الـمـراجـعـة


قبل الحرب قد يتولد سوء تقدير لميزان القوى – حماس ومعسكر المقاومة والممانعة – وسوء تقدير لرد الفعل الإسرائيلي والأميركي، وسوء تقدير للتفاعل والاستجابة العربية الرسمية والشعبية مع الحرب.
وبعد 15 شهراً من الحرب، وتحديداً بعد اختبار مواقف واستجابات كافة الأطراف، فإن التثبيت على سوء التقدير السابق وتقديم قراءة انتقائية وجزئية لنتائج الحرب لا يمكن تصديقه إلا إذا وضع الشخص المستمع والمراقب عقله جانباً وكف عن استخدامه.
من المؤسف جداً أنه لا يوجد أي مستوى من مراجعة الذات في المستوى السياسي والمستوى الثقافي الأكاديمي الإعلامي والمجتمعي باستثناءات قليلة معظمها من داخل قطاع غزة، لكن أثر المراجعة والنقد العملي بقي ضئيلاً ومنفصلاً عن القرار.
تقييم نتائج الحرب لا ينفصل عن مرحلة ما بعد الحرب. تتفق التقييمات العقلانية والواقعية لنتائج الحرب بأن نكبة أشد من نكبة 48 حلت بالشعب الفلسطيني في قطاع غزة وفي الضفة الغربية بمستوى أقل، بعد أن شنت دولة الاحتلال حرب إبادة وتصفية وكان حصادها مريراً لجهة الخسائر البشرية التي فاقت معظم الخسائر في حروب المنطقة منسوباً لعدد السكان.
ولجهة تحويل قطاع غزة إلى مكان غير قابل لحياة 2.3 مليون شخص، فضلاً عن تحكم دولة الاحتلال في عملية إعادة البناء والإعمار بكل مستوياتها وبخاصة إعادة البنية التحتية أو ترميمها واستخدام هذا العنوان في فرض شروط أمنية وسياسية.
الأخطر من ذلك هو نتيجة الحرب السياسية المتمثلة في استبعاد إسرائيل لإمكانية الحل السياسي الذي يُنهي الاحتلال ويُمكن الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره، ونجاحها في كبح كل مسعى دولي وعربي لإنهاء الاحتلال.
صحيح أن شطب الحل السياسي للصراع ليس جديداً على حكومة نتنياهو، الجديد هو توحد إسرائيل بكل معسكراتها السياسية ومجتمعها ومؤسساتها على رفض أي حل سياسي يلبي الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.
حدث ذلك على خلفية الاعتقاد والشعور الجمعي الإسرائيلي بأن الشعب الفلسطيني برمته ومعه القوى السياسية بكل ألوانها بات يشكل خطراً وجودياً على إسرائيل.
وجاء مشروع تهجير قطاع غزة إلى مصر والأردن الذي قدمه ترامب كأخطر حلقات الحرب وأسوأ نتائجها.
من لا يرى هذه النتيجة السياسية للحرب، ومن لا يقيِّم الحرب على أساس نتائجها وأهدافها السياسية القائمة والمحتملة ينطبق عليه قول امرئ القيس: رضيت من الغنيمة بالإياب.
بعد استبعاد هدف هزيمة إسرائيل الخيالي النابع من الأيديولوجيا الدينية، والانتقال إلى قراءة الأهداف العقلانية التي رغبت حماس في تحقيقها من طوفان الأقصى الذي جاء بصيغة إعلان حرب شاملة على إسرائيل وهي: وضع القضية الفلسطينية على الأجندة الإسرائيلية والدولية وجعل حل الدولة الفلسطينية إجرائياً وممكناً، وقف الاستباحة الإسرائيلية للمسجد الأقصى، ووقف التوسع الاستيطاني وعربدة المستوطنين، وتبييض السجون من المعتقلين، ووقف مسيرة التطبيع العربي مع إسرائيل.
ماذا تحقق من ذلك ؟ نعم وُضعت القضية الفلسطينية على الأجندات الدولية والإقليمية، بفعل حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل رداً على الطوفان والتي حولت إسرائيل إلى دولة منبوذة شعبياً ولدى دول كثيرة، فقد أصبح المسؤولون والجنرالات والجنود مطلوبين للعدالة ويخشون السفر إلى أكثرية دول العالم، ونشط نظام مقاطعة إسرائيل في أميركا وأوروبا.
غير أن دولة الاحتلال مُنحت حق الدفاع عن نفسها حتى وهي تمارس حرب الإبادة وتدفقت عليها المساعدات العسكرية والمالية من كل حدب وصوب.
ولم يتمكن النظام الدولي من وقف حرب الإبادة، بما في ذلك تأمين الحد الأدنى من الغذاء والدواء والعلاج للسواد الأعظم من المنكوبين.
ونجحت إسرائيل في منع التفاعل الدولي والإقليمي مع حل سياسي يُنهي الاحتلال بذريعة أنه يشكل «مكافأة للإرهاب».
وكان التجسيد العملي لكبح الحل هو استمرار إسرائيل في فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية وفي منع السلطة من الاضطلاع بأي أدوار.
نجحت حماس في تبادل أسرى وبخاصة من أصحاب الأحكام العالية وهذا إنجاز لكنه بثمن باهظ جداً، وما عدا ذلك لم تحقق المقاومة الأهداف الأخرى.
بالعكس بدأ المستوطنون بترجمة مستوى من التطهير العرقي في أكثر من 20 موقعاً في الأغوار ومسافر يطا والقدس، وأضيفت آلاف الوحدات السكنية للمستوطنات.
مقابل ذلك خسرت دولة الاحتلال اقتصادياً وبشرياً لكن خسائرها لا تقارن مع الخسائر الفلسطينية غير المسبوقة، بقيت حماس كتنظيم وإدارة وسيطرة داخلية على قطاع غزة، وفرضت مستوى من الشروط في صفقة الأسرى، في الوقت الذي فقدت فيه قدراتها العسكرية وجزءا مهماً من قيادتها.
في ظل ميزان القوى المختل لم يكن من المتوقع تحقيق إنجازات ومكاسب، لاسيما أن سلطة الاحتلال حمّلت كل إنجاز أثماناً ضخمة يصعب قبولها مقارنة بسلامة المجتمع ومقومات بقائه على الأرض.
عند التدقيق في صفقة الرهائن في مراحلها الثلاث، إذا ما طبِّقت، أو في حالة استئناف الحرب، يصعب تحسين أو فرض شروط إضافية من قبل حماس، أو تفادي شروط آلة حرب متحررة من كل قيد وقانون واتفاقية وتتحكم في كل شيء.
هذه النتيجة الكارثية كان يمكن تفاديها نسبياً، أو التقليل من آثارها على المجتمع.
مثلاً في الأشهر الأولى لو بادرت المقاومة إلى إنهاء الحرب وسلمت بالشروط التي وافقت عليها الآن والتي ستوافق عليها في الفترة القادمة، لكانت النتيجة أفضل، فسيكون التدمير أقل والخسائر البشرية أقل بما في ذلك خسائر المقاتلين.
إن مجرد طرح فكرة من هذا النوع ستعني الدعوة إلى الاستسلام. وكان من نتائج انعدام التفاعل والجدل وطرح الأفكار تكرار الخطأ في الضفة الغربية التي تتعرض مخيماتها للتدمير وسكانها للتهجير وشبابها للقتل والاعتقال والتشريد، بفعل الحث المستمر على مجابهة الاحتلال ويتكرر سوء التقدير في قطاع غزة المدمر، من خلال استعراض حركة حماس لسيطرتها العسكرية والإدارية على قطاع غزة ورفضها بدائل قد تخفف من معاناة وآلام المواطنين.
عندما يكون هدف حماس البقاء في الحكم بأي ثمن، فإن ذلك قد يكلفها أثماناً كبيرة، ويكلف المجتمع أثماناً أشد.
ولا شك في أن انحياز حماس لمصالح مجتمعها هو الطريق الأقصر لاستعادة ثقته بها بعد تورطها في حرب جلبت نكبة جديدة.
تستطيع حماس البقاء في الحكم، وتستطيع منع أو إفشال كل بدائل حكمها، لكنها ستخسر حتماً ثقة مواطنيها وستنفصل مصالحها عن مصالحه، وستخسر فلسطين.
عن الأيام