القضاء على القضاء…الإصلاحات القضائية الإسرائيلية وآثارها المتوقعة


تظاهر عشرات الآلاف من الإسرائيليين رفضاً لما عرف ب “خطة الإصلاح القضائي”، فما هو الدافع لهذه المظاهرات، وما هي خلفية هذه الإصلاحات وبنودها، وما هي تبعاتها المتوقعة، هذا ما تسعى المقالة للإجابة عليه من خلال استعراض خطة الإصلاح القضائي، والبنود الموجودة في الاتفاقيات الائتلافية والمتعلقة بالقضاء الإسرائيلي، واستقصاء أهم الآثار المتوقعة لهذه الإصلاحات. تجادل هذه المقالة بأنّ هذه الإصلاحات تأتي في سياق سعي اليمين لاستكمال السيطرة على مؤسسات الدولة، من أجل إنفاذ أجندته السياسية والأيدلوجية.
الخلفية:
سعى وزير القضاء الحالي الليكودي ياريف ليفين طوال العقد الماضي إلى إجراء تغييرات في منظومة القضاء الإسرائيلي، إذ اقترح في الكنيست سنة 2011 تغيير تركيبة لجنة اختيار القضاة (لكن اقتراحه لم ينجح)، فبحسب البند الرابع في القانون الأساس المتعلق بالقضاء والصادر سنة 1953؛ تتكون لجنة اختيار القضاة من تسعة أعضاء موزعين كالتالي: وزير القضاء ووزير ثاني تختاره الحكومة، اثنين من أعضاء الكنيست ممن تم اختيارهم بواسطة الكنيست، اثنين من المحامين يتم اختيارهم بواسطة نقابة المحامين، رئيس المحكمة العليا واثنين من قضاة المحكمة العليا. الهدف من هذه التركيبة هو تقليص تأثير السياسيين على عملية اختيار القضاة، إذ أن أغلبية أعضاء اللجنة (اثنين محامين+ ثلاثة قضاة) هم من خارج الحكومة والكنيست، وبالتالي ستبقى عملية اختيار القضاة خارج عملية المساومات والصفقات السياسية للأحزاب الفائزة بالانتخابات.
حاول ليفين مرة أخرى بالتحالف مع ايليت شاكيد (حزب البيت اليهودي) سنة 2013، فتقدم بعدة مشاريع قوانين للكنيست من ضمنها تقييد قدرة المحكمة العليا على رفض القوانين التي يسنها الكنيست، إذ أن القانون يسمح للمحكمة العليا برد أي قانون يسنه الكنيست (حتى لو حصل على أغلبية الأصوات) في حال خالف القانون المسنون قوانين الأساس لدولة إسرائيل. وبالتالي لم يستطع اليمين الإسرائيلي الهيمنة على الحياة العامة عبر سن قوانين ترسخ التوجهات اليمينية للدولة؛ بسبب “معارضة المحكمة العليا ذات التوجهات “الليبرالية”، مع الأخذ بعين الاعتبار أن كلا التيارين اليميني والليبرالي” يخدمان أهداف الحركة الصهيونية، وعلى رأسها إقامة دولة يهودية عنصرية، ويصبان في نفس الاتجاه من حيث استمرار الممارسات الاستعمارية لدولة إسرائيل.
استمر ليفين بمساعيه؛ فاقترح أيضاً سن قانون يجعل اختيار رئيس المحكمة العليا من صلاحية الكنيست، لكنه مرة أخرى فشل في تمرير هذا القانون. لكن في المقابل نجحت وزيرة القضاء (شاكيد) سنة 2015 في إحداث تغيير جزئي، عندما استطاعت تمرير تعيين قضاة “محافظين” في العليا التي يسيطر عليها التيار “الليبرالي”.
أسفرت نتائج انتخابات 2022 عن تشكيلة للكنيست تضمن أغلبية لتحالف اليمين (الليكود) مع أحزاب التيار الديني (64 مقعد من مجموع 120)، مما سيمكنهم بسهولة سن القوانين التي تخدم مصالحهم ومن بينها الهيمنة على السلطة القضائية، وإضعاف تأثيرها في الفضاء السياسي. إذ أن التيار الديني القومي يوجد بينه وبين المحكمة العليا بتركيبتها “الليبرالية” ما يشبه “الثأر”، وخصوصاً بعدما حظرت العليا الإسرائيلية سنة 1984 مشاركة حركة “كاخ” العنصرية (التي ينحدر منها وزير الأمن القومي ايتمار بن غفير رئيس حزب العظمة اليهودية)، بدعوى مخالفتها للقانون الأساسي عبر تحريضها العنصري. وتكرر الأمر سنة 2019 عندما حظرت العليا ترشح عضوين من قائمة العظمة اليهودية (باروخ مارزيل، بينتسي غوبشتين) لانتخابات الكنيست، بدعوى أنهما يحرضان على العنصرية.
بنود خطة “الإصلاح”:
نصت الاتفاقيات الائتلافية بين الأحزاب المشكلة للحكومة الإسرائيلية الحالية على عدة بنود تهدف إلى إجراء تغيير في منظومة القضاء، بهدف الهيمنة عليها وتحييدها، من بين البنود توافق الائتلاف الحاكم على سن “قانون التغلب”.[1] والذي يمنح الكنيست صلاحية إعادة سن أي قانون تبطله المحكمة العليا في حال صوت على ذلك 61 عضو، وهذا يعني منع العليا من ممارسة دورها بإبطال القوانين التي تتعارض مع القوانين الأساس. بالترافق مع ذلك سيتم تعيين العضوين من الكنيست في لجنة تعيين القضاء بواسطة التيار الديني القومي، بحيث يعين حزب “الصهيونية الدينية” أحدهما، وسيكون الثاني معين بواسطة حزب “العظمة اليهودية”.
تأتي خطة ليفين لإصلاح القضاء في نفس السياق، حيث تنص الخطة على سن “قانون التغلب”، بالإضافة إلى منع العليا من استخدام حجة “عدم المعقولية”، وهي أداة تخول المحكمة العليا بإلغاء أمر إداري اتخذته الحكومة بسبب “عدم معقوليته”، والتي بموجبها رفضت العليا تعيين رئيس حزب شاس آرييه درعي كوزير، بسبب اتهامه سابقاً بارتكاب مخالفات ضريبية وتوقيعه صفقة قضائية حكمت عليه بالسجن مع وقف التنفيذ وغرامة. وفيما يتعلق بلجنة اختيار القضاة، سيتم تقليل حصة ودور القضاء في تعيين قضاة جدد، وتوسيع دور الحكومة والكنيست، برفع أعضاء اللجنة من 9 إلى 11، بحيث يكون هنالك تمثيل متساو لجميع السلطات، وسيبدل تمثيل نقابة المحامين بممثلين من الجمهور يختارهم وزير القضاء. وفيما يتعلق برئاسة المحكمة العليا، سيتم إلغاء نظام الأغلبية، وتتولى الحكومة صلاحية تعيين الرئيس حتى لو كان من خارج قضاة العليا. أمّا المستشار القانوني للحكومة فسيتحول إلى منصب ثقة، وسيخضع المستشار القانوني للوزير لا للمستشار القضائي للحكومة.[2]
الآثار المتوقعة:
بدأت الآثار الاقتصادية لخطة الإصلاح الاقتصادي بالظهور، إذ أن هذه الإصلاحات خلقت حالة من عدم اليقين عند المستثمرين، فبعد إنفاذ هذه الإصلاحات لن تستطيع أي جهة تقييد أو تنظيم سلوك الحكومة، وبالتالي فإن هذه الاستثمارات لن تكون بمأمن في حال تغول السلطة التنفيذية. وهذا ما دفع أكثر من 50 شركة من شركات “الهاي تك” للانضمام إلى الاحتجاجات ضد خطة إصلاح القضاء.
من ناحية أخرى؛ يخشى التيار “الليبرالي” من حسم التيار الديني للصراع الهوياتي داخل الكيان الصهيوني لصالحه، إذ أن الهيمنة على القضاء سيحول دون وقوفه في وجه التيار الديني في حال ذهب إلى سن قوانين تعمق من تديين المجتمع، وتتعارض مع المبادئ الديمقراطية، بحيث يتم تغليب الطابع الديني اليهودي للدولة على حساب الديمقراطية. لذلك نجد هذه الانتفاضة من التيار العلماني الليبرالي والخروج في مظاهرات، خشية من تأثر نمط الحياة الإسرائيلية العلماني، بواسطة فرض قوانين تحد من حرية الأفراد. ففي المحصلة تأتي هذه المظاهرات في سياق دفاع التيار العلماني الليبرالي عن ذاته.
بناء على ما سبق؛ يتوقع أن تساهم هذه الإصلاحات في تعميق الشرخ الديني العلماني داخل المجتمع الإسرائيلي، علاوة على تأثر الاقتصاد؛ وهذا ما نشهده من انخفاض لقيمة الشيكل وارتفاع للأسعار نتيجة لهروب بعض المستثمرين، وسحب ودائعهم من البنوك، مما خلق شح بالدولار في السوق ورفع من سعره، وهذا سيؤثر بدوره على ارتفاع الأسعار من خلال ارتفاع سعر المواد المستوردة.
الخلاصة والاستنتاجات:
تأتي الإصلاحات القضائية في سياق محاولة اليمين الهيمنة والسيطرة على مفاصل الدولة، وحسم الصراع الهوياتي داخل الكيان الصهيوني، عبر اغتنام الفرصة التاريخية الناجمة عن وجود أغلبية مريحة في الكنيست تمكن اليمين الديني من سن القوانين التي تعمق تديين المجتمع، ومن ناحية أخرى إضعاف السلطة القضائية التي وقفت كحجر عثرة أمام الطموحات السياسية لبعض قادة اليمين وعلى رأسهم نتنياهو، الذي يواجه احتمالية إدانته من القضاء على خلفية بعض قضايا الفساد. في المقابل يحاول التيار العلماني الليبرالي مواجهة هذه الإصلاحات بالخروج بمظاهرات احتجاجية، والتحذير من إمكانية اندلاع حرب أهلية، في محاولة للدفاع عن آخر معاقل هذا التيار، والذي حال حتى الآن دون تديين المجتمع، بواسطة سن قوانين تخدم ايدلوجيا التيار الديني.
[1] موقع الكنيست الإسرائيلي، الاتفاق بين الصهيونية الدينية والليكود، 28/12/2022، البند 31. (بالعبرية). https://bit.ly/3Q1P7fV
[2] مركز مدى الكرمل، خطة وزير القضاء: إلحاق الضرر بحقوق الفلسطينيين في إسرائيل، كانون الثاني 2023.
عن إطار