المخصيون 2
هنا لا توجد رواية…لا توجدسيرة ذاتية أو تأريخ…..لا يوجد ترتيب زمني للأحداث..هنا شذرات لا طعم لها قد تكون وهما وقد تكون هي الحقيقة السوداء..لهذا لا تصنيف لما سيرد إلا عبثية النص،التي قد تكون ترفا للبعض،ويلقي به في أقرب حاوية للقمامة،وقد يجد البعض الآخر أن بها ما يستحق القراءة.
****
خرج من المنزل حانقا متوجها إلى أقرب مقهى ليعيد صفاء ذهنه، أحس ببعض الإرتياح حينما جلس على كرسيه في المقهى،خاصة عندما حياه النادل بالقول:”نورت القهوة يا استاذ،والله كانت مظلمة من غيرك”،إنتفخت أوادجه بعض الشىء ،جلس كالديك المنفوش ،”أخيرا أعطى البخشيش مفعوله”،هكذا خاطب نفسه حين طلب القهوة،إنه زبون “مياوم” في هذا المقهى منذ أن كان طالبا في الجامعة،لقد توسع حجمه مع مر السنين ليصبح كافتيريا للعشاق في قسم منه ومقهى للنارجيلة في الجزء القديم،تغير صاحب المقهى وعماله وحتى زبائنه أكثر من مرة إلا هو، فقد كان الحاضر الأبدي في هذا المكان.
قبل أن ينتهي من إحتساء القهوة أحس بإزدحام مفاجىء أمام المقهى ،نظر خارجا أبصر جنازة تمر أمامه،عربة إسعاف قديمة حولت إلى عربة لنقل الموتي،بضعة أكاليل من الورد الذابل وضعت دون ترتيب على مقدمة العربة التي ثبت على سقفها ميكرفون صدء ينقل عبره أيات من الذكر الحكيم يتلوها شيخ بدين حشر في المقعد الأمامي إلى جانب السائق،كان العرق يتصبب من جبين الشيخ،فنحن في شهر اب اللهاب وهو يرتدي كامل بزته الرسمية،القفطان والسروال والعباءة السوداء والعمة الحمراء ،كأنه ارتدى كل ملابسه المنشورة على الحبل لهذه المناسبة الجليلة،السائق يجفف عرقه بمنديل اسود من الوسخ ولا يخف ضيقه وتبرمه من سلوك هذا الشارع الضيق والمزدحم،صوت الشيخ يخرج عبر الميكروفون ممزوجا بزعيق زمور الانذار.خلف العربة تابوتا يحمله عشرة رجال،التابوت لف بقماش من القطيفة السوداء المهترئة أطرافها من كثرة الاستعمال،وضع عليه نسخة من المصحف الشريف،خلفه يسير المشيعون،لا يدري لم بحلق في وجوههم،معظمهم فعل بهم الحر والتعب فعلهما ،كانوا مبللين بالعرق،مغبرين يرتدون ثيابا رثة ولا يظهر عليهم رغد العيش،كأنهم عتالين أو عمالا أو باعة متجولين،منصتين الى التلاوة الاحينما يصدر صوت من بينهم “تكبير،تكبير”،حينها يردد البعض بصوت وهن”لا اله الا الله…محمد رسول الله “،أو حين يقطع المقرىء قرائته مخاطبا المارة وسكان الحي”انتقل الى رحمة الله تعالى المغفور له الشاب غازي غزوان الغزاوي،سامحوه يا اخوان،سامحوه يا أهل الجيرة يرحمنا ويرحمكم الله،الفاتحة على روح المرحوم”،إنتبه إلى أن جميع زبائن المقهى وقفوا رافعين أيديهم إلى السماء قارئين سورة الفاتحة ،ثم دعوا للميت بالرحمة والمغفرة،وقف عندئذ وفعل كما فعلوا،لكنه إعتبر الأمر فألا سيئا،صباحا معكرا كالقطران وجنازة على الريق، منظر التابوت المجلل بالسواد أرعبه،لقد تخيل نفسه ممدا داخله بدلا من الميت،حتى أنه شاهد جثته تبتسم وتلوح له،لم يتذكر أين رأى المجرم الفار،مما زاد كربه،لكنه متاكد انه يعرفه،هل التقاه في حلب ،أم دمشق،أم بغداد،أم المغرب ،أم في مدن المغرب؟هل عرفه باسم محدد،أم كان اسمه يتغير وفقا للزمان والمكان؟.
كان عليه أن يعود بالذاكرة إلى ما يقارب الخمسين عاما ،لعله يتذكره.
عاد بذاكرته الى أول سنة في كلية الطب،كان ذلك في عام 1974، حينها وصل الى مدينة دمشق في أواخر شهر نوفمبرللتسجيل في الجامعة قادما من الكويت،وكانت الدراسة قد ابتدأت منذ نهاية شهرأيلول تقريبا،كان عمره17عاما،أول مرة يسافر وحيدا إلى مدينة لا يعرف بها أحدا.ودعه والداه في المطار مزودين اياه بالنصائح الجوهرية:اياك ورفقة السوء،لا تدخن،لا تقرب المنكر،ادرس جيدا وانجح بامتياز كعادتك،وطبعا أهم نصيحة من والدته:”دير بالك ياما من البنات والاعيبهم،الشاميات غنوجات ودلوعات “،ومن كثرة ما ركزت على هذا الامر تخيل نفسه “الن ديلون” أو” خالد ابن الوليد” جاء فاتحا دمشق،وظن أن البنات ستتراكضن عليه ويمزقن ثيابهن ما أن يلمحنه نازلا من سلم الطائرة،ختم والده الوصايا العشر قائلا:”أهم شىء لا تقرب السياسة والأحزاب ومنظمات المقاومة،هؤلاء لا يأتي منهم إلا خراب البيوت وضياع مستقبلك،وبدلا من أن ترجع الينا طبيبا يشار له بالبنان سترجع صائعا ضائعا”،كان يستمع لهما دون تركيز فهما لم يقولا له أين سيسكن؟وكيف يستدل على الجامعة،من أين يتدبر معيشته فكل ما معه مئة دولار فقط لا غير،اذا وقع له إشكال لمن يلجأ؟العديد من الأمور التي تؤرقه لم يتحدثا عنها ولم يعدانه لها .قبل اياديهما وتوجه الى مكتب الوزن ساحبا حقيبته السوداء الضخمة،لم يستطع أن يمشي سوى بضعة خطوات حتى أحس بالتعب،نظر إلى الحقيبة مستغربا ثقل وزنها وضخامتها،ضحك عندئذ فهي تضم في جنباتها كل شيىء،ملابسه،مناشف،غطاء سرير ومخدة،عدة الحلاقة،صابونا وليفة،ساعة “بيغ بن”،لديها رنات تنبيه” توقظ الميت من نومه “كما افتخر والده حين اشتراها وجربها،جرابات وملابسا داخلية،نعلا للمنزل،مرطبانات بلاستيكية تحتوي زعترا وميرمية وبابونجا ونعنعا يابسا وملوخية ناشفة وعناقيد من البامية المجففة ولبن جميد و”شنكليش” ،حجرحمام أسود،علبة بلاستيك متوسطة الحجم تحتوي معمولا وكعكا، حينما أتمت والدته ترتيب الحقيبة بدت مثل سوق الجمعة أو كما قالت أخته حقيبة حاوي.بشق الأنفس رفعها واضعا اياها على الميزان،توجه الى الجوازات ،وقبل أن يصعد إلى قاعة الترانزيت لوح إلى والديه مودعا،أحس أنه يترك روحه خلفه.
بعد انتظار لأكثر من ساعة صعد الى الطائرة ،اختار مقعدا بجانب النافذة،جلست إلى جانبه حسناء،نظر اليها خلسة فهاله جمالها،تلك كانت أول مرة في حياته يقترب من فتاة إلى هذا الحد،خيل اليه أن كل من في الطائرة قد سمعوا دقات قلبه ولاحظوا إرتباكه،إلا الفتاة التي لم تنتبه اليه بادىء الأمر،لكنها حين التفتت صوبه ابتسمت ،وقبل أن يرد لها الإبتسامة انفجرت بالضحك وهي تشير اليه،أحس بالحرج الشديد،خاصة أنه لم يجد سببا لضحكها المتواصل،فهو يرتدي ملابس أنيقة:بذلة جديدة لونها قمر ديني فاقع تحتها قميص من الساتان الأصفر اللميع مع ربطة عنق خضراء حشيشية،حذاء بني فاتح.كان يعتقد أنه أشيك شاب على الطائرة،تصرف جارته أربكه وجعله ينكمش على نفسه ،حتى الأكل تظاهر أنه غير مهتم بتناوله رغم أنه كاد يموت من الجوع،ومجرد أن قامت الفتاة متوجهة إلى الحمام حتى أجهز على الطعام بلمح البصر،وقام مسرعا مبدلا مكان جلوسه،أحس بالراحة لتبديل مكانه والخلاص من الفتاة،لكنه ما أن جلس في مقعده الجديد حتى إنتابه الخوف،فالطائرة مع كل مطب جوي أصبحت تقفز ومعها كان قلبه يكاد أن ينخلع من مكانه ، أحس أن الطائرة ستقع وهو هالك لا محالة،هكذا أمضى معظم الرحلة يقرء الفاتحة ويتشاهد كلما اهتزت الطائرة،لكن الامور سارت بعد ذلك على ما يرام .حين وصل مطار دمشق كان التعب والدوار قد نالا منه،خرج من الطائرة باحثا الى اين يتوجه،وخوفا من الضياع لحق ببقية الركاب ،وهكذا أنهى اجراءات الجوازات وتفتيش الحقائب دون مشاكل تذكر،كما بدل المئة دولار الى عملة سورية فساوت 325 ليرة بالتمام والكمال وهو مبلغ محترم في ذلك الزمان يكفيه شهرين إن أحسن تدبير أموره.
خارج المطار أصابته الحيرة:أين يتوجه؟الساعة قاربت الخامسة مساء والجامعة مقفلة وأصلا لا يعرف مكانها وعليه أن يودع الحقيبة مكان آمن ليتسنى له الحركة بسهولة ويسر،