المحجوب أو المسكوت عنه في نقاش الخيارات الفلسطينية…مساهمة في النقاش مع خالد الحروب وسمير الزبن وعوني المشني
هذه مجرد مساهمة في النقاش المطروح بشأن الخيارات الوطنية لفلسطينية، بعد استفحال أزمة العمل الوطني الفلسطيني، التي باتت تشمل الخيارات والكيانات والعلاقات الداخلية وأشكال الكفاح، سيما على ضوء أفول عملية التسوية، وانسداد الأفق أمام إقامة دولة مستقلة في الضفة والقطاع، والتحديات التي تطرحها خطتي ترامب (صفقة القرن) ونتنياهو (ضم الضفة أو أجزاء منها.
تتوخّى هذه المقالة تركيز النقاش على المحجوب، أو المسكوت عنه، في مسؤولية القيادة الفلسطينية عن الخيارات السياسية التي تم تبنيها، وطريقة إدارتها للوضع الفلسطيني، وللكيانات الوطنية. أيضا، فإن هذه المساهمة تتوخى تعزيز الإدراك بأن المشكلة لا تكمن، فقط، في تلك الخيارات التي جرى تبنّيها، مع الإصرار عليها لأكثر من ربع قرن، فقط، وإنما هي تكمن، أيضا، في حيز الممارسة السياسية، وآليات صنع القرار، وتخلف العلاقات الداخلية، وطريقة إدارة الكيانات الجمعية (المنظمة والسلطة والفصائل)؛ هذا من جهة.
من جهة أخرى، فإن هذه المساهمة، تحاول لفت الانتباه إلى ضرورة التمييز في النقاش، بين خطابات القيادة/السلطة التي تجهد لتبرير مآلات الخيارات التي تبنتها وطرق العمل التي انتهجتها، بإحالة مكامن الأزمة الوطنية الفلسطينية الشاملة، إلى موازين القوى، وإلى صعوبات موضوعية أو خارجية، للتغطية على إخفاقاتها، وإضفاء مشروعية على دأبها الحفاظ على مكانتها في القيادة والسلطة، وبين تلك الخطابات، أو التنظيرات، التي تحاول تجميل أو تبرير الواقع القائم، من خلال إضفاء طابع منطقي، أو “أكاديمي”، على خيارات القيادة الفلسطينية وطريقة إدارتها للوضع الفلسطيني، وهي خطابات مقنّعة، تحاول، في أغلب الأحوال، تغطية تموضع أصحابها في هذا الإطار أو ذاك. ولعل هذا ما توصل إليه خالد الحروب، بقوله: “بعد مرور أكثر من ربع قرن على قيام السلطة الفلسطينية لم تعد هناك أي محاججة تتسم بقوة المنطق النظري أو العملي على الأرض بإمكانها المراهنة على اعتبار هذه السلطة مرحلة انتقالية تقود إلى كيانية فلسطينية سيادية حقيقية.” (“سلطة أوسلو: بين “الكيانية الفلسطينية” و”البيروقراطية الفلسطينية”، 29/7، “ملتقى فلسطين”)
ويوضّح عوني المشني ذلك في اعتباره أن ثمة تيار “يحاول إعادة إنتاج نفسه من جديد عبر تهميش مستويات الفشل وتصغيره وإبراز انتصارات وهمية، واستدعاء أدوات عمل مثلومة، وهذا التيار مهمته شراء الوقت بوضع أهداف جديدة واختلاق مهمات جديدة بهدف خداع الجماهير وإطالة أمد المرحلة. ” وعنده فإن أزمة هذا التيار تكمن في “انه استنفذ دوره وإمكانيته وأصبح ظهره مكشوفا ولم يعد قادرا على إنتاج انتصارات الوهم…” (“مقدمات لفهم آليات التغيير السياسي في فلسطين”، 24/7، موقع “ملتقى فلسطين”)
على أية حال فإن هذا النقاش يستدعي تأكيد عديد من الحقائق، التي يجري طمسها أو إزاحتها جانبا، وأهمها:
أولاً، لا يمكن الفصل بين بين الخيارات السياسية التي تبنتها القيادة الفلسطينية، وبين نهجها في إدارة الكيانات السياسية (المنظمة والسلطة). وعلى ذلك، فإذا كان يمكن إحالة الإخفاق في خيار سياسي معين إلى الخلل في موازين القوى لصالح إسرائيل، أو إلى الظروف الخارجية والموضوعية، ولو بنسبة 70 أو 90 بالمئة (ثمة حصة للجانب الفلسطيني طبعا)، فإن تلك الإحالة غير صحيحة فيما يخص طريقة إدارة أو بناء القيادة الفلسطينية لأوضاعها (أي المجتمع والموارد والكيانات)، فهنا تتحمل القيادة الفلسطينية المسؤولية عن كل التدهور والترهل والفوات الحاصل، ولو بنسبة 70 بالمئة (فالمداخلات الخارجية تتحمل بعضا من المسؤولية هنا أيضا). اللافت في الأمر أن كل التبريرات والتنظيرات تنأى بنفسها عن تحميل تلك القيادة المسؤولية عن حال التدهور في السلطة (الفساد والمحسوبية وتضخم أجهزة الأمن والتفاوت في المرتبات مثلا)، كما بشأن مسؤوليتها عن تهميش منظمة التحرير، وضعف المبنى الديمقراطي للحركة الوطنية الفلسطينية، ويأتي ضمن ذلك تآكل شرعيتها، والتفرد باتخاذ القرارات، وصولا إلى تحويل المناضلين (السابقين) الى رجال سلطة، وأجهزة أمنية، مع مراتب وامتيازات والقاب. وقد عرض سمير الزبن لتفاصيل عن ذلك، في مقال له تحدث فيه عن القيادة الفردية، وعن إمساك “عدد محدود من الأشخاص آلية القرارات الفلسطينية في ظل غياب المؤسسات، وكانت الفردية هي العنوان للممارسة السياسية التي استقرت عليها آلية صنع القرار الفلسطيني منذ النصف الثاني من السبعينات، وبفقدان آليات المحاسبة والمساءلة التي تتيح للشعب مساءلة قيادته، في كل مرحلة، فقد تمت الهيمنة على القرار السياسي الفلسطيني، وبهيمنة القيادة الفلسطينية على الإطار السياسي الفلسطيني ـ منظمة التحريرـ وجدت نفسها تهيمن على التجمعات الفلسطينية، دون أن تملك هذه التجمعات القدرة على محاسبتها. “صناعة القرار الفلسطيني بين التكيّف والفردية”، 20/7، “ملتقى فلسطين” https://wp.me/pbemW1-106.
ثانيا، في نقاش التنظير، أو التبرير، للواقع القائم ثمة محاولة للقفز عن خيار أوسلو (1993)، وكأنه لم يمر أكثر من ربع قرن على ذلك الخيار، وعلى تلك السلطة. ويأتي ضمن ذلك تجاهل مسؤولية تلك القيادة عنه، علما انه غير خيار الحل المرحلي المعروف، لأنه لم يستند الى مرجعية دولية ولا الى شرعية فلسطينية لدى السير فيه، ولأنه انطوى على ثغرات أساسية اعترفت بها القيادة الفلسطينية نفسها، الذي وصفته مرة بأنه مقامرة أو مغامرة. وقد يجدر التذكير هنا أن هذا الخيار لم ينطو على تسوية، أو وهم تسوية فقط، إذ كانت تأثيراته أكبر وأخطر، فهو نقل الحركة الوطنية الفلسطينية من كونها حركة تحرر وطني ضد استعمار كولونيالي استيطاني إحلالي عنصري، الى سلطة تحت الاحتلال، ووفقا لشروطه، وحتى من دون توصيفه كاحتلال، ومن دون توصيف أراضي الضفة وغزة كأراض محتلة، ودون نزع لشرعية الاستيطان ودون تعيين للحدود ودون تحديد ماهية الحل النهائي (في نص القرار). أيضا، فإن ذلك الخيار كان اختزل قضية فلسطين بالأراضي المحتلة عام ٦٧، في تماه مبطن مع الرواية الإسرائيلية، بانطلاقه من اعتبار أن الصراع بدأ بسبب احتلال إسرائيل الضفة والقطاع، وليس بسبب قيامها على حساب شعبنا، في تخل عن الرواية الفلسطينية المتأسسة على النكبة (1948)، وفي ذلك إطاحة بقيمتي الحقيقة والعدالة (بحسب تعبير لإدوارد سعيد)، التي لابد منها لأي تسوية تاريخية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لأن هذين العنصرين هما اللذان يقطعان من الصهيونية ومع إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية. ولنلاحظ أن إسرائيل التي وقّعت اتفاق أوسلو وتحدثت عن التسوية لم تتخل البتة عن روايتها التاريخية، التي تستند الى المزاعم الدينية والادعاءات التوراتية، بدليل إنها ظلت تصارع على كل فلسطين. أيضا فإن أصحاب هذا الخيار يبدون كمنفصمين عن الواقع إذ خيارهم يعتمد المفاوضات، أي على “كرم” أخلاق إسرائيل، ولا يستند لأي منظور قوة، وها نحن بعد ٢٧ عاما على أوسلو وإسرائيل مازالت تسيطر على كل شيء، ولا شيء البتة يوحي بأنها ستمكن الفلسطينيين من دولة مستقلة ولو في مساحة اقل، علما إنها لم تنفذ بعد استحقاقات الحل الانتقالي الذي تم النص عليه في اتفاق أوسلو، والذي انتهى في العام 1999 أي قبل عقدين!
ثالثا، في الحديث عن منظمة التحرير، وعن المقاومة، في أي شكل كانت، أو أتت، يفترض ألا ننسى أن سياسات أكثر من ربع قرن أدت إلى توسيع الفجوة مع الشعب، كما أدت إلى زعزعة إدراكات الفلسطينيين لأنفسهم كشعب واحد، إذ غابت منظمة التحرير، وبات الحديث عن أن ترجمة حق تقرير المصير للفلسطينيين يتمثل بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، عبر حل لجزء من الشعب في جزء من الأرض مع جزء من حقوق، ما يعني تفيك مفهوم وحدة الشعب الفلسطيني. ولعل أكبر شاهد على ذلك يتمثل في تعامل القيادة الفلسطينية/السلطة مع منظمة التحرير، فهي أكثر طرف أضعف المنظمة، بحيث خسرنا المنظمة ولم نربح السلطة. ولنلاحظ، مثلا، أن المجلس الوطني الفلسطيني لم يعقد سوى دورتين عاديتين، الأولى وهي الدورة الـ 21 (غزة، 1996) والدورة الـ 23 (رام الله 2018)، أي في غضون 22 عاما (باستثناء الدورة الـ 22 لعام 2009، التي كانت استثنائية لترميم عضوية اللجنة التنفيذية)، ورغم ذلك فإن القيادة لم تفعل شيئا لإعادة بناء منظمة التحرير، انطلاقا من إعادة تشكيل المجلس الوطني عبر الانتخابات (حيث أمكن)، إذ إنها في تلك الفترة كانت مشغولة بتعزيز مكانتها كسلطة، في ظل مراهنتها أو أوهامها عن إمكان تحويل السلطة إلى دولة، بالمفاوضات. ولنلاحظ أيضا، أن أخر انتخابات رئاسية وتشريعية جرت في العامين 1996 ـ 1997، أي أن ثمة مشكلة شرعية وترهل وقيادة فردية، في المنظمة وفي السلطة، هذا غير الحديث عن انقسام النظام الفلسطيني، وغير ذلك من قضايا تمس مجمل شؤون الفلسطينيين في الداخل والخارج.
رابعا، إن الكلام عن تحويل السلطة إلى دولة، هو محاولة لتجديد وهم أوسلو، وكأن شيئا لم يكن، فلماذا لم يتم ذلك من قبل؟ وما الذي كانوا يفعلونه إذا؟ لذا فإن مشكلة المجادلين الآن، أو المنظرين، انهم يتجاهلون، إضافة إلى كل ما تقدم، أن القيادة الفلسطينية لم تهيئ ذاتها ولا شعبها لمواجهة لحظة مثل هذه، علما أنها مرت بذلك بعد انتهاء المرحلة الانتقالية (1999)، وأنها اختبرت ذلك صراحة في مفاوضات كامب ديفيد2 التي كشفت فيها إسرائيل حقيقة موقفها من الاتفاق المذكور، بأن سقفه يقف عند حدود حكم ذاتي للسكان فقط، حتى لو تمت تسمية الكيان الفلسطيني دولة أو إمبراطورية. وعلى أية حال فإن التحول إلى دولة، من تحت إلى فوق طرحت منذ أكثر من عشرة أعوام إبان ترؤس سلام فياض للحكومة، كما طرحها صائب عريقات في مؤتمر لمركز الأبحاث الفلسطيني (رام الله 2018) منذ سنتين، فما الذي تم فعله طوال العامين السابقين؟
هذا كله يؤكد مشروعية أسئلة عوني المشني فـ”هل تمتلك السلطة مقومات فرض سيادتها (يقصد كدولة) بالقوة؟”، و “كيف لدولة لا تمتلك مقومات التنقل داخل حدودها، ولا الكهرباء أو المياه؟! كيف لدولة لا تستطيع جمع ضرائبها حيث المعابر بيد الإسرائيلي وهو من يحبي الضريبة؟! وبشأن الستون بالمائة من أراضي الدولة الفلسطينية وهي مناطق مصنفة ج وتعني سيطرة أمنية ومدنية إسرائيلية، هل نستطيع إدخال شرطي واحد اليها بدون التنسيق مع إسرائيل ؟!” وعليه فهو يرى أنه “عندما سقطت أوهام الانتقال بالسلطة الى دولة عبر المفاوضات وأصبحت الحقائق عارية يبحث أنصار هذه التجربة الفاشلة عن وهم جديدة لبيعه للجمهور، لإطالة أمد المرحلة، وحتى لا يعترفوا بالفشل بما يحمل هذا الاعتراف من استحقاقات، الوهم الجديد التحول الى دولة أو تغيير وظائف السلطة، وهم يستمر لعشرات السنوات التي تضاف الى ربع قرن من الوهم السابق، هو شراء للوقت لا أكثر، هو عودة لذات المتاهة لا أكثر، هو إعادة إنتاج الفشل لا أكثر، هو استخفاف بعقول شعبنا لا أكثر.” (“السلطة الوطنية إنجاز وطني أو عقبة في طريق التحرر ؟!”، 30/7، “ملتقى فلسطين”) https://wp.me/pbemW1-16f.
هذه هي الملاحظات أو المسائل الأساسية التي يتخفى خلفها بعض المنظرين لفكرة التحول إلى دولة، من دون أي سند واقعي، أو عملي، والتي يحاولون من خلالها، أيضا، التغطية على إخفاق القيادة الفلسطينية. ولعل تلك مناسبة لتأكيد التوافق مع الخلاصات الأربع لخالد الحروب، في محاججته المتعلقة بهذا الموضوع، والتي تحمل القيادة/السلطة السائدة المسؤولية عن: أولا، خفوت “روح المقاومة بشكل مؤسف، وخصوصاً الشعبية، في ضوء تشتيت البوصلة الوطنية والادعاءات المتعددة، مُضافاً إليها تطبيع العيش تحت الاحتلال بوهم وجود “كيانية فلسطينية”…ثانيا، “فساد “الدولة” قبل قيام الدولة”. ثالثا، ” إنتاج أشكال من الحرب الأهلية والانقسامات قبل التحرير”. رابعا، “الاقتصاد الاتكالي الريعي الذي أنتجته أوسلو هو في الجوهر أحد المكونات الأوسلوية الأساسية الذي يمنع عملياً نمو اقتصاد فلسطيني (حتى ضمن البيروقراطية الفلسطينية) يتمتع بالحد الأدنى من الاستقلال عن المُحتل نفسه.” خامسا، “أنتجت هذه البيروقراطية استبداداً أيضاً قبل قيام الدولة، على غرار الحالات العربية المعروفة، ذلك أن واقع حال السلطة الراهنة لم يعد متأسس على أي شرعية من الشرعيات بما فيها الشرعية الانتخابية (تحت الاحتلال) …ولا يوفر كل هذا أي بنية تأسيسية واعدة لـ “جسر” يأخذ هذه البيروقراطية إلى كيانية حقيقية.” (“سلطة أوسلو: بين “الكيانية الفلسطينية” و”البيروقراطية الفلسطينية”، 29/7، “ملتقى فلسطين”)https://wp.me/pbemW1-150.
قصارى القول، ثمة خيارات سياسية، وكيانات سياسية، وصلت إلى نهاية تاريخها، أو باتت مستهلكة، ومفوّتة تاريخيا، وثمة طبقة سياسية يهمها الحفاظ على مكانتها وامتيازاتها، ومن دون إدراك ذلك، ومن دون التمهيد لصياغة اجماعات وكيانات وطنية جديدة، ربما سنبقى في هذه الدوامة، مع سلطة ليست بسلطة، وحركة وطنية لم تعد كذلك إلا بالإسم، ومع منظمة لا يتم استحضارها إلا في المناسبات، وطبعا مع طبقة سياسية ستظل تطلع علينا دائما بتنظيرات لا صلة لها بالواقع، ولا تلوي على شيء، سوى بقائها.