقليتها الأردوغانية انحرفت بها الى التخبّط بين أوهام “عثمانية” و”إخوانية”، فكان أن أضاعت البوصلة العربية. ليس عند إيران ولا إسرائيل نموذج تهديه للفلسطينيين، أما تركيا فكان عندها نموذج لكنها فرّطت به.
لكن، هل بات العالم العربي محكوماً بإنكار هويته والخضوع للمحاور وصراعاتها، فيتفرّس أو يتترّك أو يتأسرل؟ حديث المحاور يفتح ملف ”النظام العربي الرسمي”، المتأرجح بين ثلاثة مصائر: البقاء الرمزي، والزوال كأمر واقع، وإعادة إنتاج بعد “التصالح” مع إسرائيل. هذا يحتّم حوارات ومصارحات عميقة بين العرب، إلا إذا باتت من المستحيلات. كانت تحوّلات “الربيع العربي” قد كشفت الستار عن تدهور العلاقات بين الأنظمة والصراع بين “الأسلمة” و”اللبرلة”، لكن تصدّع التضامن ولو الظاهري حول القضية الفلسطينية يشكّل حالياً نقطة النهاية لنظام متهالك فَقَد كل فاعلية، ويُفقده الجدل الحالي حول التطبيع أي معنى. جميع العرب مدعوون الى التفكير في الفوضى التي بلغوها، إذا كانوا مصممين على صون هويتهم، وملتزمين ولو وجدانياً إزالة الاحتلال ورفع الظلم عن الفلسطينيين، وراغبين في تنقية العلاقات مع الشعوب وتصويب أطر التعاون بين الحكومات. لا شك بأن ظلماً واحتلالات طرأت أيضاً على السوريين والعراقيين واللبنانيين واليمنيين، لكن الفلسطينيين كانوا وحدهم على الدوام عنصر التضامن بين العرب، وها هم يصبحون عنصر انقسام، تحديداً بسبب تسلل إيران الى قضيتهم.
يستطيع الفلسطينيون الاحتجاج على أي تطبيع عربي مع دولة تريد فرض احتلال دائم عليهم، لكنهم مضطرّون للتعامل مع متغيّرات ووقائع تتطلّب منهم أفكاراً وسياسات لتصحيح أوضاعهم التي يشكون منها هم قبل سواهم. لا يعني ذلك الرضوخ لـ”صفقة القرن” التي رفضها العالم، ولا الخضوع لهوس ديفيد فريدمان أو غيره، بل إعادة الاعتبار لقضيتهم ومشروعهم الوطني، وهذا في ذاته يطرح السؤال على حركة “حماس”: هل تعمل للقضية أم لاستيلاء دائم على السلطة، وهل تعمل من أجل فلسطين أم من أجل “امارة إسلامية” تابعة لإيران؟ كان الإسرائيليون قد اغتالوا ياسر عرفات بالسم مع أنه هو مَن قام بالاختراق السلمي الأول، وما لبثوا أن اغتالوا محمود عباس سياسياً مع أنه/ أو لأنه لم يحدْ عن الخط السلمي، إلا أن المتغيّرات الدولية مع ترامب واستضعافه للعرب فرضت واقعاً لا يمكن جبهُه فقط بالقعود والانتظار ولا بلعن العرب مطبّعين وغير مطبّعين.
النهار العربي