اللوبي الصهيوني وأمريكا المتصهينة

الأيديولوجية الصهيونية مستقرة في الولايات المتحدة منذ بداية القرن العشرين. وقد بدأ الصهاينة ينشطون لصالح إقامة دولة يهودية في فلسطين منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، لكن انخراطهم الأقوى في أنشطة تأسيس الكيان الصهيوني على أنقاض الشعب الفلسطيني، جاء في مؤتمر بالتيمور في مايو 1942 في مدينة نيويورك. ذلك المؤتمر الذي شهد انقلابا حقيقيا في قيادة الحركة الصهيونية، حيث صعد المتطرفون إلى قمة الهرم وتضمن بيان بالتيمور بندا قويا يرفض الكتاب الأبيض، الذي أصدرته بريطانيا عام 1939 لتحديد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ويدعم الهجرة اليهودية دون قيد أو شرط إلى فلسطين، وإقامة الوطن القومي لليهود، ولم يأت على ذكر السكان الأصلانيين، بل تبنى فكرة الحسم بالقوة لإقامة الدولة.
هذه القوة الناهضة تدخلت في انتخابات الرئاسة الأمريكية بشكل قوي، لأول مرة عام 1948، لإنجاح لاري ترومان لدورة ثانية 1949-1953. وضعت الحركة الصهيونية ثقلها وراء ترومان، ورد لهم الجميل، حيث دعم قرار التقسيم 181 (1947) رغم معارضة وزارة الخارجية، وكان أول من اعترف بالكيان الصهيوني بعد إعلان بن غوريون بـ11 دقيقة فقط في مايو 1948.

جزء كبير من الشعب الأمريكي، خاصة من هم دون سن الخامسة والعشرين، بدأوا يتفلتون من سيطرة اللوبي الصهيوني وينسفونه من جذوره ويرفعون من سردية الحق والعدل والحرية

السيطرة على رأس الهرم

في السنوات اللاحقة بدأ اللوبي المؤيد لإسرائيل ينتشر ويتمدد ويشكل مجموعات الضغط في كل اتجاه، ووضع خطة للسيطرة على مراكز القرار، وتأييد إسرائيل المطلق دون اعتراض أو مراجعة لسياساتها، على أساس قاعدة أن دور اللوبيات الصهيونية دعم إسرائيل فقط، وعلى القيادات الإسرائيلية أن تدير سياستها كما تشاء. قسمت اللوبيات الصهيونية المجتمع الأمريكي إلى ثلاثة أقسام، ورسمته على شكل هرم. وضعت 5% على رأس الهرم وهم صناع السياسة ويجب التحكم فيهم بشكل شبه مطلق، ثم تأتي الدائرة الثانية المكونة من 15% وهم صناع الرأي العام، ويجب السيطرة شبه المطلقة على هذه الفئة، التي تشكل حلقة بين رأس الهرم وقاعدته العريضة. ويبقى 80% وهم عامة الشعب الذين سيتلقون آثار القرارات والتوجهات السياسة من رأس الهرم، ثم يتم تعبئتهم وتوجيههم وتثقيفهم على أيدي صناع الرأي العام. والنتيجة ستسير البلاد كما يريدون تماما، وتصبح الرواية الإسرائيلية منتشرة ومتجذرة تماما من رأس الهرم إلى آخر حلقة من قاعدته. وهذا ما حدث خلال نحو قرن. أما الـ5% فهم أعضاء الكونغرس، بمجلسيه النواب والشيوخ، والرئيس نفسه وأعضاء حكومته من وزراء ونواب وزراء ومستشارين ورؤساء أجهزة أمنية وقادة الجيش وحكام الولايات. وقد لا يزيد عدد هذه الفئة عن خمسة آلاف شخص، أقل أو أكثر قليلا. وأما الـ15% فهم رؤساء تحرير الصحف الرئيسية والكتاب المشهورون والمؤثرون، ورؤساء الجامعات والكليات، خاصة فئة جامعات النخبة، وكذلك رؤساء الشركات الكبرى والمؤسسات الصناعية الضخمة، مثل شركات صناعة الأسلحة، والمؤسسات الإعلامية الكبرى وشركات الإنتاج السينمائي ومؤسسات العلاقات العامة ورؤساء البنوك وكبار المحامين والأطباء ومعاهد البحوث. وهذه الفئة ذات حدود مفتوحة، وقد يصل عددها إلى مليوني إنسان أو أكثر. وقد تشمل أيضا الممثلين والمغنين ورجال الدين الكبار وغير ذلك. كل من يطفو إلى السطح ويصبح مؤثرا وفاعلا يتم وضع خطة لاحتوائه وتوجيهه، كما تريد المؤسسة. النتيجة أن المؤسسة الصهيونية الداعمة للكيان في الولايات المتحدة، تعتقد أنها إن سيطرت على الـ5% بشكل شبه مطلق وعلى فئة الـ15% بشكل كبير، يستطيع هؤلاء التحكم في الرأي العام ونسبة الوعي وطريقة تفكير غالبية الـ80%، وحتى لو خرج عن الصف 10-15% وتمردوا على التلقين المعد لهم لن يغير ذلك شيئا.

العمل المنظم

أنشئت عشرات منظمات الضغط المناصرة لإسرائيل، لكن ظل أهمها لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC) التي أنشئت عام 1963 المدافعة عن السياسات المؤيدة لإسرائيل لدى السلطتين التشريعية والتنفيذية للولايات المتحدة، التي تضم أكثر من ثلاثة ملايين عضو و17 مكتباً إقليمياً، ومجموعة كبيرة من كبار المتبرعين. وتعد الإيباك إحدى أقوى مجموعات الضغط في الولايات المتحدة، إن لم تكن أقواها على الإطلاق، ومؤتمرها السنوي يضم آلاف المؤيدين والأنصار وكبار مسؤولي الدولة من الحزبين والبيت الأبيض. وسياسة الإيباك تقوم بكل بساطة على الثواب والعقاب. كل من يقف داعما لإسرائيل يكافأ، وكل من يقف في وجهها يعاقب ويتم العمل على تدميره، والعمل على إسقاطه ودعم منافسيه. وقد نشر الأكاديميان جون ميرشايمر من جامعة شيكاغو، وستيفان والت من جامعة هارفارد عام 2007 كتابا بعنوان «اللوبي الإسرائيلي وسياسة الولايات المتحدة الخارجية»، الذي فصّل فيه الكاتبان قدرات اللوبي على تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية لتنسجم مع المصالح الإسرائيلية، حتى لو لم تكن تلتقي مع المصالح الأمريكية. كما أنشئ عام 1956 «مؤتمر رؤساء المنظمات الأمريكية اليهودية الرئيسية»، التي تضم خمسين منظمة أساسية، كي يتم تنسيق المواقف والتوجه بأصوات وسياسات متقاربة وتوزيع الأدوار بشكل منظم، كي تنشر حالات الوعي المطلوبة والتأثير على رأس الهرم، والدائرة الثانية من الهرم كي توجه القاعدة الكبرى من الجماهير باتجاه دعم الكيان الصهيوني.

البوصلة تشير إلى إسرائيل

حسب قوانين هذا اللوبي، حق التعبير مكفول، إلا إذا تحدى السردية الإسرائيلية، حقوق الإنسان تحترم، إلا إذا تعلق الأمر بانتهاكات ترتكبها إسرائيل، حل النزاعات بالطرق السلمية والاستثناء لإسرائيل، وصفقات الأسلحة الأمريكية مشروط استخدامها لأغراض دفاعية، إلا عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، فلا ضوابط في استخدامها، الصحافي حر في ما يقول إلا إذا انتقد إسرائيل، وعضو الكونغرس يمكنه انتقاد الرئيس الأمريكي والوزراء الأمريكيين والسياسة الأمريكية، أما إذا اقترب من إسرائيل وتصرفاتها وفاشيتها، فيتم التصدي له والعمل على تدميره. والقانون الدولي ممتاز إذا وجه لإدانة كوريا الشمالية وإيران وفنزويلا وروسيا والصين وبيلاروس وتركيا والجزائر، أما إذا أشار إلى انتهاكات إسرائيل وجرائمها فالقانون الدولي خاطئ وليس إسرائيل. والمحكمة الجنائية الدولية رائعة عندما تصدر مذكرة لاعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكنها منحازة ومعادية للسامية وقضاتها مجرمون يجب أن يعاقبوا على فعلتهم الشنيعة، عندما تنوي (فقط تنوي) إدانة نتنياهو ووزير دفاعه) ويجب أن يتم تهديدهم شخصيا هم وعائلاتهم كما فعل 12 عضوا من الكونغرس. والمظاهرات في الشوارع والجامعات والمدارس، حق يكفله الدستور إلا إذا كان موجها ضد جرائم الإبادة الجماعية، التي يمارسها الكيان في غزة والضفة المحتلة فتصبح فوضى ومعاداة للسامية ونشر خطاب الكراهية.
أحداث غزة الأخيرة كشفت حقيقتين أساسيتين. كم أن المؤسسة الصهيونية متغلغلة في فئة صناع القرار وصناع الرأي العام من جهة، وكيف استطاعت وسائل التواصل الاجتماعي ونشر المعلومات بطريقة سريعة وفاعلة، بعيدا عن وسائل الإعلام التقليدية، أن تطيح بالرواية الصهيونية المستقرة لأكثر من 70 عاما. الأرض تميد من تحت أرجل اللوبيات الصهيونية. وجزء كبير من الشعب الأمريكي، خاصة من هم دون سن الخامسة والعشرين، أجيال المستقبل، بدأوا يتفلتون من سيطرة اللوبي الصهيوني وينسفونه من جذوره ويرفعون من سردية الحق والعدل والحرية بعيدا عن الهيمنة التقليدية. أصوات في البرية دخلت الأسواق والشوارع والجامعات والمدارس والكنائس وحتى شباب وشابات اليهود، الذين أعلنوها بصوت عال: ترتكبون المجازر ولكن «ليس باسمنا». اللوبي بدأ يتصدع وكي يحمي نفسه عمل على مسارين: سن القوانين من جهة، واستخدام القوة من جهة أخرى. إن اعتماد تعريف معاداة السامية الذي صاغته جماعة متطرفة تسمى «التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة» المعرف باسم (IHRA) والذي يدخل مناهضة السياسيات الإسرائيلية تحت بند معاداة السامية، واعتقال نحو 3000 طالب تظاهروا في نحو 200 جامعة وكلية إنما يدلان على مدى الرعب الذي يشعر به اللوبي الصهيوني والأمريكيون المتصهينون. التغيير مقبل، قد يأخذ وقتا، لكن رسالة الحق والعدل والسلام لا بد منتصرة.

عن القدس العربي

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *