القطاع الصحّي اللبناني تحت نيران العدوان: جرائم حرب بلا عقاب
حتى الآن، أحصت وزارة الصحّة العامّة اللبنانية 55 هجوماً إسرائيلياً على مستشفيات لبنان و201 هجوماً على الهيئات الإسعافية في الفترة الممتدّة بين 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023 و24 تشرين الأول/أكتوبر 2024. وتصاعدت وتيرة استهداف القطاع الصحّي اللبناني مع تصاعد العدوان الإسرائيلي على لبنان منذ أيلول/سبتمبر 2024، في تكرار للجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبها جيش الاحتلال في غزّة بهدف تعطيل عمليات نجدة المصابين وإنقاذ حياتهم وإجبار المزيد من السكان على النزوح القسري.
التوزّع الجغرافي والزمني للهجمات
توزّعت الهجمات على القطاع الصحّي جغرافياً بشكلٍ مماثل للهجمات الإسرائيلية على المنشآت المدنية في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت. ووفق بيانات وزارة الصحّة، تركّزت 80% من الهجمات الإسرائيلية على المستشفيات في أقضية بعبدا (الضاحية الجنوبية لبيروت)، وبنت جبيل وبعلبك وصور والنبطية والهرمل.
تركّز أكثر من 88% من الهجمات الإسرائيلية على فرق الإسعاف في الأقضية الجنوبية الحدودية، ولا سيما صور والنبطية ومرجعيون وبنت جبيل. وتبيّن بيانات وزارة الصحّة أن زيادة وتيرة الاعتداء على المسعفين بدأت منذ أوائل العام 2024، أي قبل أن تبدأ الهجمات على الضاحية الجنوبية، إذ استهدف جيش الاحتلال الكثير من المسعفين حينها. كما أن وجود المدنيين بعدد أكبر وندرة البنى التحتية الصحية في المناطق الجنوبية بعد تصعيد شهر أيلول/سبتمبر 2024 يتطلّب مهمات إسعاف أكثر كثافة ما يعرّض المسعفين للاستهداف من قبل عدو لا يبالي بالقانون الدولي.
تعطيل المستشفيات
يفصح نمط استهداف المستشفيات عن طابع متعمّد لتعطيلها. على سبيل المثال، 11 من 36 مستشفى تم استهدافها مرّتين على الأقل. تعرّضت كلّ من المستشفيات في الضاحية الجنوبية لبيروت إلى هجومين بشكل عام. أما المستشفيات على المناطق الحدوديّة فقد استهدفت 3 مرّات، كما في حالة مستشفى الشهيد راغب حرب والمستشفى الإيطالي اللبناني، وارتفع عدد الاعتداءات إلى 9 مرّات على مستشفى تبنين الحكومي. تجدر الإشارة إلى أن بعض المستشفيات المستهدفة في المناطق الحدودية لا تزال تعمل على الرغم من الظروف القاسية التي يواجهها طاقمها الطبي ومحدودية القدرة على الصمود في وجه الهجمات الإسرائيليّة.
توزّعت الأضرار التي أحدثتها الاعتداءات الإسرائيلية وفق ثلاثة مستويات: أضرار بسيطة للنوافذ والواجهات الزجاجية والأسقف المعلّقة، أضرار متوسّطة أثّرت جزئياً على عمل المستشفيات، وأضرار جسيمة أعاقت قدرة المستشفيات على تأمين الرعاية الصحيّة مثل تدمير الإمدادات الكهربائية والمائيّة والمعدات الطبيّة. وبحسب هذا التوزيع لمستويات الأضرار، تعرّضت 23 مستشفى لأضرار بسيطة، 13 مستشفى لأضرار متوسّطة، و 19 مستشفى لأضرار جسيمة.
تتركّز المستشفيات التي تعرّضت لأضرار جسيمة في النبطيّة والضاحية الجنوبية وبعلبك والهرمل، ما يشير إلى غياب أي تبرير عسكري ميداني لتلك الاعتداءات كون القتال يتركّز في المناطق الجنوبية الحدودية. وتشير خريطة الأضرار اللاحقة بالمرافق الاستشفائية إلى أن جيش الاحتلال يقوم بإلحاق الأضرار في المناطق التي يقطنها غالبية مؤيدي حزب الله بهدف معاقبتهم جماعياً، ودفع السكّان إلى النزوح.
تأثّرت قدرة المستشفيات على الاستمرار في تقديم الرعاية الصحيّة بشكل متفاوت. على سبيل المثال، انخفض تصنيف 15 مستشفى من «عاملة بشكل طبيعي» إلى «عاملة بشكل جزئي» أو «مُغلقة قسراً». ويعود ذلك إلى ضعف جاهزية المستشفيات لمواجهة ظروف الحرب وغياب خطّة حكومية فعلية لتحسين تلك القدرات في السنة المنصرمة. نرى على سبيل المثال أن غالبية المستشفيات التي لم تتأثّر بالاعتداءات تقع في قضاء بعبدا، حيث تتركّز الموارد المادية الوفيرة والمستشفيات الخاصّة الكبيرة. في المقابل، تضرّرت قدرات المستشفيات في الجنوب والبقاع عموماً بسبب افتقارها إلى الاستثمار العام، باستثناء 4 مستشفيات في صيدا وصور. ولم تتمكّن المستشفيات، التي انخفضت قدرتها على تقديم الرعاية الصحّية جزئياً أو بالكامل، من تحسين وضعيّتها، ما يشير إلى غياب أي خطّة فعلية لتعزيز قدرة النظام الصحّي على مواجهة العدوان الإسرائيلي عليه.
قتْل المُسعفين
قتلت إسرائيل 151 عاملاً ومتطوّعاً في إغاثة الجرحى، وأصابت 212 آخرين بجروح. ووقعت 74% من الاعتداءات على المغيثين عندما كانوا يتنقّلون في مهمّات إغاثة، ما يفسّر تدمير إسرائيل 230 سيارة إسعاف وإطفاء، فيما استهدفت 26% من الغارات على المسعفين مراكز الإغاثة. يُعتبر استهداف المسعفين جريمة حرب، إذ يتسبّب استهدافهم برفع المعدّل العام للوفيات في الحروب كونهم المسؤولون عن إغاثة المصابين وانتشال المدنيين من تحت الركام، وعند تعذّر عملهم ترتفع نسبة الوفيات بين المدنيين.
تركّزت 95% من الاعتداءات على المسعفين في محافظتي الجنوب والنبطية، وطالت فرق الإسعاف من جمعيتيْ كشافة الرسالة الإسلامية والهيئة الصحّية الإسلامية، وأصابت 89% من استهدافات المسعفين طواقم هاتين الجمعيّتين، فيما أصابت 7% من الغارات طواقم المديريّة العامة للدفاع المدني.
استشهد 3 مسعفين في كلّ 4 اعتداءات على طواقم الإسعاف، وسقط جريح في كل استهداف للمسعفين كمعدل عام. وبفعل تركّز الاعتداءات في الجنوب والنبطيّة، تركّز هناك أيضاً الجرحى والشهداء من بين المسعفين.
تظهر أيضاً علاقة إحصائية بين عدد الشهداء واستهداف آليات الإطفاء، ويمكن نسب هذه العلاقة إلى استهداف إسرائيل بشكلٍ متعمّد لأفواج الإطفاء عند محاولتهم إخماد الحرائق التي تسبّبت بها، وإلى المجزرة التي ارتكبتها في قرية برعشيت في بنت جبيل عندما استشهد 14 مُسعفاً ودُمّرت 12 آليّة إطفاء في 7 تشرين الأول/أكتوبر الحالي.
تجدر الإشارة إلى أن استهدافاً واحداً في بيروت عند اغتيال رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله، هاشم صفي الدين، في 3 تشرين الأول/أكتوبر، تسبّب باستشهاد 6 مسعفين وجرح اثنين منهم، وهي النسبة الأعلى للوفيات جراء استهداف واحد خارج جنوب لبنان. أرادت إسرائيل من هذه الغارة الدمويّة تثبيط قدرة المسّعفين على إغاثة العالقين تحت الركام وضمان استشهاد المستهدفين بالاغتيال وتأكيد وفاتهم.
الجريمة والعقاب
تُعتبر كلّ من الاستهدافات للمستشفيات والمسعفين جريمة حرب موصوفة تدين إسرائيل. لكن لا بدّ من النظر في الغرض من استهداف القطاع الصحّي اللبناني أبعد من مقولة «إسرائيل تعيد في لبنان ما ارتكبته في غزّة». ليس غافلاً على أحد أن اسرائيل تدفع بحركة نزوح من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت إلى المناطق الأخرى. تهدف هذه الاستراتيجية إلى معاقبة من تعتبرهم إسرائيل مؤيدين لحزب الله بشكل جماعي عبر تدمير بيوتهم واقتلاع البنى التحتيّة، بما فيها الصحيّة، في مناطق سكنهم لمنعهم من العودة لمدّة سنوات ولتكبيدهم أكلافاً باهظة. كما أن الاكتظاظ الناتج عن النزوح الكثيف قد يعزّز مخاطر ظهور فاشيات جرثوميّة بين السكّان، لا تنحصر هذه المخاطر في المدارس التي حوّلت إلى مراكز إيواء فحسب، بل تنطبق على المجتمع بشكلٍ عام بفعل زيادة نسبة الاحتكاك بين الأفراد مع بداية فصل الخريف وما يصاحبه من موجات برد وأمطار تؤثّر سلباً على مناعة الأفراد، والموجات المرتقبة من الأنفلونزا والكورونا.
برهنت هذه الإحصاءات فشل الخطة التي وضعتها وزارة الصحّة للحفاظ على متانة القطاع الصحي اللبناني في وجه العدوان الإسرائيلي في كانون الأول/ديسمبر 2023، وإن كان فشلها معروف سلفاً استناداً إلى ما نصّت عليه. إذ لم تستطع أيّ من المستشفيات أن ترمّم قدرتها على تقديم الرعاية الصحيّة بعد أن تضرّرت، كما أن غالبيّة المستشفيات التي استُهدفت في الأطراف خسرت قدرتها على استكمال مهامها بشكل تام، مع العلم أن هذه المناطق هي التي تتعرّض لأكثر الاستهدافات والتي هي بأمسّ الحاجة اليوم للرعاية الصحيّة. أخيراً، الارتكاز الشبه تام على جمعيتي الهيئة الصحية الإسلامية وكشافة الرسالة الإسلامية لإغاثة الجرحى ونقل النازحين وإخماد الحرائق يعيد طرح مسألة تنصّل الدولة من مسؤوليّة تأمين خدمات الطوارئ للمقيمين، إن كان لبنان في حالة حرب أو لم يكن.
عن موقع صفر