الفلسطينيون يشخصون التوتر المتزايد داخل إسرائيل، وينتظرون الفرصة

هل ترسو الـ “آلتالينا” – سفينة الحرب الأهلية الإسرائيلية – قبالة شواطئ تل أبيب مرة أخرى؟ بهذا العنوان افتتح الصحفي الفلسطيني محمد هلسة مقاله قبل عدة أسابيع في موقع “الميادين” المحسوب على حزب الله. يشكّل هذا المقال حلقة من سلسلة طويلة من التحليلات التي أبصرت النور في الخطاب الإعلامي العربي مؤخرًا، والتي تهدف إلى فك لغز مدى جدية الخطاب الإسرائيلي بشأن إمكانية اندلاع الحرب الأهلية، في ظل العواصف الشعبية والسياسية الصاخبة، سيما في القضايا القضائية، والتوتر بين المتدينين والعلمانيين وانفصالات الصلاحيات في الاجهزة الحكومية، وسيما وزارة الأمن.

منذ أن تأسست إسرائيل، انشغل العالم العربي دون توقف بالواقع الداخلي فيها، وخصوصًا في محاولة لدراسة حصانتها الوطنية وتشخيص علامات تدل على قلقلته، أكثر من مرة عانت إسرائيل من التشوهات النظرية، في الخلط بين تمنيات القلب والتقديرات، بالوصمات المخجلة والازدراء العميق، وكذلك بالعجز عن الحل العميق للغز أنماط التصرفات السياسية والاجتماعية الغربية وقراءتها من خلال النظارات المحلية. هكذا فهمت بعض حلقات الصدمات الشعبية – بدءًا من احتجاجات الفهود السود، ووصولًا إلى اغتيال رابين – كشواهد على قلقلة استقرار نظام الحكم والاندلاع القريب للانقلابات التي ترسم وشمًا على جسد النظام القائم، والتقارير بشأن النزوح من البلاد تم عرضها على أنها مؤشرات على الانهيار التدريجي للمشروع الصهيوني.

في الخمسينيات والستينيات، راج في العالم العربي الافتراض القائل بأن “مجتمع المهاجرين” الإسرائيلي مُصطنع وغير موحد، وأن إنجازات إسرائيل العسكرية تستند لدعم القوى العظمى الغربية و”الأطراف الخائنة” في العالم العربي. بعد ذلك بعدة عقود، اعترف الكثيرون من العرب بأن إسرائيل بلورت بالفعل مجتمعًا وهوية وطنية، لكنهم حاولوا أن ينسبوا إليها هشاشة عميقة: حماس تتعطر على الدوام بصور الجنود الذين يبكون في جنائز أصدقائهم كشاهد على “هشاشة” المجتمع الإسرائيلي، وحسن نصر الله خطب بعد انسحاب إسرائيل من لبنان سنة 2000 خطاب “بيت العنكبوت” الشهير، وزعم فيه بأن إسرائيل أصبحت مجتمعًا شديد الحساسية للخسائر وفقدت قدرتها القتالية.

75 سنة منذ قيامها، استمر الخطاب العربي حول استقرار إسرائيل في كونه مشبعًا بالوصمات والشعارات، لكن يبدو أنها باتت أكثر رصانة من جوانب عدة. رغم جميع الأخطاء الأساسية فيها والتصدعات الداخلية، فإن إسرائيل لم تنهَر، واجهت التحديات الخارجية الصعبة (حرب “يوم الغفران”، الانتفاضة، وحرب لبنان الثانية)، تمتعت حتى بالازدهار الاقتصادي والتقني على المستوى العالمي، وجد الناعون لإسرائيل – في المقابل – أنفسهم محاصرين بنفس الكوابيس التي تنبؤوا بها لإسرائيل؛ الأمر الذي برز عند اندلاع الربيع العربي، ودول مثل سوريا وليبيا انهارت في الحروب الأهلية الدامية، لبنان فقدت نظام الحكم العامل، وأغلب العالم العربي يعيش ضائقة اقتصادية.

ما يزال العالم العربي ينظر عميقًا إلى الاحتجاجات الحالية في إسرائيل، ويتساءل فيما إذا كانت تتشكل خصائص استثنائية مقارنة بالماضي، والتي يُمكن أن تكون دليلًا على وجود تشققات في الحصانة الوطنية أو – لا سمح الله – دلائل على وجود براعم لحرب أهلية من النموذج السائد في العالم العربي. هاني المصري (الشخصية الفلسطينية المعروفة) يُبدي تفاؤلًا ويزعم بأن التصدعات الداخلية في إسرائيل أعمق ممّا كانت عليه في الماضي، وأنه في ظل هذا الوضع؛ على الفلسطينيين أن يبلوروا استراتيجية وطنية موحدة ومنظمة. محمد هلسة ذهب أبعد من ذلك وقال إنه بدت علامات تفكك على الوحدة المشهورة التي ميزت المجتمع الإسرائيلي، إلى جانب تضرر صورة الجيش الإسرائيلي الشعبية والإجماع الداخلي عليه. وسام ابو شمالة من غزة (المحسوب على حماس) ركز كثيرًا في مقاله الدوري – منذ سنوات عدة – على التقارير التي ترد حول هجرة النخب الإسرائيلية، في بعض التحليلات تلاحظ محاولة منهجية تعزيز خطورة الواقع القائم، من خلال إبراز أقوال السياسيين في إسرائيل بشأن إمكانية اندلاع حرب الاخوة، لكنه ينعكس من بعضها تحليلًا حقيقيًا لمن يتأمل.

هذه المرة هناك ما هو أكثر جدية من الماضي، السؤال الذي لم يُطرح على الملأ؛ لكنه يظهر من خلال سطور الكتاب العرب، هو “هل تعيش إسرائيل حالة ضعف خطيرة جدًا، بحيث تمكّن أعدائها من أن يقوموا بخطوات هجومية وأن يستغلوا الواقع الحالي لتحقيق إنجازات؟”، على الأقل لغاية الآن النمط الرائج – بما في ذلك الخطاب الدائر في حزب الله، في حماس والجهاد الإسلامي – هو أنه ورغم مشاعر العجز السائدة في أوساط قطاعات كثيرة في إسرائيل، إلا أنها لن تفقد قوتها العسكرية، وأن الاستقطاب الداخلي لا ينعكس على قوتها وقوة ردع جيشها.

مع ذلك، فإن مجرد طرح الزعم في الخطاب العربي والقائل “إن هناك ما هو أكثر جدية ممّا كان في الماضي هذه المرة” من المفترض أن يشعل الضوء الأحمر في إسرائيل. حتى وإن لم يقع هجوم عسكري واسع النطاق مثل نموذج “يوم الغفران” – فمنذ زمن طويل قلت احتماليته في ظل استغراق معظم الدول العربية في مشاكلها الداخلية – ربما يظهر بعض أعداء إسرائيل جرأة أكثر في الهجمات الموضعية، على سبيل المثال عمليات التفجير والاختطاف، والمساس بالأشخاص أو الممتلكات الإسرائيلية خارج البلاد أو ربما حتى البنى التحتية الوطنية. هذا كله على افتراض أن إسرائيل التي تركز على الصراع الداخلي المتفاقم، التواقة للهدوء الأمني، ليست معنية بمعارك واسعة النطاق، وربما في أوساط قادتها يعشش حتى الخوف من عدم القدرة على تسخير الإجماع والشرعية في ظل المواجهة الخارجية.

الواقع الذي تعيشه إسرائيل في سنوات الفوضى السياسية الأربع هو إلى حد كبير واقع معجز، التعقيدات الكبيرة المستمرة التي يعاني منها نظام الحكم والمجتمع في الدولة كانت لتتسبب بانهيار دول أخرى منذ زمن بعيد، في الشرق الأوسط طبعًا، وإلى اندلاع حرب أهلية عنيفة. تلك “المعجزة” ينسب فضلها لحقيقة أنه ورغم فساد النظام السياسي، فإن المنظومات الإسرائيلية تعمل بطريقة مستقرة، وعلى رأسها الأجهزة الأمنية، والاقتصاد والقطاع التشغيلي، والمنظومة القضائية، والإعلام الحر والمجتمع المدني نشط ومشارك. هذه كلها تسمح بأداء صالح، بل وازدهار مادي.

مع ذلك، المتانة لا تدوم، كل تطرف يحدث في المواجهة الداخلية في إسرائيل، وسيما تحقيق الإصلاح القضائي، والذي من المُفترض أن يرافقه تفاقم الصراع الشعبي واتساع رقعة التقارير بشأن جاذبية الاستثمارات الاقتصادية وتزايد القلق الدولي ممّا يدور في إسرائيل، إلى جانب شحذ التوتر فيما يتعلق بفرض الشريعة، كثرة التقارير عن الهجرة أو نية الهجرة إلى خارج البلاد، تعبيرات العنف في إطار الصراع السياسي الداخلي من المُتوقع أن تفسر على أنها علامات تشهد على الضعف المتزايد، بل والتفكك أيضًا. مخططو التغييرات الأساسية في الحكومة، وخصوصًا كل ما يتعلق بالمستوى القضائي، يظهرون التيقظ لانعكاساتها على مكانة إسرائيل الدولية والاقتصادية، لكن من العدل ان يقولوا رأيهم أيضًا في التأثير السلبي على صورتها في عيون أعدائها.

عن أطلس للدراسات والبحوث (المصدر: القناة 12)

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *