منذ انطلاقتها في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، احتكرت الفصائل الفلسطينية المؤتلفة في إطار منظمة التحرير «الوطنية الفلسطينية»، وصاغت معادلة تقوم على أساس أن من يدخل في عضوية هذه الفصائل يكون «داخل الصف الوطني» والذي يستقيل منها يصبح «خارج الصف الوطني» وكأن لا وطنية خارج الفصائل. وبالتالي تم معاقبة العديد من الأعضاء الذين تركوا هذه الفصائل بالتشهير والتخوين والاتهام بالعمالة لسلطات أخرى، لمجرد أنهم خرجوا من فصائلهم لخلافات سياسية ومواقف نقدية، مما أدى إلى افتراق سياسي طبيعي، لكن لم تكن هذه الحالة بالنسبة للفصائل، التي اعتبرت أعضاءها ملكية خاصة. لقد كانت هذه الصيغة من «احتكار الوطنية» فعالة في محاصرة الأصوات النقدية في التجربة الفلسطينية، تحت ذريعة اتهامها بأنها أصوات الطابور الخامس، الذي يحاول هدم التجربة الفلسطينية من داخلها. رغم ذلك كان منسوب النقد والنقد الذاتي في التجربة الفلسطينية في سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، أعلى بكثير منها في الوقت الراهن.
رفضت فصائل العمل الوطني مجتمعة النقد، باستثناء النقد الذاتي الضحل، تحت ذريعة أولية المعركة مع العدو. وكثيرا ما استعارت الفصائل الفلسطينية الشعار المصري الذي يقول: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، باعتباره أداة قمع شديدة الفعالية في إسكات الأصوات النقدية الخارجية التي لا تعجبها. والآلية الأهم التي تم اعتمادها في ذلك الوقت، واستخدمتها حماس في ما بعد وتستخدمها اليوم بطريقة أكثر حدة من السابق، هي الخلط المتعمد بين النقد الذاتي وجلد الذات.
نقصد بالنقد الذاتي: نقد سياسات وأساليب الفصائل ومنظمة التحرير ونقد سياسات حماس والجهاد الإسلامي، بوصفها سياسات لا تتناسب مع الأهداف الفلسطينية وطبيعتها كقضية تحرر وطني من احتلال استيطاني، وبالتالي نقد السياسات التي تجعل الفلسطينيين يدفعون ثمنها غالي، وتقدم تضحيات غير مجدية، دون الحصول مقابلها على منجزات على الأرض، أي نقد السياسات العدمية، أو الممارسات التي لا تخدم المصالح الفلسطينية من وجهة نظر المنتقدين.
نقصد بجلد الذات: أن يُحمّل الفلسطينيون أنفسهم مسؤولية السياسات الإسرائيلية، لأنهم ارتكبوا أخطاء سياسية أو حتى خطايا، وبالتالي اعتبار السياسات الإسرائيلية، الاحتلالية ووحشيتها محقة، أو على الأقل مبررة. كأن نقول أن الموقف الفلسطيني الرافض لقرار التقسيم، يعطي الحق بإقامة دولة إسرائيل على أنقاض المجتمع الفلسطيني، أو القول بأن الحروب الأخيرة على غزة والتي كان يمكن لحماس والفصائل الملتفة حولها تجنبها، يعطي الحق لإسرائيل بتدمير غزة ويبرر عدوانها بقتل وجرح الآلاف.
الخلط بين النقد الذاتي وجلد الذاتي، يجعل كل نقد لسلوك الفصائل التي تحتكر «الوطنية الفلسطينية» متهم بأنه يخدم العدو، فلو تم اليوم القول لحماس بعد هذه السنوات الطويلة من الحصار المدمر لقطاع غزة، أن مطالبها المحقة اليوم، كانت أغلبها متحقق قبل الصراع الدموي الداخلي بينها وبين فتح منذ سنوات، وكل ذلك بفضل اتفاقات أوسلو على كل عيوبها، ولم نكن بحاجة لكل هذا الدم الذي سال خلال هذه السنوات، لا على يد الإسرائيليين، ولا في الصراع الداخلي الفلسطيني ـ الفلسطيني، لنعود ونطالب بما كان متحققاً. هل نصبح بهذا النقد نخدم العدو الصهيوني؟!. إن رفض هذا النوع من النقد وما يشبهه بالنسبة للفصائل الأخرى، ومساواته بالخيانة الوطنية، لأنه ببساطة يتطلب من المنقود، دفع ثمن سياساته الخاطئة، والاستقالة من العمل السياسي، وهذا لا يتناسب مع سياسة التمسك بالكرسي لأننا على صواب في كل الأوقات، مهما صغر هذا الكرسي، حتى لو تحول إلى خازوق للنضال الوطني. ما قامت به حركة حماس في قطاع غزة، يشبه قصة «الحاخام والعنزة» اليهودية، وجوهرها يقول بأن جعل الظروف أسوأ، يجعل الوضع السيء السابق هو الأفضل مطلبا وهدفا. فقد تم وضع الفلسطينيين في شروط أسوأ، واليوم يبدو الهدف هو إخراجهم من هذا السيء إلى الأقل سوءاً، أي إلى وضعهم السابق، وهو ما يُظهر الوضع الجديد بوصفه انجازاً. هذا النقد لا يعني أن إسرائيل على حق في سياساتها العدوانية الاستيطانية، والأخطاء والحماقات الفلسطينية لا تبرر الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين. وبالمقابل، ليس هناك قدسية لحركة المقاومة، وكل مقاومة قابلة للنقد، ولها حصتها من الأخطاء والخطايا والسلوكيات الخاطئة، حتى تحت النار، فلا يدفع ثمن العدوان المقاتلين وحدهم، الذين يختفون في الإنفاق وقت الحرب، في الوقت الذي يواجه المدنيون وحشية إسرائيلية منفلتة من عقالها وهم في العراء. عندما يحتكر طرف قرار الحرب، ولا يدفع ثمنه لوحده، عليه أن يسمع كل النقد الذي يوجه إليه، حتى لو جاء هذا النقد تحت النار، فليس أعضاء حماس أو الجهاد الإسلامي وغيرهم من الفصائل وحدهم من يدفع ثمن العدوان المتكرر على قطاع غزة. إن قدرة الصمود الفلسطينية الكبيرة ليست مبرراً لذبح الشعب الفلسطيني المرة بعد الأخرى، لإثبات وحشية إسرائيل، فوحشيتها لها علامات على كل جسد فلسطيني في كل مكان، ولها ضحية في كل بيت فلسطيني.
إن النقد الذاتي يبحث في الأخطاء التي ارتكبناها بحق أنفسنا، ومحاسبة أنفسنا على هذه الأخطاء التي ندفع ثمنها دماء، وكون من يسقطون شهداء، لا يعني التعامل مع الأرواح البشرية بخفة، ومحاسبة الذات يجب أن تكون علنية، حماس خاضت حرب مع السلطة الفلسطينية وطردتها من قطاع عزة، وقامت حرب طاحنة ودموية بين الطرفين للاستيلاء على السلطة، ويعود الطرفان كل مرة ويشغلوننا بكلام كاذب عن المصالحة، من دون أي مراجعة من قبل طرفي الصراع، مراجعة تقول للبشر / الضحايا، ما الذي جرى ومن مسؤول على الدم الذي سال في هذا الصراع؟! أما سياسة «صفحة وطويت»، فهي تُبقي كل عوامل الصراع الداخلي الدموي قائمة رغم السنوات التي مرت ، ما يجعل الصدام الدموي الداخلي، قابل للتجدد في أي وقت.
جلد الذات بوصفه تبريراً لسياسات إسرائيل وعدوانيتها، يجب التصدي له، وحتى في هذه الحالة، لا يُقبل تكميم الأفواه وقطع الألسن ومنعها من الكلام، إنما بالنقاش والجدل مع هذه الأصوات. إن ارتكاب الضحية أخطاء، لا يعطي الجلاد الحق بذبحها. لكن الضحية يمكن نقدها لسلوكها الخاطئ في مواجهتها للجلاد، بل هناك حاجة ضرورية وملحة اليوم للضحية الفلسطينية مراجعة تجربتها نقدياً.