المصارحة الصعبة/ المستحيلة بين العرب


اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

الاتفاق الإماراتي – الإسرائيلي أثار ردود الفعل المتوقّعة. السلطة ‏الفلسطينية طلبت من الجامعة العربية إدانته، وللمرة الأولى في ‏تاريخها لا يوافق أعضاؤها على “ما يريده الفلسطينيون”. رئيس ‏الوزراء الإسرائيلي فسّر ذلك بأن الفلسطينيين لم يعودوا يملكون ‏‏”الفيتو” على ما يقرّره العرب، وهل كان ثمّة “فيتو” أبداً؟ لا، طبعاً.

‏الرئيس الإيراني تجاوز الدبلوماسية في التعليق على الاتفاق، وفي ‏الطلب من الإمارات وقف “قرار سيادي”، وطهران تتوعّدها الآن مع ‏البحرين، كما لو أنه يجب أن يكون لها قولٌ آمرٌ أو ناهٍ. الرئيس ‏التركي دان الاتفاقين اللذين وُقّع عليهما في البيت الأبيض. السفير ‏الأميركي في القدس يقفز كعادته الى ما يعتبره “استحقاقات” مقبلة في ‏الأجندة الإسرائيلية (- الأميركية)، متطلّعاً الى رئيس فلسطيني آخر ‏غير محمود عباس، وهو السفير نفسه الذي كان قد حضّ على “ضم ‏الأراضي” بما فيها غور الأردن، بعدما عمل على الاعتراف بالقدس ‏عاصمةً لإسرائيل وتشريع المستوطنات وإلغاء “حلّ الدولتين” ‏واستبعاد “حلّ الدولة الواحدة” وصولاً الى صوغ “صفقة القرن” ‏كشريك في خلية جاريد كوشنير كبير مستشاري دونالد ترامب ‏وصهره.‏

مثلما أن الجامعة العربية أقصت أي جدل حول “قرار سيادي” تحقق ‏فيه الإمارات أو البحرين أو أي دولة أخرى مصالحها، وأساساً لا ‏فائدة في جدل كهذا، كذلك ينبغي أن تحاول الجامعة التعامل مع حقيقة ‏ماثلة هي أن قرارات التطبيع، أياً تكن دوافعها، تُشعر الفلسطينيين شعباً ‏وقيادة بأنهم يُستضعفون ويُهمّشون وبأن قضيتهم تخسر كلما تشتت ‏التضامن العربي من حولها. دعكم من حفلات الردح والبذاءة ‏والتخوين على مواقع التواصل الاجتماعي أو الفضائيات والصحف، ‏فلا مجال لمطالبة الجريح بأن لا يئن ويتألم ويصرخ، ولا يمكن منع ‏أصوات جادة ونزيهة من التعبير عن الخيبة والإحباط، وهذه غالبية ‏ساحقة حقيقية. فالقضية هي قضية فلسطينيين بمقدار ما هي قضية ‏رأي عام عربي ودولي تنامى مع الوقت وينظر اليها باعتبارها قضية ‏إنسانية وحقوقية ينتصر فيها القانون الدولي أو قانون الغاب. وحيثما ‏يُسحق الإنسان وحقوقه يكون ذلك تسويغاً لسحقهما في أي مكان، وإنْ ‏بأشكال ووجوه مختلفة ومقنَّعة. لكن الحال في فلسطين واضحة بل ‏وحشية الملامح.‏

لنقل واقعياً إن من الخطأ أخذ مسألة الاتفاقَين الإماراتي والبحريني ‏على محمل “التخوين” أو حتى الشك في نيات الدولتين حيال القضية ‏الفلسطينية. ولنلاحظ عموماً أن الدول العربية باتت في الحقبة الأخيرة ‏لا تقدم الى قضيتها “المركزية” إلا ما يخلّ بالتضامن معها، أي ‏الخلافات والانقسامات وحتى المشكلات الداخلية، وما عاد الفلسطينيون ‏يبادلونها إلا بانقساماتهم التي ألحقت أفدح الأضرار بقضيتهم. ‏ولنعترف بأن الجانب العربي انهزم في حروبه أمام إسرائيل بمقدار ما ‏انهزم في إدارة/ أو لاإدارة مسار السلام أمام التواطؤ الأميركي – ‏الإسرائيلي الذي بلغ مع إدارة ترامب ذروة اللاإنسانية واللاأخلاقية ‏وتغليب الاحتلال على أي سلام. وفي الحالين، الهزيمة والإخفاق، ‏ارتدّت التداعيات على العرب، وقد ربّوا أجيالهم طوال العقود ‏الماضية على التعاطف مع القضية الفلسطينية، ومن الطبيعي أن لا ‏تنظر غالبية العرب الى التطبيع مع إسرائيل على أنه سلام، أما القول ‏إنه لـ”مصلحة” الفلسطينيين فهذا متروك للاختبار، والمشكوك فيه هنا ‏هو الإسرائيلي (والأميركي) الذي راكم مع مصر والأردن والسلطة ‏الفلسطينية سوابق وسلوكاً وخُدعاً لا علاقة لها بالسلام.‏

ويقال الآن إن اتفاقات التطبيع مع إسرائيل تدشّن عصراً جديداً في ‏الشرق الأوسط، بل يصرّ كوشنر على عنونته بـ”السلام”، معتقداً أنه ‏وترامب ونتنياهو يبيعون سلعة لا يهم محتواها بل “الماركة” التي ‏تحملها. ولذلك فإن الدول المرحّبة وغير المرحّبة بالحدث الأخير في ‏البيت الأبيض لم تنخدع، وحتى الإعلامان الإسرائيلي والأميركي لم ‏يغفلا في غمرة الاحتفال بالاتفاقات أن السلام الحقيقي لا بدّ أن يكون ‏أولاً مع الفلسطينيين، ولا فائدة من الضغط عليهم ليقبلوا بإدامة ‏الاحتلال. وحين يروّج نتنياهو في كل مناسبة شعار “السلام مقابل ‏السلام”، فإنه يطيح مفهوم “الأرض مقابل السلام” الذي بُنيت عليه ‏مبادرة السلام العربية. ولا يعني ذلك سوى أن رئيس الوزراء ‏الإسرائيلي يستقوي بهذا التطبيع ليواصل ما فعله وأسلافه دائماً: ‏سرقة الأرض… ومع الأرض يُسرق مستقبل الشعب الفلسطيني ‏وحقوقه الأساسية ومقوّمات اقتصاده وعيشه بكرامة على أرضه. فهل ‏يصنع ذلك سلاماً؟

ليس لدى إيران وتركيا ما توفّرانه للفلسطينيين تعويض عن أي ‏تقصير أو عجز عربيين. تركيا لها علاقات تجارية وعسكرية جيّدة ‏مع إسرائيل، وإيران كانت تطمح لأن تزكّي إسرائيل (وأميركا) ‏نفوذها الذي خرّب أربعة بلدان عربية ودمّرها. إيران وتركيا ‏مستاءتان لأن محوريهما لا يحظيان باعتراف أميركي (وإسرائيلي).

‏لعل العقول الفارسية في طهران تدرك أن سياساتها التدخلية ‏والتوسّعية ساهمت بقوّة في نسج “جاذبيةٍ” غير متوقّعة لإسرائيل في ‏المنطقة. أما أنقرة فإن عقليتها الأردوغانية انحرفت بها الى التخبّط ‏بين أوهام “عثمانية” و”إخوانية”، فكان أن أضاعت البوصلة العربية. ‏ليس عند إيران ولا إسرائيل نموذج تهديه للفلسطينيين، أما تركيا فكان ‏عندها نموذج لكنها فرّطت به.‏

لكن، هل بات العالم العربي محكوماً بإنكار هويته والخضوع للمحاور ‏وصراعاتها، فيتفرّس أو يتترّك أو يتأسرل؟ حديث المحاور يفتح ملف ‏‏”النظام العربي الرسمي”، المتأرجح بين ثلاثة مصائر: البقاء ‏الرمزي، والزوال كأمر واقع، وإعادة إنتاج بعد “التصالح” مع إسرائيل. هذا يحتّم حوارات ومصارحات عميقة بين العرب، إلا إذا ‏باتت من المستحيلات. كانت تحوّلات “الربيع العربي” قد كشفت الستار ‏عن تدهور العلاقات بين الأنظمة والصراع بين “الأسلمة” و”اللبرلة”، ‏لكن تصدّع التضامن ولو الظاهري حول القضية الفلسطينية يشكّل ‏حالياً نقطة النهاية لنظام متهالك فَقَد كل فاعلية، ويُفقده الجدل الحالي ‏حول التطبيع أي معنى. جميع العرب مدعوون الى التفكير في ‏الفوضى التي بلغوها، إذا كانوا مصممين على صون هويتهم، ‏وملتزمين ولو وجدانياً إزالة الاحتلال ورفع الظلم عن الفلسطينيين، ‏وراغبين في تنقية العلاقات مع الشعوب وتصويب أطر التعاون بين ‏الحكومات. لا شك بأن ظلماً واحتلالات طرأت أيضاً على السوريين ‏والعراقيين واللبنانيين واليمنيين، لكن الفلسطينيين كانوا وحدهم على ‏الدوام عنصر التضامن بين العرب، وها هم يصبحون عنصر انقسام، ‏تحديداً بسبب تسلل إيران الى قضيتهم.‏

يستطيع الفلسطينيون الاحتجاج على أي تطبيع عربي مع دولة تريد ‏فرض احتلال دائم عليهم، لكنهم مضطرّون للتعامل مع متغيّرات ‏ووقائع تتطلّب منهم أفكاراً وسياسات لتصحيح أوضاعهم التي يشكون ‏منها هم قبل سواهم. لا يعني ذلك الرضوخ لـ”صفقة القرن” التي ‏رفضها العالم، ولا الخضوع لهوس ديفيد فريدمان أو غيره، بل إعادة ‏الاعتبار لقضيتهم ومشروعهم الوطني، وهذا في ذاته يطرح السؤال ‏على حركة “حماس”: هل تعمل للقضية أم لاستيلاء دائم على السلطة، ‏وهل تعمل من أجل فلسطين أم من أجل “امارة إسلامية” تابعة لإيران؟ ‏كان الإسرائيليون قد اغتالوا ياسر عرفات بالسم مع أنه هو مَن قام ‏بالاختراق السلمي الأول، وما لبثوا أن اغتالوا محمود عباس سياسياً ‏مع أنه/ أو لأنه لم يحدْ عن الخط السلمي، إلا أن المتغيّرات الدولية مع ‏ترامب واستضعافه للعرب فرضت واقعاً لا يمكن جبهُه فقط بالقعود ‏والانتظار ولا بلعن العرب مطبّعين وغير مطبّعين.

النهار العربي   ‏

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

مؤلف: عبد الوهاب بدرخان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *