لقد كنا شاهدين خلال الأيام الماضية، أيام مونديال قطر ٢٠٢٢، على فرح عربي جارف “يمتد كسرب حمام” من شرق المشرق العربي إلى غرب المغرب العربي، وأكثرامتدادًا من ذلك؛ فرح عربي وصل أوجه مع اجتياز المنتخب المغربي عتبة مباريات نصف النهائي؛ فرح عربي جرف الرجال والنساء، الكبار والصغار، العارفين بالقواعد التفصيلية للعبة كرة القدم وغير العارفين بها على حد سواء. هذا الفرح العربي الجارف يبث رسالة هامة مفادها التالي: رغم الانقسامات السياسية والأيديولوجية الطافية على السطح بين الدول العربية وداخلها، ورغم تنافر وقهر الحكام العرب الطافي على السطح أيضًا، هناك في العمق، وعلى المستوى الشعبي، وحدة مشاعر وتحيزات نابعة أساسًا من الهوية الثقافية العربية الإسلامية. تلك الهوية الثقافية المتجذرة في النفوس هي أيضًا الصخرة التي تنكسر عليها سهام الاستعلائيين في الغرب والخصوم من الإقليم ومن خارج الإقليم.

ولهذا الفرح الجارف الذي أعقب مباشرةً تخطي المنتخب المغربي عتبة مباريات نصف النهائي، وهو أول منتخب عربي يصعد إلى مثل هذه المرتبة، جغرافيته وديموغرافيته. فقد جرف العرب أينما وجدوا، في أقطار الوطن العربي وفي الدول التي هاجروا إليها طلبًا للرزق أو العلم أو هربًا من القمع أو القهر. كما وجرف أبناء وبنات الأقليات غير العربية في الأقطار العربية، وذلك إضافة إلى كثيرين من الأفارقة والمسلمين غير العرب. وحتى اليهود في إسرائيل من أصول مغربية أصيبوا بعدوى هذا الفرح الجارف. وفي هذا الصدد، يجب أن لا يغيب عن الأذهان أن المنتخب المغربي ذاته كان خليطًا من مغربيين مقيمين في مملكة المغرب ومغربيين مقيمين في دول أوروبا الغربية، أساسًا فرنسا وبلجيكا وهولندة، ولا يتكلم بعضهم اللغة العربية. لكن حبهم لوطنهم الأم المغرب وانتمائهم إلى الثقافة العربية الإسلامية لم يكونا موضع شك أو سؤال.

ولهذا الفرح الجارف، وهذا هو الأهم هنا، هويته الثقافية الواضحة والمميزة أيضًا: هوية ثقافية عربية إسلامية، عريقة وجامعة، تقول أنها قادرة على الرد على التحدي وقادرة على الإنجاز والفوز. فروعة الإعداد والتنظيم والاستضافة من قبل دولة عربية من جهة، وروعة الأداء الكروي من قبل منتخبات عربية، على رأسها المنتخب المغربي من جهة ثانية، فجرتا هذا الجرف من مشاعر الفرح المقترن بالزهو والفخر. فلو كان الإعداد أو التنظيم أو التنفيذ وسطيًا أو مترديًا، ولو كان الأداء الرياضي للفرق العربية قاصرًا، لما كنا شاهدين على هذا الفرح الجارف. وهناك، بالطبع، دور لا يستهان به، ولا يجوز إنكاره، لكل من وسائل التغطية الإعلامية المباشرة كما لوسائل التواصل الاجتماعي في كل ذلك.

مفهومان للعروبة:

هناك، في اعتقادي، مفهومان واضحان ومميزان للعروبة، واحد إجتماعي/ثقافي والثاني سياسي/قومي. وينطبق كل من المفهومين تبعًا لذلك على جملة أو سلة من القضايا. فإذا كان المفهوم الثاني للعروبة ينطبق على تلك القضايا ذات العلاقة بالهوية الثقافية العربية الإسلامية، فإن المفهوم الأول ينطبق على تلك القضايا ذات العلاقة بالمشروع القومي العربي، والوحدة العربية هدفه النهائي المشتهى. وهناك، بالطبع، قضايا كثيرة تنضوي تحت كلا المفهومين في ذات الوقت. ولكن التطابق التام بين سلتي القضايا ليس حاصلًا، خاصةً وأن هناك بعض القضايا التي تنضوي تحت مفهوم العروبة الثاني حصريًا.

العروبة الاجتماعية/الثقافية: وتنضوي تحتها تلك القضايا أو العناصر، كلها أو بعضها، والتي في اختلاطها وتفاعلها تصون وتغذي الهوية الثقافية المشتركة، مثل اللغة والتاريخ والفنون والعلوم والدين والتقاليد والبنيان والمكان/الفضاء/الوطن. تلك القضايا أو العناصر، في اختلاطها وتفاعلها عبر حقبة زمنية طويلة، تميز الثقافة العربية الإسلامية عن غيرها من الثقافات، السابقة واللاحقة على حد سواء. كما أن التحديات التي واجهت وما زالت تواجه تلك الثقافة والردود عليها تزيد من تسميكها وصلابة عودها. وكما نعرف، فقد واجهدت الثقافة العربية الإسلامية تحديات هائلة عبر الزمن، بدءًا من الحملات الصليبية ووصولًا إلى حقبة الاستعمار ولاحقًا. جدير ذكره في هذا الصدد أن المسيحيين في المشرق العربي شركاء في هذه الثقافة المميزة، ومثلهم المسلمون غير العرب في مختلف أقطار الوطن العربي، ومثلهم أيضًا من هاجروا من الأقطار العربية إلى قارات أوروبا والامريكتين وأستراليا. وهناك من اليهود الشرقيين في إسرائيل من يرون أنفسهم شركاء في الثقافة العربية الإسلامية أيضًا. وكما ندرك جيدًا، لابناء وبنات الثقافة العربية الإسلامية تحيزات إجتماعية وفكرية وعاطفية غير خافية لصالح الشركاء في تلك الثقافة ولغير صالح الخصوم أو الغزاة أو الاستعلائيين ثقافيًا، قديمًا وحديثًا.

العروبة السياسة/القومية: وتنضوي تحتها مختلف القضايا أو العناصر التي في اجتماعها وتفاعلها تدفع إلى الأمام، أو تعيق تقدم، المشروع السياسي/القومي العربي، علمًا بأن الهدف النهائي المشتهى لهذا المشروع هو الوحدة العربية الشاملة. وهذه القضايا تشمل، إضافة إلى الهوية الثقافية وعناصرها، أمورًا ذات علاقة بانظمة الحكم ومدى توافقها أو تنافرها، ومصالح الدول العربية المختلفة ومدى تلاقيها أو تباعدها، فقر تلك الدول أو غناها، صراعاتها الإثنية الداخلية، واستقلالها عن النفوذ الأجنبي أو خضوعها القسري أو الطوعي لإرادته. وكذلك مدى شدة أو تراخي التزام نخبها السياسية والثقافية والاقتصادية بالتضامن والتكامل والاتحاد. وقد علمتنا التجربة المرة بأن الوحدة العربية، درة تاج المشروع السياسي/القومي العربي، ما زالت حلمًا بعيد المنال رغم الحماس الشعبي لها والمناداة بها. وإذا كانت الهوية الثقافية العربية الإسلامية شرطًا ضروريًا لتحقيق المشروع السياسي/القومي العربي، فإنها بالتأكيد ليست شرطًا كافيًا. فهناك شروط هازمة كثيرة.

وللإجمال، وعلى ضوء ما ورد أعلاه، أقول التالي حول الفرح العربي الكبير، والذي كنا شاهدين عليه ومشاركين فيه، وحول علاقته بكل من أداء دولة قطر وأداء المنتخب المغربي، “أسود الأطلس”، وبالثقافة العربية الإسلامية عمومًا:

أولًا، هذا الفرح العربي الكبير والممزوج بالفخر والزهو، والذي جرف الوطن العربي من شرق مشرقه إلى غرب مغربه، مرده عاملان رئيسان هما: أداء دولة قطر في مجالات الإعداد والتنظيم والتنفيذ والإتاحة، والأداء الكروي للمنتخبات اللعربية، وعلى رأسها المنتخب المغربي، المنتخب العربي الأول الذي اجتاز العتبة لمباريات نصف النهائي. وفي كلتا الحالتين كان الرد العربي على مستوى التحدي وأكثر.

ثانيًا، هذا الفرح الكبير ذو علاقة واضحة وحميمة بالهوية الثقافية العربية الإسلامية. ومن هنا، فليس صدفة ان يصاب بعدواه بنات وأبناء هذه الهوية الثقافية، عربًا وغير عرب، مسلمين وغير مسلمين، كبارًا وصغارًا. وكان فرح النساء في هذه “اللعبة الرجالية” لافتًا (أقل ما يقال). أمًا علاقته بالمشروع السياسي/ القومي العربي فكانت، في اعتقادي، أقل وضوحًا وأقل التصاقًا.

ثالثا، هذا الفرح العربي الكبير، الناتج عن روعة أداء دولة قطر وروعة أداء المنتخب المغربي خصوصًا، منفصل، في رأيي، عن المواقف المتباينة من الحكام في كل من دولة قطر والمملكة المغربية. فالفرح الكبير كان شعبيًا في جوهره، وشارك فيه من كان من مؤيدي الحكام أو الناقدين لهم للأسباب المختلفة.

وأخيرًا، لقد كان حضور فلسطين في المونديال طاغيًا، علمًا وكوفية وهتافات وقضية وطنية. وبدوره كان فرح الفلسطينيين بأداء دولة قطر وبأداء المنتخب المغربي، ومن قبله المنتخب التونسي، كبيرًا. كيف لا، وفلسطين تسكن الوجدان العربي تمامًا مثلما سكن أسود الأطلس قلوب النساء والرجال في الوطن العربي من شرق مشرقه إلى غرب مغربه وأبعد؟!

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *