تقوم الأجهزة الأمنية الفلسطينية بحملة أمنية في مخيم جنين تحت شعار «حماية وطن»، بهدف معالجة مشكلة وجود تشكيلات مسلحة خارج إطار القانون، وبما أن موقف الشارع منقسم تجاه الحدث بين مؤيد ومعارض من وجهة نظر أمنية ونضالية وسياسية، لنحاول فهم ما يحدث في جنين من زاوية اجتماعية، لعلنا نتوصل إلى فهم جذور المشكلة، وبالتالي إيجاد حلول مستدامة، وليس مجرد معالجة أمر طارئ.
سأنطلق من تصريحات لمقاتلين من «كتيبة جنين»، حيث قال أحدهم: «إن الحملة الأمنية تستهدف المخيم ولا تستهدف الكتيبة»، وبعضهم عبر عن هذا الشعور بكلمات أخرى، والأهم أن سلوك المجموعات المسلحة في المخيم يتطابق مع هذه النظرة، بل ويعبر عنها عملياً. حيث نلاحظ حالة التماهي ما بين مختلف الفصائل، لدرجة تشعر وكأن الانتماء الحزبي يتراجع لصالح شيء أكبر منه، سأسميه مجازاً «هوية فرعية» تكاد تتشكل لتضفي صبغة اجتماعية مشتركة تجمع أهل المخيم.
المهم في الموضوع أن هذا التكتل والشعور الجمعي تطغى عليه نظرة «التمايز»، ويتأسس على سردية «المظلومية»، أو الشعور بالغبن. وفي الواقع إن هذه المظلومية بدأت منذ وقت مبكر، وتحديداً إبان النكبة، حين خرجت جموع اللاجئين هائمة على وجهها في ربوع الأرض، لتتوزع على ستين مخيماً في الضفة والقطاع والبلدان العربية.
ستتعمق هذه النظرة وهذا الإحساس بالظلم في مخيمات اللجوء في المنافي العربية، بسبب تعرضها لمجموعة قوانين خاصة فرضتها عليها الأنظمة العربية، أدت إلى خلق مجتمع جديد، بثقافة خاصة، وشعور جمعي خاص، وهو مجتمع المخيم. تباينت تلك القوانين الخاصة والإجراءات الأمنية بين بلد وآخر، كان أسوؤها في لبنان.. بينما في سورية والأردن حصل اللاجئون على حقوق شبه كاملة.
لكن بيئة المخيم القاسية وغير الإنسانية ظلت العامل الأهم في تشكيل الوعي الوطني والاجتماعي والإنساني لابن المخيم، لذا كانت المخيمات الحاضنة الأولى للثورة الفلسطينية، وقد انخرط شبانها في صفوف الثورة، والتي كانت ثورة ضد الظلم (الاجتماعي والسياسي) بنفس القدر الذي كانت فيه ثورة على الاحتلال ومن أجل العودة والتحرير.
ومن هنا بدأت تتأسس رمزية وطنية للمخيم، فصار المخيم هوية الفلسطيني اللاجئ والذي صار فدائياً ومقاتلاً، وصار المخيم عنواناً لحق العودة، وضمانة لبقاء قضية اللاجئين حية في ضمير العالم.. لذا استهدفت إسرائيل المخيم منذ وقت مبكر؛ للقضاء على ما يمثله من رمزية وطنية، وللتخلص من أكبر عدد ممكن من اللاجئين، وبالتالي تعقيد قضية اللاجئين أكثر، وجعل حلها مستحيلاً، أو إيجاد حلول أخرى مثل التوطين والإذابة في مختلف بلدان العالم. وفي هذا السياق قامت إسرائيل وبمعاونة مباشرة وغير مباشرة من أعوانها في المنطقة بتصفية وتدمير العديد من المخيمات، من النبطية وتل الزعتر، مروراً بصبرا وشاتيلا وبرج البراجنة.. وصولاً إلى مخيم اليرموك.. مع استمرارية استهداف عين الحلوة وسائر مخيمات اللجوء.. والآن بعد تدميرها مخيم جباليا وسائر مخيمات القطاع ها هي تستهدف مخيمات الضفة.
ما سبق شرحه يتعلق بالجانب السياسي والنضالي، لنرجع إلى الجانب الاجتماعي.. حيث كبرت المخيمات وزاد عدد سكانها، بعضها ازدهرت وصارت تنافس المدينة في نشاطها التجاري والحرفي وفرص الاستثمار وتوفر أسواق كبيرة ورخيصة، وبعضها ظل صغيراً ومهمشاً.. ومع وجود أثرياء وفقراء، وحملة شهادات عليا وغير متعلمين، وعائلات كبيرة وأخرى صغيرة نشأت في المخيم طبقة خاصة فريدة لا يوجد مثيل لها بين الشرائح الاجتماعية في أي مجتمع آخر وهي طبقة اللاجئين، التي تختلف بسماتها عن طبقة العمّال والبرجوازية والطبقة الوسطى.. وظل المخيم بيئة اجتماعية وعمرانية ضاغطة وغير مريحة لحياة البشر، وظل يمتاز بسمات مختلفة عن سائر التجمعات السكانية في العالم (وكأنه عالم موازٍ): افتقاره للخصوصية، تعداد الأسرة الكبير، الفقر، البطالة، الازدحام، الفوضى، الأزقة الضيقة، انعدام الأفق المكاني.. ومع كل ذلك خرّج المخيم كوكبة من الأدباء والشعراء والمفكرين والمناضلين.
لكن أخطر ما عانى منه المخيم تلك النظرة السلبية التي كان يراها في عيون الآخرين، وكأنهم أدنى منزلة في السلّم الاجتماعي، ومن هنا استشعر بعض أبناء المخيم بضرورة تكتل المخيم في مواجهة النظرة السلبية
وللرد على المظلومية التاريخية، توحدت جميع الفصائل داخل مخيم جنين وكأنها تدافع عنه، أكثر من إحساسها أنها تخوض مقاومة ضد الاحتلال، وقد حُيّد الانتماء التنظيمي لصالح الانتماء للمخيم. وليت الأمر كان تجسيداً للوحدة الوطنية كما يبدو من النظرة الأولى، بل كان (في العقل الباطني الجمعي) خطاباً اجتماعياً ولكن بالسلاح، حيث يستشعر هؤلاء المسلحون بأهمية وجودهم وبقوتهم لأنهم يحملون السلاح، فلم يكن غريباً مباهاة البعض بصورهم مع سلاحهم، وتمسكهم به، باعتباره رمز القوة والمهابة وعنوان الكرامة.
بمعنى أن هناك تشوهاً اجتماعياً وثقافة سلبية يتحمل الجميع مسؤوليتها، خاصة أنها عميقة الجذور لدى أوساط عديدة في المجتمع الفلسطيني ككل. لذا، قبل الحلول الأمنية، وقبل التحليلات السياسية، وقبل الحديث عن مشروع إيران ودور»محور المقاومة»، والفوضى والفلتان، ومنح الفرصة والذريعة لإسرائيل أن تنفذ مخططاتها في التدمير والتهجير، واستنساخ نموذج حرب الإبادة في غزة، وأن ظروف الإقليم لا تسمح لنا بشن حرب، وضرورة إنفاذ القانون على الجميع، وترشيد المقاومة وعقلنتها، والاتفاق على إستراتيجية نضالية مشتركة، ووحدة الموقف الفلسطيني سياسياً، وميدانياً، وتعزيز الوحدة الوطنية، والحوار العقلاني والأخوي.. كل هذا صحيح وقابل للنقاش.. لكن علينا أن نعالج جذور المشكلة الاجتماعية.
لا تكفي زيارة الوزراء للمخيمات، ومنحها إعفاءات معينة (مياه، كهرباء..)، وتقديم الخدمات كافة دون تمييز، في الصحة والتعليم والتوظيف.. يتوجب على كل المجتمع الفلسطيني (مخيمات ومدناً وأريافاً) التخلص من كل نظرة سلبية تجاه المخيم، وهذه مسألة معقدة وطويلة الأمد وتحتاج برامج متخصصة وحديثاً طويلاً وشائكاً.
الخلاصة: كلنا مع المقاومة ونريد الحرية، لكن ليس بتشكيلات مسلحة عابرة، تفتقر لفكر ومنهج التحرر الوطني، هذا ليس بالخيار الصائب.. هذه طريق للفوضى وتدمير للبلد دون تحقيق أي هدف سوى التدمير الذاتي.
أرجو أن تنتصر لغة العقل، وأن يرجح الجميع مصالح الوطن والشعب على المصالح الحزبية، وليس لدينا ترف تجريب المجرب، ولا خوض مغامرات عسكرية سندمر بها أنفسنا.

عن الأيام

About The Author

1 thought on “المخـيـم

  1. المقال يعكس فهمًا عميقًا لجذور الأزمة في مخيم جنين، لكنه بحاجة إلى معالجة أكثر شمولية للجوانب الاجتماعية والسياسية. المشكلة ليست فقط في الفوضى المسلحة أو المظلومية التاريخية، بل في غياب مشروع وطني متكامل يعيد للمخيم دوره كرمز للمقاومة والتحرر، دون أن يبقى أسيرًا لظروفه الاجتماعية والسياسية القاسية. الحلول المستدامة تتطلب تجاوز المقاربة الأمنية إلى تنمية شاملة ودمج حقيقي للمخيمات ضمن النسيج الوطني الفلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *