“القنبلة” التي فجرها بيتر بينارت في أمريكا
فجر الكاتب اليهودي الأمريكي المعروف، وأحد أبرز وجوه الليبرالية الصهيونية “بيتر بينارت”، مفاجأةً من العيار الثقيل بنشر مقال في صحيفة نيويورك تايمز واسعة الانتشار في الثامن من تموز/ يوليو الجاري بعنوان: “لم أعد أؤمن بدولة يهودية”!
بيتر بينارت ليس كاتباً عادياً، فقد عُرف خلال عقود بأنه أحد أبرز الوجوه الإعلامية المدافعة عن “الليبرالية الصهيونية” في مدينة نيويورك، وهو ملتزم بإخلاص باليهودية، وظل يكافح في مناظراته وظهوره الدائم في وسائل الإعلام الكبرى في أمريكا، مثل فوكس نيوز وسي إن إن، عن حق اليهود في دولة يهودية في فلسطين.
يقول بيتر في مقالة نيويورك تايمز:
“لقد آمنت بإسرائيل كدولة يهودية لأني نشأت في عائلة كانت تعيش في الشتات اليهودي وتقفز من قارة إلى قارة. لقد رأيت تأثير إسرائيل في جدي ووالدي اللذين لم أرهما سعداء وآمنين مثلما رأيتهما حين يكونان داخل مجتمع لليهود. عرفت أن إسرائيل هي مصدر الراحة والفخر لملايين اليهود.
في بدايات بلوغي زرت القدس، وشعرت بالفخر حين قرأت أسماء الشوارع التي تشير إلى التاريخ اليهودي. عرفت أن إسرائيل مخطئة في إنكار حقوق الفلسطينيين في المواطنة وحرية الحركة والانتخاب، لكن حلم الدولتين الذي سيعطي الفلسطينيين دولةً خاصةً بهم أعطاني الأمل بأنه يمكنني أن أظل ليبرالياً وداعماً للدولة اليهودية في آن واحد”.
أما ما صنع التغيُّر في موقف بيتر بينارت فهو انطفاء الأمل بولادة دولة فلسطينية، وخطة ترامب التي تعطي دولة الاحتلال الحق في ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية.
يخرج بيتر بخلاصة: “لقد اتخذت إسرائيل قرارها: دولةً واحدةً يعيش فيها ملايين الفلسطينيين بلا حقوق أساسية. الآن حان وقتنا نحن الليبراليين الصهاينة أن نتخذ قرارنا أيضاً: التخلي عن حل الدولتين وتبنى هدف الحقوق المتساوية لليهود والفلسطينيين، لقد حان الوقت لنتخيل أن مأوىً يهودياً لا يعني دولةً يهوديةً.
إنه ليس طرحاً حالماً، إن هدف المساواة هو الآن أكثر واقعيةً من هدف الفصل. إن تغيير الوضع الراهن يتطلب رؤيةً قويةً بما يكفي لخلق حركة جماهيرية. دولة فلسطينية مجزأة تحت التحكم الإسرائيلي لا تقدم هذه الرؤية، لكن المساواة تستطيع”.
ينبه بيتر بينارت في نهاية مقاله إلى مسألة تاريخية مهمة، وهي أن التطلع إلى إقامة دولة قومية لليهود لم يكن قضيةً مركزيةً في الحركة الصهيونية قبل عام 1940، وأصبح هدف الدولة القومية الشكل المهيمن للصهيونية بعد الهولوكوست. لكن الدولة ليست هي جوهر الحركة الصهيونية، إنما جوهر الصهيونية هو مأوى يهودي في “أرض إسرائيل”، ومجتمع يهودي مزدهر يمنح اليهود حول العالم الملجأ والنشاط.
ما أهمية موقف بيتر بينارت؟
نشأ بيتر بينارت في البيئة الحاضنة للرواية الصهيونية، والتي تستند إليها إسرائيل في كسب شرعية وجودها واضطهادها للفلسطينيين وشطب حقوقهم، والتغيرات التي أجراها بينارت تمس صميم الرواية الصهيونية لأنه يُرجع المسألة إلى جذورها الأولى. لقد توصل بيتر أخيراً، بعد عقود من الاصطفاف في المعسكر الصهيوني، إلى أنه لا يمكن الجمع بين الليبرالية التي يتبناها وبين دولة إسرائيل اليهودية.
كان بيتر بينارت صادقاً مع نفسه في نهاية المطاف؛ حين قرر تغيير موقفه بعد أن تبين له الحق في وقائع الأرض ومآل المسار السياسي، وهذا الصدق يشجعنا على افتراض أنه كان صادقاً في البداية، لكن كانت ثمة مخاوف حقيقيةً لليهود حول العالم تستغلها إسرائيل في تغذية مبرر وجودها الاستيطاني الاحتلالي.
إن حالة الشتات التي عاشها جده وشعور جده ووالده بالسعادة والأمن حين يدخلان مجتمعاً يهودياً؛ يساعدنا في فهم الأسس النفسية التي استغلتها الحركة الصهيونية في اكتساب شرعية تأسيس إسرائيل. لقد استثمرت في الخوف واعتقاد اليهود حول العالم أنه لا بد لهم من مأوى يحميهم من الإبادة والشتات.
لكن معضلةً أخلاقيةً تبرز أمام اليهود ومناصري إسرائيل، خاصةً الذين يحتفظون بإحساس حي تجاه العدالة، وهي المعضلة التي شعر بها بيتر حين زار القدس ولاحظ التنكر الإسرائيلي لحقوق الفلسطينيين.
هنا يتبين الدور السلبي الذي لعبته فكرة حل الدولتين الذي تبنته السلطة الفلسطينية منذ أكثر من ربع قرن.
إن هذا الخيار لم يكن يملك مقومات النجاح منذ البداية، لكنه كان مخدراً لحركة الضمير الإنساني المناصر لفلسطين، وكان مجمِّلاً لوجه إسرائيل الاستعماري، فما دام هناك حديث في الأفق عن إمكانية إنشاء الفلسطينيين دولةً خاصةً بهم يوماً ما، إذاً من حق اليهود الأمن والاستقرار والازدهار في دولتهم.
لقد غطى الحديث عن حل الدولتين الأعين عن الواقع الذي كان دائماً واقع احتلال واستيطان وتهجير ومعاناة للشعب الفلسطيني.
أهمية الموقف الذي عبر عنه بيتر بينارت أنه يأتي في وقت يتضاعف فيه الإحباط وانسداد الأفق، في ضوء إعلان حكومة الاحتلال عزمها ضم أجزاء واسعة من الضفة، وفي ضوء الحالة الفلسطينية البائسة التي لا تمتلك في هذه المرحلة أي أوراق قوة شعبية وسياسية حقيقية يمكن أن تمثل أداة ضغط على الاحتلال.
لكن الله يخرج الحي من الميت كما يقول القرآن، وخطة الضم هي فرصة حقيقية لدفن الأوهام ولتوسيع وتقوية التيار الذي يتبنى ذات الرأي الذي تبناه بيتر بينارت، فقيمة هذا الرأي ليس في تبنيه من شخص واحد، بل في التيار والبيئة التي جاء منها هذا الشخص، وهو ما يعطي الأمل بظهور أصوات جديدة ومتزايدة في أوساط البيئة الحاضنة لإسرائيل تعلن أنها لم تعد تؤمن بإسرائيل دولةً يهوديةً، وترفع بدل ذلك راية النضال من أجل الحقوق المتساوية.
ربما يرى كثير من الفلسطينيين بفعل ضغوط الحياة التي يكابدونها وبفعل الشعور الطاغي بالعبثية السياسية أن التركيز على مثل هذه المواقف يعد ترفاً فكرياً، لكن إسرائيل تعلم خطورة مثل هذه التوجهات وتخشى من نموِّها؛ لأنها تفقدها البيئة المغذية لشرعيتها، لذلك استُفز السفير الأمريكي في دولة الاحتلال ديفيد فريدمان، المعروف بصهيونيته المتشددة، من مقال بينارت، ورد عليه بمقال في صحيفة جيروزالم بوست العبرية جاء فيه:
“إن أحد كبار خبراء الجانب الغربي يدعى بيتر بينارت سيدمر إسرائيل، وإن ما يثير الدهشة هو أن صحيفة نيويورك تايمز تمنح أفكاره السخيفة هواءً للتنفس”.
وأضاف فريدمان: “إن دعوة بينارت لاستبدال دولة إسرائيل اليهودية هي أكثر غدرا مما قد تبدو للوهلة الأولى. إذا ما تحققت هذه الدعوة، فسوف تدمر إسرائيل في نهاية المطاف، وستؤدي إلى نتيجة كارثية مثل تدمير المعبديْن على التوالي. ولهذا السبب، فإن كل من يعيش في إسرائيل تقريبا يرفض بشكل قاطع وجهة نظر بينارت”.
إن مما يُشعر بالمرارة هو غياب الفلسطينيين عن هذا النقاش السياسي والفكري الجاد، وعدم استثمار أدوات القوة الناعمة في كسب مزيد من المناصرين للحقوق الفلسطينية، من أمثال بيتر بينارت، الذين يملكون الاستعداد المبدئي لتغيير مواقفهم حين يتبين لهم الحق.
(المصدر: عربي 21)